الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحكم أم الوطن؟

علي جرادات

2007 / 5 / 17
القضية الفلسطينية


اليوم (أمس) هو يوم الذكرى 59 للنكبة، وفي غزة "نكبتان": "النكبة" التي يعرفها كل فلسطيني، ونكبة العودةِ إلى ممارسةِ لعبةِ الدَّمِ الداخليةِ، وإمتهان الغطسِ فيها، علاوة على ما تقاسيهِ مِن تجويعٍ وحصارٍ وعزلٍ فاقَ كلَّ تصورٍ، وفي خارج قدرة البشر على التَحَمُّل يقع. إنها مفارقة مذهلة، يحتار المرء إزاءها عن أيِّ نكبةٍ مِن النكبتين يكتب، وبأيِّهِما ينشغل عقلاً وروحاً.
تتعاقب الأجيال، يزرعُ أولها ويقطف ثانيها ويواصل الزرع، ويصون ما وَرِثَ مِن حصادٍ. وهكذا دواليك هي سنِّة حياةِ الشعوبِ وبني البشر.
وفي فلسطين، ومنذ "النكبة"، بل قبل وقوعها عام 1948، كان لزرعِ الأجيال الفلسطينية وقطافها معنى آخرَ فضلا عن معانيها لدى باقي الشعوب. إنه المعنى النضالي الذي فرضه إبتلاع الأرض وإقتلاع الشعب وإغتصاب الحقوق، وتواصلت على أساسه، وبما تَيَسَّرَ مِن دعمِ أبناء الأمة، أجيالُ الشعب الفلسطيني تباعاً، في مسيرة نضالية تحررية دفاعية عادلة مديدة على طريق العودة والحرية والإستقلال.
في السياق، وبعد سنوات على النكبة، ومِن رحم مرارات اللجوء وعذاباته، وبفعلها، وعشية هزيمة عام 1967، وبعد سنوات مِن الإعداد، وتواصلا مع الأطوار الأولى للثورة الفلسطينية، وإستئنافاً لها، إشتعلت شرارة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وسَرَت عميقاً في أوساط الشعب وجنباته، وتحولت إلى خيار شعبي، واصلَ مشواره بتعدديةٍ فكرية وسياسية، إتحدت وتعارضت بديموقراطية تحررية في حاضنة سياسية تنظيمية وطنية جامعة، هي منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب في الوطن والشتات.
لم تكن مسيرة ديموقراطية "التعارض في إطار الوحدة" مِن دون بُقَعٍ سوداء، لكن تلك البُقَعْ لم تشكل المظهر العام للمسيرة، بل كانت "النشاز" والمظهر الثانوي الذي جرى دفنه كلما كان يطلُّ برأسه في هذه المرحلة أو تلك مِن مراحل النضال الوطني.
هكذا كان حال الشعب الفلسطيني، وبه (أساساً) أحْرَزَ ما أحَْرَزَ مِن إنجازات، وعبره (جوهراً) راكَمَ ما راكَمَ مِن مكتسبات، وبفعله (تحديداً) تجاوز ما تجاوزَ مِن مصاعبَ ومآزق، وظلَّ كذلك حتى وقعت له "نكبة" داخلية. وتتمثل هذه النكبة في عقلية فئوية خطرة، يَخْتَزِلُ أصحابُها تاريخ الشعب في تاريخهم، و"يلعنون" "الآخر" كما لو كان "إبليسا" مطلقاً، ويُقدِّسون ذاتهم كما لو كانت "ملاكاً" نقياً، ولا يرون إنجازاً إلا ما صنعوا مِن إنجازات، ولا يرون بياضاً إلا ما في ثوبهم مِن بياض. فتاهوا بذلك كثيراً، وضلُّوا صواب السبيل، درجة تناسي حقيقة أن ما باليد الفلسطينية مِن "سلطة"، هي "سلطةٌ" دون سيادة، وأن الاحتلال ما زال جاثماً على صدرِ الشعب، يَتَّبِعُ سياسةً هجوميةً قهريةً توسعيةً لا تعرفُ التوقف، ما يستدعي ضرورةَ إنتهاج سياسةٍ وطنيةٍ إستثنائية في ديموقراطيتها، تعي لوحةَ التناقضاتِ، وتعرفُ كيف تَجْمَعُ بين تفاوتات مركباتِ "السلطةِ" وصَبِّها (أساسا) في بوتقةِ مواجهةِ الإجراءاتِ الاحتلاليةِ الدموية، علاوة على مواجهة العامل الدولي (الأمريكي أساساً) الذي فضلاً عن دعمه السافر للاحتلالِ وسياساتهِ العدوانيةِ التوسعية، لا يتوانى عن خَلْقِِ ما لا يحصى مِن التوتراتِ بين تراكيبِ السلطةِ الفلسطينيةِ وتجمعاتِ الشعبِ وألونِ طيفهِ الفكري والسياسي.
وهذا ما يشي بمخططٍ أمريكي إسرائيلي يسعى بصورةٍ مبرمجةٍ مثابرة إلى تدميرِ مقدراتِ الشعب الفلسطيني وإمكانياتهِ وعواملَ صمودِه، وذلك عبر ممارسةِ سياسةِ الحصارِ والعزلِ، وإظهار الفلسطينيين كعاجزينَ عن إدارة شؤونهم بنفسهم، وإغراق ألوان طيفهم السياسي في التنازع على سلطةٍ غير قادرة على حماية أمن الوطن والمواطن، وعاجزة عن قيادة عملية التصدي للمخططات الاحتلالية، بل وغير قادرة على تسديدِ رواتب موظفيها ال180 ألفاً، دون أن يغيبَ عن البالِ ما أفضى إليه ذلك مِن تحويلِ 50% مِن قوة العمل الفلسطيني إلى قوةٍ عاطلةٍ عن العملِ، مع ما يتصل بذلك مِن فقرٍ ناهز 64% حسب تقرير الأمم المتحدة.
والحال، وما دامت لوحة التناقضات الفلسطينية الراهنة على هذا المستوى مِن الوضوح الذي لا يحتاج إلى عظيم الذكاء لإكتشافه، يصبح السؤال: كيف يجوز لكائن مَن كان، وبدقة أكثر كيف يجوز لأطرافٍ بعينها في فريقيْ السلطةِ الكبيرين "فتح" و"حماس"، أن يعودا إلى الخوض مجدداً في لعبة الدم التي حصدت مئات القتلى والجرحى والمخطوفين، فيما راهن الشعب على تقاطعهما بعد اتفاق مكة وتشكيل الحكومة الفلسطينية الإئتلافية في ضبط الفلتان وفتح ملفات الفساد وإعادة الإعتبار لسلطة القضاء؟!!! وكيف يجوز لهذه الأطراف العودة مجدداً إلى عدم التورع عن التعبئة النارية ضد الآخر في نزعة فئوية وزعاماتية متطرفة تنطوي على مخاطرَ تَمُسُّ النضال الوطني ومستقبل الشعب وتجمعاته المُشتَّتة وقضيته الوطنية؟!!! حقاً كيف يجوز ذلك؟!!! ومَن أعطى هذه الأطراف حق التصرفِ مع أبناءِ هذا الشعب وشبابهِ ومناضليهِ كحطبٍ تجوز بَرْمَجَةِ قطاعاتٍ واسعةٍ منهم على كرهِ الغيرِ، والحقدِ عليه درجةَ إستباحةِ دمه؟!!! وهل حقاً أن المشروع الوطني لا يَحْتَمِلُ معالجة تعارضاته القائمة خارج لعبة الدم والاقتتال الداخلي؟!!! وهل يجوز تقزيم الرؤية الوطنية وتفصيلها على مقاسِ البحثِ عن مكاسب فئويةٍ، بل شخصية أحياناً؟!!! فيما (هُمْ) هناكَ في تل أبيب، وفي ردهاتِ غرفِ هيئةِ أركانهم ومجلسهم الوزاري الأمني المصغَّر، يقدحون الذهن ويعدون العدة، لإختيارِ أفضل السيناريوهات للإنقضاض على غزة، وضرب المُقْتَتلينَ فيها، يَنْصَحُهُمْ ذِراعهُمْ المخابراتي (الشاباك) بعدمِ الإقدامِ على ذلك، وتَرْكِ غزة تغرقُ في اقتتالها الداخلي فضلا عن جوعها وحصارها وعزلها. إنها مفارقة لا قبلها ولا بعدها. ومعها يجوز القول: إن ما تشهده غزة يقع خارج الوعي المنطقي البسيط للتناقضاتِ وكيفيةِ إدارتها.
لست مِن أؤلئك الذين يستخفون بالدور الذي لعبته إنتفاضة 1987-1993 في إجبار رابين على إخراج الجيش الإسرائيلي مِن وسط التجمعات السكانية الكبيرة في الضفة والقطاع، كما أنني لست مِن أؤلئك الذين لم يروا دوراً للمقاومة في قرار شارون الإقدام على خطوةِ فكِّ الإرتباط مع غزة؛ لكنني بنفس الوقت، وربما بذات المقدار، لستُ مِن أؤلئك الذين يتغاضون عن رؤية الحسابات الإستراتيجية الإسرائيلية في هاتين الخطوتين. وعليه، فإنه في الوقت الذي يُحسبُ فيه حصيلة الفعل الإنتفاضي، كان يجب حساب رد الفعل المقابل الذي لا ينطوي على خطط قصيرة المدى، بل ذهب نحو فك معادلة الاحتلال وإعادة تركيبها بما يخدم أهدافاً أبعد، تمثلت في تفريغ الإستقلال مِن رُكْنِهِ الأساسي، أي السيطرة على الأرض والسيادة عليها. وهذا ما كان يستوجب الوعي، والتصرف وفقه، ومِن كافة الأطراف الفلسطينية، وعلى كافة المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفي المقدمة، وقبل أيِّ شيء آخر الأمنية.
أما أن يبقى الحال على ما هو عليه، وكما يعكسه مشهد غزة المُرْعِب، حيث تُخْتَزُلُ الأمور في هدف قيادة السلطة الفلسطينية، على طريقة السلطات العربية بصنوفها، وتتمحور حول تكريس الذات وتجاهل مطالب الشعب، والإستيلاء على بدايات المجتمع المدني وقهر الرأي الآخر وحرمانه مِن حقوقه، فهذا ما لا ندري مَن أجازه، كما لا ندري بأي حقِّ تجري مواصلةُ الغطسَ فيه، بما يفاقم مِن الأزمة الفلسطينية الداخلية، ويضرب مقومات صمود الشعب، ويثلم نضاله الوطني ومقاومته ضد الاحتلال وصلف قادته الذين يرفضون الإقرار بحق اللاجئين في العودة إلى الديار والممتلكات، ويرفضون حتى قيام دولة فلسطينية في الأراضي الفلسطينية التي أحتلت عام 1967، اللهم إلا بعد إقتطاع القدس ومناطق المستوطنات والأغوار وما نهبه جدار الفصل العنصري وضمها، وبالتالي طي صفحة الدولة عمليا. إن خيار لعبة الدم نابعٌ مِن خيار تفضيل الحُكْمِ على الوطن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران: ما الترتيبات المقررة في حال شغور منصب الرئيس؟


.. نبض فرنسا: كاليدونيا الجديدة، موقع استراتيجي يثير اهتمام الق




.. إيران: كيف تجري عمليات البحث عن مروحية الرئيس وكم يصمد الإنس


.. نبض أوروبا: كيف تؤثر الحرب في أوكرانيا وغزة على حملة الانتخا




.. WSJ: عدد قتلى الرهائن الإسرائيليين لدى حماس أعلى بكثير مما ه