الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجار الهاديء

خالص عزمي

2007 / 5 / 19
الادب والفن


قصة قصيرة
كان الزقاق الذي يسكنه في الوزيرية في غاية الدعة والأمان ؛ تحيطه أشجار اليوكاليبتوس من جوانبه ؛ وتملأ سدته الشرقية العالية الحشائش المتسلقة التي تمنحه خضرة زاهية على مدار الفصول . أما الجيران فقد كانوا سعداء بعلاقاتهم المؤصلة التي توارثها الابناء عن الآباء عبر اجيال تمتد الى الثلاثينات من القرن الماضي ؛ عندما أخذت الوزيرية موقعها بين مناطق بغداد الاكثر ازدهارا وتحضرا .

كان الدكتور سليم ؛ حريصا على السكن في بيته الذي ورثه عن ابيه ؛ لاسباب عدة منها ؛ قربه من دار المعلمين العالية التي كان يدّرس فيها ؛ ولعلاقاته المتينة المنسجمة مع جيرانه ؛ الذين يتقارب معظمهم معه في السن والثقافة ؛ فقد كان من بينهم عدد وفير من مدرسي الكليات في شتى اصناف المعرفة ؛ اضافة الى بعض الادباء والشعراء والفنانين ؛ الذين ارتبطوا معه باواصر قديمة متجددة ؛ تحولت مع الزمن الى علاقات اسرية اجتماعية ليست قابلة للانفصام .
من يتطلع الى الدكتور سليم وقد تجاوز السبعين ؛ لا يجد فيه سمات هذه السن التي توصف بالشيخوخة والعجز ؛ فقد كان نشط الحركة ؛ متين التماسك الجسدي ؛ تغمره الحيوية ومعالم المرح والظرف والثقة بالنفس؛ دونما افراط او تفريط . لقد كانت هواياته معروفة عند اصدقائه ومعارفه؛وهي القراءة ؛ والعناية بالحديقة الخلفية الصغيرة ؛ والمشي لمسافات طويلة ؛ ومشاهدة الافلام السينمائية ذات المحتوى الرفيع ؛ اما آخر هواياته ؛ فقد اصبحت جمع الطوابع وتنظيمها في البومات بحسب سنوات صدورها .اما زوجته السيدة خديجة ؛ فكان كل ما يشغلها بعد تقاعدها من ادارة المدرسة الابتدائية للبنات ؛ هو العناية بالبيت و قراءة المجلات التراثية والحياكة واستقبال بعض قدامى زميلاتها او طالباتها .

ظل الهدوء يبسط جناحيه على كل زاوية من بيت تلك الاسرة التي تخفق في جوانحها الالفة والمحبة والتفاهم ؛ ومع ان القدر لم يمنحهما هبة الابناء ؛ الا ان ما تخرج على ايديهما من طلاب على مدى كل تلك السنين ؛ كان يمثل لهما جنينة واسعة مخضلة بالحوار ؛ تعطرها رائحة الاسرة الواحدة .
كان كل منهما يتفقد مسيرة طلبته المتفوقين ؛ ويمد لهم يد المساعدة كلما كان ذلك ممكنا ؛ ولا يبخل عليهم بالتوجيه ؛ بل ان الدكتور سليم كان يشارك بعض طلبته الذين يزورونه بين الفينة والاخرى هواياتهم كالمطاردة في حفظ الشعر او النظم الارتجالي او لعب الشطرنج وما الى ذلك . وقد كانت تلك المشاركة الوجدانية تمنحه سعادة غامرة.ولم يكن بعض اولئك الطلبة النجباء اقل تواصلا وتماسكا مع هذين المربيين الجليلين ؛ فقد كانوا يجدون فيهما ملاذا ؛ بل ويحسون وهم تحت مظلة حنانهما ؛ انهم في أمان عائلي وارشاد معرفي يغرفون منه كلما احتاجوا اليه .

في ليلة منحوسة ...هاجمت طائرات وصواريخ الاحتلال العراق ؛ وراحت أم القنابل وبنات الصدمة والرعب تحيل سماء بغداد الى نيران وحرائق يتصاعد لهيبها في الاجواء ؛ ويغطي دخانها كل جزء من مدينة السلام؛ لقد طال التدمير البيوت الآمنة و المدارس والمصانع والمستشفيات والطرق البرية والمزارع وكثيرا من الدوائر والمتاحف والمعارض والمكتبات العامة ؛ وتحولت كثير من العمائر والاسواق العامرة والطرق والمتنزهات الى تلال من الفحم ؛ ليبدأ بعدها أ النهب والسلب تحت نظر المحتل وتشجيعه .

ما كاد القصف يهدأ قليلا ؛ حتى راح الجيران في حي الوزيرية يتفقد بعضهم البعض الآخر ؛ صعد الدكتور سليم الى سطح الدار ؛ فغامت عيناه وهو يرى الحرائق ما زالت مشتعلة في مصانع القطن الطبي ؛ ومخازن شركة الخياطة ؛ ومعامل البطاريات الجافة ...الخ اضافة الى دور العبادة وبعض المعاهد والكليات والمدارس ورياض الاطفال والمستوصفات ... الخ
حينما كان الدكتور سليم ينزل من على السلم لمحه جاره الحاج طالب فحدثه عن نتائج القصف الذي نال من المناطق القريبة المحيطة بساحة الكشافة واسواق الكسرة قائلا : لقد اعلمني احد اقاربي من الباعة هناك ان القصف الوحشي طال عددا كبيرا من اصحاب الدكاكين والمتسوقين على حد سواء ؛ فذهب ضحيته عشرات من الاشخاص ؛ حيث تناثرت اجزاء من جثثهم على الارصفة والمقاهي بل اختلط كثير منها باللحوم المكدسة في العربات الخشبية وسلال الخضروات والفواكه .

كان الليل داكنا ؛ ليس هناك بيت واحد يجرأ على فتح الاضاءة ؛ تذكر الدكتور سليم ؛ ان هناك شمعة وضعها للطواريء قرب الثلاجة ؛ سارا متحسسا برفق خطواته حتى ادركها ؛ كانت نصف شمعة كما تركتها زوجته منذ امد ؛ اشعلها وهرع حيث غرفة النوم المنزوية في الركن الاقصى من البيت ؛ بينما زوجته تحثه بخوف والحاح على اطفائها ؛ طمأنها بان هذا البصيص الضئيل ؛بعيد تماما عن المنافذ التي احكم وضع الاغطية الثقيلة عليها .


عندما اشرقت الشمس ثانية ؛ وتوقف القصف نسبيا مرة أخرى ؛ اقنع زوجته بضرورة الرحيل الى قريته النائية المطلة على ذلك النهير الصغير ؛ وافقت زوجته على الفكرة ؛ فما هي الا ساعة واحدة حتى كانا قد جهزا كل ما يحتاجانه من الضروريات . ودعا أسر الجيران ... وغادرا وصدى عبارة ( الرب واحد والعمر واحد ) تتردد على مسامعهما ؛ بينما كانت الدموع تحجب رؤيا بيتهما الخاوي .

كان سيرسيارته بطيئا وحذرا فلم يصل الى القرية االا بعيد الظهيرة ؛ توجه فورا الى محل سلمان الدلال ؛ وحصل منه على بيت طيني صغير اشبه بالكوخ في نهاية الطريق الزراعي ؛ ذهبوا لمشاهدته ؛ كان بيتا متواضعا لايحتوي الا على غرفة نوم واحدة واخرى للضيافة مع ركن معزول خصص للطبخ . عاد مع سلمان الى القرية فاشترى ما احتاج اليه البيت من مستلزمات واطعمة وغيرها ؛ وعاد الى الكوخ مسرعا بعد ان نال منه التعب كثيرا ؛ تناول طعام العشاء على عجل ؛ ثم وضع شريط كاسيت في المسجل ؛ واستلقى على الفراش ؛ وراح يستمع الى الى الوان من الموسيقى المختارةالتي هام بها .

لم يصدقا ان الايام الخمسة قد تعدت مسرعة ؛ وهما في هذه النعمة من متعة الحرية والامان ؛ ليس امامهما من مشاغل الحياة سوى التبضع من سوق القرية ؛ والعودة الى ذلك العش البسيط ؛ ولكن متابعة الاخبار كانت حصة اجبارية لايستطيعان الفكاك منها . على ان قراءة ما جلباه معهما من روايات وقصص ومسرحيات ؛ كانت كثيرا ما تخفف عنهما معاناة سماع تلك الاخبار .

حينما مرت اربعة اسابيع على مغادرتهما الوزيرية ؛ بلغ بهما الضجر حدا ارادا التحلل قليلا من اسره ؛ قال الدكتور سليم لزوجته : ان هذا الصباح رقيق النور ؛ عذب النسمات ؛ فلماذا لاننتهزها فرصة لنسير عبر ذلك البساط الاخضر الممرع المحيط بنا ؛ فربما نتعرف على جيراننا ؛ ونتبادل معهم الاحاديث؛ ألا ترين في ذلك تغييرا للروتين ومبعثا للتسلية ؛ ردت خديجة عليه بالايجاب ؛ فانطلقا يجولان في تلك المنطقة الغارقة بالسكون ؛ التي تتمدد على أرضها الخصبة الوان من المزروعات .
سارا مسافة غير قصيرة في طرق زراعية ضيقة تظللها بعض النخيلات متوسطة الحجم وبعض الاشجار المتناثرة هنا وهناك ؛ ثم توقفا قليلا تحت ظل سدرة معمرة ؛ ونظرا في كل اتجاه ؛ فلم يجدا أي بيت او حتى كوخ صغير ؛ ولكن لفت نظرهما عن بعد جدار طيني تتوسطه بوابة صفيح خضراء اللون مفتوحة على مصارعها .......تقدما نحوها ... توقفا قليلا ... ودلفا ؛ ففوجئا بمجموعة غير قليلة من القبور المتجاورة تحرسها نخيلات و سدرات متناثرة . ابتسم الدكتور سليم وقال لزوجته : اذن هذا الموقع النائي هو جارنا الوحيد ؛ألسنا محظوظين حقا ... لا طائرات ولا حرائق ولا فوضى ولا صخب ؛ بل حياة بسيطة ومروج يانعة ؛ فعقبت عليه زوجته وهي تبتسم : و كذلك جار هاديء وهو نعم الجار ؛... ظلا يقهقهان وهما يغذان السير عائدين الى البيت .

في تلك الليلة ؛وهو يستمع الى الموسيقى كعادته ؛ مرت عليه فجأة سحابة حزن غيرت من تعابير وجهه ؛ لمحت زوجته ملامح تلك الغمامة فارادت الاستفسار ؛ .. ولكنه باهتها بقوله ؛ لقد مر بخاطري بيتان من شعر النصوص التي حفظتها ايام الدراسة الثانوية...... فيهما عظة وعبرة :
صخب الوجود هو الحـياة
وهو التواصل لا السبــات
اما القـــبور فـــــــــــــانها
مثل السكينـــــة في الفـلاة
قالت له خديجة ؛ وانا علمت تلاميذي ايضا : ان الانسان مخلوق اجتماعي متآلف بطبعه ! رأته ينظر اليها كمن يريد المزيد ؛ فتشجعت وقالت ؛ لقد كنت تردد على مسمعي ان الذكريات هي جزء من حب المكان ؛ وان لقاءا مع قدامى الجيران والزملاء والطلاب ؛ لهو جنة مليئة بزهور الحوار ولا خير في انسان لا يشارك في الافراح والملمات .أجابها : وما زلت عند رأي ؛ ولكن ماذا ترانا نفعل ازاء الصواريخ والقنابل الهمجية ... ثم استدرك... ولو ان الاخبار تؤكد ان ذلك القصف خف كثيرا عن السابق . نظرت زوجته اليه مليا وقالت : انك رجل واقعي وتفهم معنى ان الموت يدركنا ولو كنا في قصور مشيدة . هنا رفع الدكتور سليم من صوت الموسيقى المنبعث من المسجل وهو يعقب : أظن ان مغزى ما تحدثنا به ...يكفي لهذه الليلة ؛ و( الصباح رباح ) كما يقول المثل !!.

... قام الدكتور سليم وتمشى قليلا امام البيت ثم القى نظرة على تلك الفضاءات البعيدة الغارقة في لجج صمتها؛وعاود التطلع نحو تلك السماء الواسعة التي تطرزها نجيمات كالزنابق البيضاء على مخمل أزرق ... استنشق هواءا عذبا منعشا ؛ ثم اغلق الباب .... وسار نحو فراشه فأندس فيه ..... ثم اطفأ القنديل .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقطات من عرض أزياء ديور الرجالي.. ولقاء خاص مع جميلة جميلات


.. أقوى المراجعات النهائية لمادة اللغة الفرنسية لطلاب الثانوية




.. أخبار الصباح | بالموسيقى.. المطرب والملحن أحمد أبو عمشة يحاو


.. في اليوم الأولمبي بباريس.. تمثال جديد صنعته فنانة أميركية




.. زوجة إمام عاشور للنيابة: تعرضت لمعاكسة داخل السينما وأمن الم