الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المانيا من الشوفينية الى التَحَدُّث باللغة الأجنبية !

سامي العامري

2007 / 5 / 8
العولمة وتطورات العالم المعاصر



العنوان هنا فيه مبالغةٌ طبعاً ولكنْ فعلاً الفارقُ هائلٌ بين المانيا في أربعينيات القرن الماضي وبين المانيا اليوم , رغم أني في بدايةِ وجودي هنا في المانيا عشتُ عامين ذقتُ خلالهما الأمَرَّين وأكثر !

القضية باختصارٍ كانتْ عنصريةً ولكن من نوعٍ آخر , فلا هي بسبب كوني أجنبياً ولا لأنَّ الألماني يكره الأجنبي !

سأُبيِّن هنا شيئاً من ملامحها

فعندما وصلنا برلين الغربية سابقاً عام 1986 نحنُ كمجموعةٍ من العراقيين قادمين من طهران عِبر دمشق وبعد إقامة قصيرة في مركز توزيع اللاجئين وسط مدينة نورنبيرغ قاموا بفرزنا ثمَّ نقلنا الى قريةٍ صغيرة تقع على حدود النمسا , تُدعى فِلْ هوفن , كنّا نحو ثلاثين شخصاً من جنسياتٍ مختلفة وجميعنا من الرجال وهذه النقطة جزءٌ أساسيٌّ من الكارثةِ !

إنَّ هذا الفرزَ العشوائيَّ وربما المقصود سيسبِّبُ لنا لاحقاً مشاكل جمّة كلَّما أحاول أن أتناولها بطريقة شِعرية أفشلُ فأحنق على نفسي وهذا السبب في أنني أتلفتُ جميع كتاباتي السابقة عن هذه الفترة إلاَّ نصٌّ واحدٌ طويل ما أزال مُترَدِّداً في نشره لأنَّ بعض عباراتهِ متشنِّجة ولكن ما العمل ؟ فهي حقيقة رغم أنَّ الحكمة المأثورة تطلُّ عليَّ أحياناً هاتفةً : ما كلُّ ما يُعرَف يُقال ,

قد ألجأُ الى نشرهِ بعد حذف العديد من مقاطعهِ , وقد احتجتُ الى عدةِ سنواتٍ لكي أفهمَ ملابساتِ هذين العامين وطبيعةَ ظروفهما والآن وقد استطعتُ تحليل ذلك الماضي بكثير من الصفاء الذهني أكتشفتُ أنَّ الصُدفةَ لعبتْ دوراً كبيراً في هذه القضية ولعلَّ حقيقةَ أنني آتٍ من بلدٍ لم تبخلْ عليَّ ذئابُهُ البعثية بالسجن والضرب والإهانات في الحرب والسلم !

هي ما جعلني أهوِّن من الآثار النفسية التي تركَتْها قريةُ فلس هوفن في تلك الفترة او أتخطّاها بأقلِّ الخسائر الممكنة !

وبعد منحي اللجوء وإنتقالي الى مدينة هامبورغ أدركتُ أنَّ المانيا هي ليست تلك القرية الصغيرة البائسة فبدأتْ همومي تأخذ بُعداً إنسانياً !

في كلِّ المقاطعات والمدن الألمانية الكبيرة يلحظ المرء وجود أحياء خاصة بالأجانب غالباً ما يتكلَّم سُكَّانُها لغة بلادهم ويحملون تقاليد بلادهم خاصةً القُدامى منهم كالأتراك والإيطاليين واليونانيين ولكن بعد انهيار الإتحاد السوفيتي السابق أخذتْ هذه الظاهرةُ تترسَّخ وتطرح على بعض الألمان أسئلةً منها الموضوعي ومنها العجول وقد جَرتْ آخرُ موجةٍ من موجات معاداةِ الأجنبي في عهد هلموت كول ولكنْ بعد خطابهِ المؤثِّر المعروف والموجَّه الى الشعب الألماني انطفأتْ تلك الموجات التي جوبِهَتْ أيضاً بحملةٍ إعلامية وتظاهرات معاكِسة كبيرة وهي تُنَدِّد بجماعة مرفوضةٍ إجتماعيَّاً تُسمَّى بالنازيين الجُدُد وأتَذكَّر أنَّ كول قال في خطابهِ من بين ما قال – حيث ضربَ على الوتر الحسّاس - : اذا خرجَ الأجانبُ من المانيا فإنَّ الإقتصاد الألمانيَّ سينهار .

وإذا تركنا الجانبَ الإقتصاديّ لبرهةٍ نرى الألمانيين كثيراً ما يُفضّلون السفر وتمضيةَ الإجازات السنوية في أحد البلدان الآسيوية او البلدان العربية في أفريقيا الشمالية وهذه تجربتي معهم إذْ ما أنْ يأتي السؤال عن بلدك وتكون انت مع أحدهم في منزلهِ حتى يُسارع لإخراج ألبوم صُوَرهِ ليُريكَ بفرحٍ كم عدد البلدان التي زارها ومع مَن التقى في هذا البلد الآسيوي او ذاك البلد الشمال أفريقي و و ... الخ من الذكريات .

أردتُ من خلال كلامي هذا أنْ أُعيدَ توكيدَ حقيقةِ أنَّ الشعوب بقدر ما تنفتح على بعضها بقدر ما تضمحلُّ مظاهرُ التعصُّب وتسود لغةُ التفاهم والمحبةِ , واذا تحدَّثنا عن المانيا وكيف تبدو في أعينِ العالم فهنا بعض الإنطباعات والأفكار أحببتُ أنْ أسجِّلَها مُستَنِداً الى مُعايشتي ومشاهداتي وقراءاتي فأقول إنَّ المانيا هي البلد الذي اذا ذُكِر ذُكِرَتْ معهُ الفلسفةُ والموسيقى كرديفٍ مُلازمٍ , وهذا الرديف هو من السطوع بحيث يكاد أنْ يُغطّي على كلِّ ما سواهُ حتى أنَّ جرائم النازيين على فظاعتها ووحشيتها ورغم إستمرار تفاعل أحداث تلك المرحلة بشكلٍ ما بحُكم قربِها الزمني من بدايات هذا القرن الجديد , لم تُزَعزِعْ في كيان الكثير من البشَر تلك المكانة اللائقة من الإعجاب والإحترام لهذا البلد ودورِهِ الإنساني فكراً وجمالاً ,

والألمانيون الذين أعيش بينهم منذ أكثر من عشرين عاماً لم يتركوا أبداً جرائم هتلر تَمُرُّ سدىً بل هُم وبدافعٍ من تاريخهم القَلِقِ الحيِّ جعلوا من البشاعة هذه وباستماتةٍ عجيبةٍ

مُنطلَقاً وأساساً للجمال ومنهُ مثلاً مقدرتُهم المُلْفِتةُ على تحويل مشاعرِ الذنب التي استولتْ على أجيالهم بعد الحرب العالمية الثانية الى مشاعرَ خلاّقةٍ حيث أنَّ ما كان قمةً في العنصرية والشوفينية في ماضيهم القريب تمكَّنوا من مواجَهتِهِ بأناةٍ وصبرٍ ومِن ثُمَّ تهذيبهِ لا نكرانهِ كما يفعل العرب في تبرير أخطائهم وخطاياهم , قلتُ : تهذيبهِ وأَكاد أنْ أقول : تفجيرهِ ِلأنهم جعلوا منهُ ما يُشبهُ عنصر استفزازٍ لطاقاتهم المعرفية والأخلاقية ومن هنا كان حرصهُم الشديد في التركيز على طبيعة المناهج التعليمية ولا تستطيع إلاّ الأُمَمُ الحيَّة أن تحوِّل الكابوس الى حلمٍ جميل في خيال أبنائها فباتَ ما هو عنصريٌّ في السابق يتبلور الى ما هو وطنيٌّ فلا تعود مشاعر القرف من الذات ومن الأمس مُعَطِّلَةً للطاقات وروح المُبادرة والتي هي بدورها لن تكون بدون أملٍ , والفرد الألماني اليوم وطنيٌّ يعتزُّ أيَّما إعتزازٍ بوطنهِ والمُشرِقِ من تأريخهِ ويحسُّ بالسعادة كثيراً حينما يسمعُ على سبيل المثال عباراتِ ثناءٍ لبلدِهِ من قِبَل شخصٍ أجنبيٍّ وهذا ما عنيتهُ بكلامي السريع عن الأُمم الحية فهتلر الذي أراد بغباءٍ إثباتَ تفوّق بلده او جنسهِ عن طريق إشاعة الخراب يجيبُهُ الالماني اليوم بتحويل هذه النزعةِ الضيقة والساذجة الى نزعةٍ معرفية إنسانية سلمية إذْ تراهُ يطمح الى جعل وطنهِ مركزاً لها وهذا طبعاً طُموحٌ نبيلٌ ومشروعٌ حتى أنني كثيراً ما سمعتُ من الألمان الذين وُلِدوا مباشرةً بعد الحرب العالمية الثانية وبسببٍ من مشاعر الحَرَج وغير قليلٍ من مشاعر الخجل ! وكَمَنْ يتعلَّقُ بقشَّةٍ خوفاً من غرقٍ وشيكٍ يقولون : إنَّ هتلر كان نمساوياً وليس المانياً !

وطبعاً انا أفهم هذه الأحاسيس وأقدُّر جانبها النفسيَّ فالحديثُ حَولها ما زالَ يؤلمُ الكثيرَ منهم وهذه عندي هي الثقافة بمدلولاتها العميقة , أي التربية النفسية حيث الإنسان هنا نسيجٌ رقيقٌ شديد التأثُّر والإستجابة , نازعٌ الى الخلاص من الرثاء لنفسهِ بسببِ ماضيهِ التعس القريب وآملٌ بعزاءٍ يجسِّدهُ صمتُ الآخر !

والألمان ليسوا كالأمريكان واليابانيين مثلا فتأريخهم الضاربُ في القِدَم تَلَوَّنَ عِبْرَ مراحل تطوُّرِهِ بِهَمٍّ آخرَ لصيقٍ بثقافتهم حَدَّ الجنون الجميل وهو الموسيقى

لدرجةِ أنَّ بيتهوفن يؤلِّفُ واحدةً من أجمل سمفونياتِهِ وهو أطرش !

وكلُّ هذهِ روادعُ لذا فالمانيا في رأيي لا يمكن أن تسيطر على العالم عملياً كأمريكا اليوم مثلاً فالبَون واسعٌ ولا يمكن لألمانيا أن تغزو العالم كاليابان اليوم بالمُنتَجات الإلكترونية فقط فالبون هنا واسعٌ أيضاً وهذا التناغم بين ما هو علميٌّ خالصٌ وثقافيٌّ فنيٌّ خالصٌ مع ذلك لا يجعلُ المانيا بالضرورة جنَّةً على الأرض ولكنَّ الحقائق تشير الى أنَّها من أكثر البلدان استقراراً إقتصاديَّاً واجتماعيَّاً وفي الوقتِ الذي نرى فيهِ العراق مثلاً تُبعثرُهُ التناحرات الطائفية والعِرقية والدينية وهم أبناء وطنٍ واحد وتأريخٍ واحد ومصيرٍ واحد نرى المانيا يعيش فيها منذ عشرات السنين ملايين الأجانب ومن شتى القوميّات والجنسيات والأديان والألوان وإذا اختلفوا مع الألمان في أمرٍ ما وهذا طبيعيٌّ فالطرفان لا يختلفان أبداً على ضرورة العيش بسلامٍ فهناك تفاعلٌ وأخذٌ وعطاءٌ

فالمانيا تزداد ثقافتها ثراء باحتكاكها المباشر مع الثقافات المتنوِّعة داخل أرضها , وإقتصادُها من جهةٍ أخرى يزداد متانةً وازدهاراً بوجود الايدي العاملة الأجنبية ومهاراتها المُتَحَصِّلةِ من طول فترة عملها في هذا الميدان او ذاك , وكلُّ هذا ينعكس دون شكٍّ على الأجنبي إيجابياً بما يكسبهُ من معارف مهمة وخبرات في بلدٍ متَقدِّم من جانب ومن مالٍ وضماناتٍ وغيرها من جانب آخر .

وأردتُ من خلال كلامي هذا أيضاً أن أطرحَ سؤالاً عن دور الموسيقى الراقية في تهذيب الغرائز وتذكير الإنسان بينابيعهِ السامية الخفية حيث يزول أمامها كلُّ ما هو عَرَضيٌّ وطاريءٌ كالأنانية والعنصرية والطائفية والأحقاد غير المفهومة ,

ومَرّة أخرى مع بيتهوفن , أتذكَّر أنني كنتُ في العشرين من العمر حينما قرأتُ مقولةً لهُ في أحد الكُتُب : إنَّ مَن يفهم موسيقاي لا تُعَذِّبهُ مصاعبُ الحياة اليومية .

أعتقد أننا نكرهُ وننافق ونكذب ونقتل لأنَّ أرواحنا لم تتشبَّعْ كثيراً بالموسيقى !

وبما أني لا أحبُّ التصنيفات التي تجعل الفن درجاتٍ فتقول عن الموسيقى بأنها أسمى الفنون أرى أحياناً مع ذلك أنها فنٌّ ربّما يحتاج من المستمع الى ذائقةٍ قد تمثَّلتْ فنوناً قبلهُ وأحياناً أقول لا , الموسيقى تُفهَم بالسليقة وفي كلِّ الأحوال للأنغام الجميلة فعلُها الحيُّ في النفس ولها فيضٌ دافقٌ يشيع السرور .

وأمّا عن الفلسفة الألمانية وقد أشرتُ اليها في البداية فانا قرأتُ ما استطعتُ منها بدءاً من هيجل الى كانت الى هايديجر وغيرهم ولكني ولأسبابٍ مزاجية لم أتفاعلْ بشكلٍ عميقٍ إلاّ مع نيتشه لأنهُ ببساطةٍ لم يكنْ فيلسوفاً كبيراً فقط وإنما شاعرٌ كبيرٌ كذلك وعاشقٌ مجنونٌ للموسيقى فأضفى لوناً خاصّاً على الفلسفة وجعَلَها مُحبَّبَةً كثيراً خصوصاً باستعارته لغةَ الإنجيل إذْ انهُ كثيراً ما يبدأُ أفكارَهُ بلغة الواثق من نفسهِ ومن أفكاره : الحقَّ أقولُ لكم !

وهي اللازمة التي استعارها جبران خليل فيما بعد أيضاً في رَدِّهِ على ( هكذا تكلَّم زرادشت ) رغم أنَّ جبران لدرجة إعجابهِ بهذا الكتاب قال عنهُ بأنهُ أعظمُ ما عرَفَتْهُ كلُّ العصور !

اذا غلبَ على هذا الفصل – المقال الجانبُ المُشِعُّ من حياة هذا البلد والحياة فيه فقد حصلَ هذا بشكلٍ عفويٍّ ستزدادُ صورتُها وضوحاً عند حديثي عن جوانبها الأُخرى , عن حياةٍ ذات مستوياتٍ متفاوتة ومتمَوِّجة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحداث قيصري-.. أزمة داخلية ومؤامرة خارجية؟ | المسائية-


.. السودانيون بحاجة ماسة للمساعدات بأنواعها المختلفة




.. كأس أمم أوروبا: تركيا وهولندا إلى ربع النهائي بعد فوزهما على


.. نيويورك تايمز: جنرالات في إسرائيل يريدون وقف إطلاق النار في




.. البحرين - إيران: تقارب أم كسر مؤقت للقطيعة؟ • فرانس 24 / FRA