الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدولة المدنية : إطلالة تاريخية

محمد الخالدي

2007 / 5 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


ما الذي جعل المجتمعات الغربية تنحاز للخيار المدني في تنظيم أمورها و تحديد العلاقات التي تحكم أفرادها و مؤسساتها؟
هل هو الترف الفكري أم البحث عن الجديد؟ أم تراها الرغبة في مواجهة سلطة الدين على المجتمع ؟ أم أن المسالة أعمق من ذلك بكثير و أخطر؟
لم تكن لرجال الدين و الكنيسة سلطة فقط على أنظمة الحكم و مؤسسات المجتمع فقط، بل لقد كانت تمتد إلى تفاصيل حياة الناس و قلوبهم و نظرتهم لحاضرهم المعيش، و فهمهم لماضيهم الغابر و رؤيتهم لمستقبلهم الآتي، بل ولما ينتظرهم من ثواب و عقاب في حياتهم الأخرى.
لقد تحول وسطاء الله المفترضين إلى آلهة فعلية،تتحكم في أقدار الناس، كان المبرر هو أن يحكم الدين العالم و أن يقيم المؤمنون لربهم ملكوتا في حياتهم الدنيا حتى يسعدهم بملكوته الأبدي،و قدم رجال الدين أنفسهم ،بحكم ما يعتبرونه اطلاعا على الأسرار اللاهوتية واتصالا بعوالم الغيب الخفية ، كأوصياء على هذا الملكوت المفترض ، لكن وجد الناس أنفسهم بدلا من ذلك يقيمون ملكوتا لحكامهم و ظلامهم و مصاصي دمهم ، فحكمت السياسة الدين و أصبحت تخدم الأقوياء من ملوك و أمراء إقطاع و إكليروس، تتلبس بلبوس الدين و الإيمان لتضفي على ظلمها القداسة ، و تتخفى خلف الإحترام الواجب لله ، الذي أصبح احتراما واجبا لكل صاحب سلطة أو مال ،لتحكم على كل صاحب رأي مخالف بالحرمان من الرحمة و الخروج من دائرة الإيمان.
ماذا يمكن للإنسان أن يفعل عندما يتحول الظلم إلى مقدس ، و الإنسان إلى كائن وضيع مستباح ما لم تحمه طائفة أو طبقة سياسية أو اجتماعية نافذة.
صار الإنسان محتاجا لمباركة الكنيسة و رجالها في كل تفاصيل حياته ، و إلا اعتبر مارقا قد تلبسته روح خبيثة.
علينا ألا نستغرب من المشهد التي تظهرها بعض البرامج الوثائقية،التي تظهر عشرات بل مئات الروس يحرقون الكنائس و يخربون دور العبادة بعد ثورة البلاشفة ،لأن ما فعلته الكنيسة ورجالاتها أكبر من يوصف ، ولعل في راسبوتين النموذج الصادق لرجال الدين الذين خدموا الكنيسة والإقطاع ، والذي يبرز الوضاعة و القذارة التي وصلت إليها المؤسسة الدينية و رجالاتها.
إن رجالات الدين الذين جعلوا من الدين سيفا مسلطا على رقاب الناس و سوطا يسوقونهم به إلى حضرة الملوك والإقطاعيين ، ارتكبوا جريمة في حق الإنسان عندما سلبوا منه حريته و إرادته و كرامته، و ارتكبوا جريمة في حق الدين الذي يدعون خدمته ،عندما حولوه إلى جهاز قمعي كبير ،لا يمكن لأي انسان أن يقبله ، فلم يكن أمام شعوب بكاملها إلا الثورة ضده ، وتطلب منه في أقصى تسامح أن يبقى على هامش المجتمع للزينة و التراث.
لم يكن لهذه المجتمعات ،عبر طليعتها الفكرية من فلاسفة و شعراء و كتاب و رسامين و رواد إصلاح و ثوار سياسيين و اجتماعيين ،ولن ندخل في تفاصيل مدارسهم الفكرية أو الفنية ،إلا أن ترفض هذا القدر البشري المقيت الذي حجب عنها التمتع بالحياة الإنسانية الكريمة فرديا و جماعيا.
اختلف الرفض ، فهناك من رفض الأساس الديني برمته لما يمثله من سلاح إيديولوجي يقهر به الأقوياء الضعفاء ، و هناك من ناضل من أجل تحرير الفردي و ربطه بالله مباشرة بلا وسيط و لا وصي ولا صكوك غفران.
إن هذا الرفض وهذا النضال الذي استمر لقرون، هو الذي مهد لبروز الدولة المدنية كإطار سياسي و اجتماعي يحمي الإنسان من تسلط الكنيسة ، و يعطي للإنسان حريته العقائدية ، فمشروعيتها مستمدة من التعاقد الاجتماعي لأفرادها ،فلا يمكن لأي منظومة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أن تؤسس لمشروعيتها خارج الزمن و التاريخ ، ولا يمكن لها أن تدعي أي قداسة لأن الإنسان مبدعها.
إن الدولة المدنية التي قامت على أنقاض الدولة الدينية ،جاءت كرد فعل طبيعي ضد كل المظالم والجرائم التي ارتكبت في حق الإنسان فردا ومجتمعا، فلم يكن من الممكن لمجتمعات تتطور و تتوق للحرية و الإنعتاق أن تظل مرتهنة لطبقة رجال الدينية الخادمة الوفية للإقطاع .
الدولة المدنية هي الإطار السياسي و الاجتماعي الأكثر انسجاما مع إنسانية الإنسان و احترام حريته و كرامته وحرمته، وهي أيضا الإطار الأكثر تناغما مع التنظيم العقلاني و التدبير الرشيد لحياة الإنسان الفردية و المجتمعية بل و الكونية ، في إطارها يعيش الناس وفق ما يرونه حقا و عدلا و رشادا ، وحتى إن اختلفوا يبحثون عن أنجع الوسائل لتدبير خلافاتهم دون أن يدعي أي طرف القداسة لرأيه و وجهة نظره.
كل صاحب فكر يعيش وفق فكره ، وكل متبع دين يحيا تبعا لدينه و معتقده ، و كل معتقد في رسالة يبلغها الناس غير خائف على نفسه ، وكل مؤمن بربه يجسد إيمانه ويعبر عنه بالشكل الذي يراه صائبا و يرضي ربه عنه ،فمن كان مؤمنا فهو مؤمن بحق و يقين ، و كل من كان على غير دين فذلك اختياره ارتضاه لنفسه.
إن الدولة المدنية هي الإطار السياسي و الاجتماعي لمملكة الاختيار ، التي أدعي بعمق و يقين أنها الأقرب بحق لما يمكن أن يكون ملكوت الله الأرضي.
إنها الإطار السياسي الذي يقبل بكل المذاهب و الآراء فيحس كل إنسان بالأمن على نفسه و أهله و معتقده.
إن الذين ينتصرون للنموذج الشمولي دينيا كان أو غير ديني ، يتصورون أنفسهم أكثرية ،لكن لماذا لا يتصورون أنفسهم أقلية؟ خصوصا في عالم لا مكان للمجتمعات ذات الدين الواحد أو الثقافة الواحدة أو اللغة الواحدة.
إن على كل صاحب دين أن يتعلم من الدرس القاسي للمسيحية و تاريخها ،لأننا عندما نعطي للحاكم شرعية دينية لا نخدم الدين بل نسعى إلى خرابه ، لأننا نحوله بذلك إلى سيف و سوط و سجن.
إن ما خرب الأديان لم يكن تهميشها ولا مواجهتها،فلقد صمدت ضد كل أنواع الطمس والاقتلاع، بل إن ما خربها و أفسدها و حرف سبلها هو تحويلها إلى سلاح إيديولوجي بيد نظام سياسي أو طبقة اجتماعية .
وعلى كل صاحب فكر أن يتعلم من الدرس القاسي للنموذج السوفياتي،فالفكر عندما نقدسه و نجعله عقيدة للدولة و الناس نكون قد أنشانا دولة دينية ،إلا أن دينها من صنع حكامها،وبذلك نسعى بهذا الفكر حتما إلى حتفه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نارين بيوتي تتحدى جلال عمارة والجاي?زة 30 ا?لف درهم! ??????


.. غزة : هل تبددت آمال الهدنة ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الحرس الثوري الإيراني يكشف لـCNN عن الأسلحة التي استخدمت لضر


.. بايدن و كابوس الاحتجاجات الطلابية.. | #شيفرة




.. الحرب النووية.. سيناريو الدمار الشامل في 72 دقيقة! | #منصات