الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كالأطفال أعجنها.. كالأطفال لا أصدق

سليم البيك

2007 / 5 / 20
القضية الفلسطينية


لامتني مرة صديقة من الداخل الفلسطيني، أرض الـ 48، في حوار عبر المسنجر، لامتني لصورة فلسطين فيّ. الصورة التي تعبتْ مخيلتي في تكوينها عبر ما قرأت، و ما رأيت من صور أُخذت هناك، و ما سمعت من حكايا جدي. قالت بأن فلسطين - أي الجليل في حديثنا - ليست كما الصورة اللتي اختلقتُها و عجنتها عبر نصوصي، و أنني سأعود و سأذكر كلامها حينها. و بعد أن يئستْ من محاولات ارغام الجليل في مخيلتي على الاقتراب من "واقعيتها"، قالت، و الاستسلام قد تسرب من خلال نبراتها: طيب خيا.. خلي فلسطين ببالك متل ما هي!
كذّبتُ ما قالت عن فلسطين، و عقّبتُ: بديش أصدقك.
أُصر إصرار طفل نزق على صورة فلسطين المختبئة و الملتجئة فيّ، في ذهني و وجداني. و لي أسبابي: أنا لاجئ، قد أعود و قد أموت لاجئا، إن عدت فهذا ما أكتب و أحيا لأجله. و إن متّ قبل ذلك، فما الذي يُلزمني بالواقعية، و حالتي هذه تسمح لي بالإقامة في مدن و قرى عجنتْها تخيلاتي الرومنسية؟ سأبقي صورة فلسطين و جليلها فيّ كما الجنة في وجدان المؤمن، و تكون مطهّرة من لوثات الحياة اليومية، إلى أن أعود و أذكر كلامها.
و لكن، حين تقترب فلسطين من الواقعية عن الرومنسية، في مخيلتي، تكون أجمل و أبهى و ربما أشدّ طهراً. فالصورة الرومنسية في المخيلة حين ترتقي تصل إلى واقعية الصورة ذاتها، بلوثاتها، لترتقي الصورة الواقعية قليلا قليلا إلى أن تقارب، واقعياً، الصورة الرومنسية السابقة..
أنا كلاجئ، افتقد و أشتاق للمشي في شوارع و أزقة فلسطينية تفترش الوحل و تلتحف أسلاك الكهرباء و الهاتف، و للوقوع في جورة حُفرت و نسيت البلدية طمرها. و أنتظر باب بيت فلسطيني يصفق على اصبعي فيُنزع اظفري عن لحمي. أشتهي أن تندلق القهوة على قميصي قبل خروجي فألعن ذلك الصباح الصيفي، أن أسب و ألعن حكومة فلسطينية و معارضاتها و جميع التيارات الثالثة، و مواطناً رمى كيس النفايات فأصاب حافة الحاوية، أن بنفزر الكيس بروائح لزجة و بعض من الذباب الأخضر الدبق، أن يكون الذباب فلسطينياً.
كم أشتهي أن ترتقي رومنسية الصورة المتخيلة فيّ إلى تلك الواقعية المبتذلة. أشتهي، كلاجئ، الروتيني و الممل و المقزز و المقرف و المنفر عند مواطن في بلده.
كنت مرة في حوار مع الروائي مروان عبد العال وأخبرته بما قالته صديقتي الجليلية، فروى لي التالي: كنت جالسا مع شفيق الحوت – الممثل السابق لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان- و جاءته مكالمة تلفونية من الشاعر محمود درويش من يافا، بلد شفيق، حين استطاع محمود زيارتها. فطلب محمود من شفيق أن يرشده، عبر التلفون، الطريق إلى بيته في يافا، صار محمود يتكلم و يوصف الأمكنة لشفيق و شفيق يكمل عنه الوصف و يتذكر و يدله، إلى أن وصل محمود فقال: لا تكمل يا شفيق.. وصلت.. و بيتكم هذا حوّله اليهود مكاناً للدعارة. فقلت لشفيق – و الكلام لمروان: فلسطين التي عشتَها و رأيتَها منذ زمن، فلتُبقِها في بالك كما عرفتها، بعيدة عمّا تغير بعد النكبة، و لكن، نحن من لم نرها، دعنا نتخيلها كما نشاء، نصنعها كحلم جميل، و نحن أحرار كيف و بأي مواد نصنعها، ففلسطين كمعجون الأطفال في مخيلاتنا.
و أنا، لي الحق في أن أعجن فلسطين في مخيلتي المرهَقة، و أن أستعير من الطفولة اصرارها، إلى أن أنال حقي، فأعود، فأكبر هناك.
و حينها، أن أذكر كلام صديقتي أم لا أذكره، فهذا شأن آخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البنتاغون: أنجزنا 50% من الرصيف البحري قبالة ساحل غزة


.. ما تفاصيل خطة بريطانيا لترحيل طالبي لجوء إلى رواندا؟




.. المقاومة الفلسطينية تصعد من استهدافها لمحور نتساريم الفاصل ب


.. بلينكن: إسرائيل قدمت تنازلات للتوصل لاتفاق وعلى حماس قبول ال




.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تهدم منزلا في الخليل