الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


علي الصحراء

محمد البوزيدي

2007 / 5 / 18
الادب والفن



تشرق الشمس رويدا رويدا، تخترق الأكوان ، تسافر كما اعتادت منذ زمان غابر في حلقة شبه مفرغة لا تنتهي، تغير وتعود للغارة كل يوم جديد ، تقتحم أشعتها عنوة الخيمة البسيطة المنسوجة من وبر الإبل والمنتصبة بإحكام في الرمال الغزيرة .
ومع كل صباح، يعيد الزمن عقاربه العادية ولحظاته المتكررة.
و كالمعتاد، يوما بعد يوم يستيقظ علي دون إدراك جيد للتوقيت ، يفرك عينيه قليلا ليتيقن أنها اللحظة المناسبة لبدء عمل يوم جديد.....قديم ..
يتجه صوب البرميل ليغسل وجهه بماء يحتفظ به منذ ثلاثة أيام..فهنا لا آبار ولا صنابير ولا..ولا.....
الجمال ما تزال راكدة تستنشق هواء الصباح ، والخراف شرعت في الصياح ، والنعاج ترضع صغارها بكل هدوء .
يخرج الشاب علي أحد الأواني التي تراكمت عليها الأوساخ ، لكنها مازالت صالحة للاستعمال رغم الصدأ الذي يعلوها و يحيط بها من كل جانب ، لكنها أصبحت عادية جدا في فضاء تنعدم فيه المطهرات ووسائل النظافة الحديثة ، فهو لا يكلف نفسه غسل الأواني بالصابون المنعدم هنا ، بل بالتراب تيمنا بقولة حدثه بها صاحب القطيع أن الرسول صلى الله عليه وسلم حظ على غسل الأواني بالتراب .....
بعد عشرين دقيقة تكون وجبة الفطور قد انتهت ،إنها عجين مطهي في حرارة الرمال الناتجة عن إشعال الحطب ، لقد ألف ذلك، وعلى خلاف ما قد يبدو فلا تعلق حبة رمل واحدة على العجين الطري .. يضيف له زبدة متبقية من معالجة حليب النياق الذي يحلبه كل صباح ..لتكون وجبة جاهزة مليئة بالدهنيات فقط ...لكنها كفيلة بمواصلة حياته العضوية .
في هذا الفضاء تتسع أحلام علي للاشيء، فلا فضاءات أخرى غير صياح الحيوانات الأليفة والسكون الذي يخترقه من صوت المزمار الذي صنعه من القصب حيث يغني أغاني مازال يحفظها منذ ثلاث سنوات خلت ....
.يجاهد الزمن ليحافظ على لغته الخاصة، فهنا بهذا المنفى لا كلام ولا صداع ولا صراع غلا الصراع مع الذات الكئيبة ، ولا ضجيج، بل لا أصوات إلا صوت الجمال والشياه ...
أحيانا حين يصدر صوت جديد يدرك جيدا أنه لحشرة ما أو حيوان آخر يقترب من القطيع ، يتدخل عميد الجمال لطرده وإرجاع السكينة لرفاق الزمن الهارب .
في هذه الصحاري القاحلة، الكآبة رفيقة علي الوحيدة، والصمت هدوء خاص له، لكنه بذوق السجن .
بين الفينة والأخرى قد تجنح أحد الخراف إلى مكان بعيد، لكنه لا يبذل أي مجهود لإرجاعه فتواصل القطيع منتظم تلقائيا باستمرار كما وكيفا، والأفق والمكان شاسع شساعة آلامه الواسعة.
في الزوال ينتحي جانب إحدى الشجيرات لاستعارة ظل يحميه حرارة شمس قوية خاصة بعد الوصول إلى منتصف الرحلة في البئر الذي يشرب منه القطيع ..ويملأ منه *قرابه * الصغيرة.

ينام قليلا.... لإعدام الفراغ القاتل الذي يخترقه ، حينها يسترجع أحلام الطفولة الغائبة خطأ، وآمال الشباب المعدومة...قسرا ...وحين يسبح وسط الذكريات خلسة يصيح الخروف المشاكس بقوة إيذانا بانتهاء فترة القيلولة ، وتحذيرا أن كل تأخر سيدفع القطيع وعلي ثمنه بالتيهان في رحلة العودة مساء ..خاصة أن ظلام الليل لا يكنسه سوى ضوء الصباح ..فلا كهرباء ولا قنديل ولا بطاريات الإضاءة..ولا..ولا..إلا ضوء القمر الذي قد يهب فجأة ليمنح ظلا ليليا لكل من يتحرك خطأ بالليل .
في المساء وبعد رجوعه إلى الخيمة، وافتراشه الأسمال الهزيلة على الأرض، تبدو أضواء بعيدة ..تقترب رويدا رويدا ..حتى تتوقف أمامه سيارة صاحب القطيع..
يضع له دقيقا جديدا وزيتا وسكرا وخضرا..هذه هي مؤونته للأيام الأربعة القادمة أما اللحم والحليب فمن القطيع ......وإن كان يعز على علي ذبح *رفاقه *وندمائه الذين بدأ يفهم لغتهم الخاصة...
لقد أحضر صاحب القطيع شخصان معه، وبسرعة اتفقا على صفقة شراء جمال وأغنام تجاوزت أعمارها السنتين لتزويد السوق المحلية من اللحوم..
حين يهم بالمغادرة بعد حلول الظلام يطلب منه علي إجازة لزيارة أسرته وأبنائه ...
- أريد السفر ياسيدي، لقد اشتقت إلى زوجتي
- ومن سيرعى القطيع؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
- سأعود بعد أربعة أيام فقط
- ..............................
لن يجيبه السيد بل سيركب السيارة قائلا له موازاة مع إغلاق الباب
- إذا عرفت الطريق فاذهب، فمن يمنعك ؟؟؟؟؟؟؟
يغادر السيد المكان وهو يراقب حركات القطيع من بعيد بمنظاره الخاص الذي يتيح له تتبع كل الحركات من بعد 20 كيلومتر
يرجع علي للخيمة، وهو ينتحب بكاء على وضعه، يعيد الكلمات الأخيرة
إذا أردت الذهاب فاذهب ............
لكن إلى أين ؟ فبطاقته الوطنية وأجره لثلاث سنوات في ملك السيد وجغرافيا الفضاء غامضة جدا ،والمكان تيهان مضاعف ، ولن يدرك الشمال من الجنوب من جهة الطريق أو جهة الفيافي
يخشى الهلاك من شدة العطش إذا هرب ويواصل لعنة الحياة الرديئة
يواصل النحيب ، تنصت القطيع له ، فتقلده حتى صار الأمر سمفونية مسائية يومية لتراجيديا الحياة الأبدية ..........








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مخرجا فيلم -رفعت عينى للسما- المشارك في -كان- يكشفان كواليس


.. كلمة أخيرة - الزمالك كان في زنقة وربنا سترها مع جوميز.. النا




.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ


.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين




.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ