الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زقاق في الحيدرخانة

عبدالرضا المادح

2007 / 5 / 21
الادب والفن


كانت الشمس تبعث بخيوط الدفء لتنسج المرح بين الشجيرات المتشابكة على سفح جبل متين قرب قرية بازي. توزع المقاتلون الانصار على شكل مجاميع صغيرة. حركة الرفاق موزعة بين الحراسة فوق تلة بارزة وجمع الحطب لاعداد الافطار. دخان مواقدهم يختلط برائحة الشاي والخبز المشوي على الصاج في باحات القرى. اكياس النايلون التي يحرصون عليها من التمزق، تمتليء كل مساء بما تجود به أيدي العوائل الفلاحية تعاطفا ً مع المقاتلين الاشدّاء. اتسعت احدى الحلقات بالمشوقين للمزاح وسماع اخبار قرية چمسيدة التي قضوا ليلتهم الاخيرة فيها. تردد في الوادي صوت نقـّار الخشب وكأنه صلية رشاش كلاشنكوف، ليمزق سكون الفضاء. مدّ ابو وحيدة يديه فوق لهب الموقد ليبدد لسعات برد الصباح، الذي مازال يقاوم زحف الشمس نحو الوادي الفسيح لبرواري بالا. رطوبة الارض والاحجار القاسية التي اتخذوها كراسي لهم، تجبرهم على تغيير اوضاع جلساتهم او الوقوف بين الحين والاخر. رمت ام هيفاء بعض من قطع الاخشاب لتزيد من سعير النار.
اقترب سلام ( م ) من المجموعة منتشيا ً كالطاووس والبسمة تعلو وجهه، ليبادرهم بتحية الصباح فيردوا عليه مع بعض العبارات لخلق ارضية للمناوشات الكلامية.
ـ شنو اليوم طالع تلمع...!؟
سأله مهند وهو يدير وجهه بعيدا ًعن الدخان الابيض المتصاعد من الاغصان الرطبة وهي تطقطق من شدة اللهب.
ـ اليوم السالفة مو خالية...!
اضاف ابو كريم ( الفـَلايـَة ).
اجاب سلام وهو حذر من ردّة الفعل:
ـ والله... صديقتي انطتني صابونه.
ـ هــــا...هــا...هــا...هــــا...
ضجّ الرفاق من حوله بالضحك وتعالت التعليقات ولم تهدأ إلا بارتشاف الشاي الدافيء من الاقداح الزجاجية التي تلوّنت بصفائه.
ـ اللي يسمعك يگول صدگ عندك صديقة...!
اضاف ابو رجاء وهو يهيء نفسه لتبديل الحرس.
اخذت الاحاديث وذكريات المدن تتسلل مابين الشفاه.
ـ كنـّا خمسة رفاق، استقر بنا الحال مؤقتا ً في فندق بغداد، الواقع في احد ازقـة محلة الحيدرخانة. انهكنا البحث كل مساء عن مكان للمبيت. كنـّا نمرّ على الفنادق جميعا ً من ساحة السعدون حتى باب المعظم، فلا نجد مكانا ً. في احدى المرات، واصلنا البحث حتى جانب الكرخ، لتستقر اجسادنا المنهكة على اسرة متهالكة في فندق قديم قرب علاوي الحلة، بعد ان تجاوز الليل منتصفه، وهذا ماخدمنا لان تقديم قائمة النزلاء من قبل اصحاب الفنادق لرجال الامن يتم قبل الثانية عشر ليلا ً.
توقف ابو انتصار عن الحديث قليلا ً لياخذ نفسا ً عميقا ً من سيكارته. اقترب مهند اكثر ليصغي للمتحدث بأهتمام.
ـ حصل اربعة رفاق واحد بعد الاخر، على عمل في معمل للنجارة في كرادة مريم، وبقيت وحيدا ً انتظر دوري. كان يتملكني الشعور بالوحدة والضجر طول النهار، رغم اني كنت اقضي وقتي متعمدا ً من الصباح حتى المساء، في اسواق شارع النهر وشارع الرشيد المزدحمة. هاجس الاعتقال يلاحقني في كل زاوية ومن كل نظرة مريبة.
ـ متى كان ذلك.؟ استفسر مهند.
ـ في بداية ربيع عام 1979، حيث كان يلف بغداد الرعب والحزن والمستقبل الغامض ، فلم نتذوّق طعم الربيع، ولم نلحظ ثوبه يتجدد في ساحات وحدائق العاصمة.
ـ ايام صعبة مرّت علينا، فقد كان الشيوعيون ابناء المحافظات الهاربون من بطش النظام، يفترشون الحدائق العامة في الليل، ويتوسدون مسطبات محطة القطارات، وينامون في المعامل الاهلية خلسة من اصحابها.
اضاف ابو عراق والمشاهد تلك حية في ذاكرته. ثم اكمل ابو انتصار حديثه:
ـ في احد الصباحات تاخرت قليلا ً، وقررت ان اخذ نظرة من شرفة الفندق، على بيوت الشناشيل القديمة والزقاق المؤدي اليها.
كانت اعمال تجديد الفندق من الخارج جارية لايام. حركة الناس في الزقاق لاتنقطع. عند الظهيرة تزداد الحركة باتجاه مطاعم شعبية ذات اكلات رخيصة. السيارات في شارع الرشيد لاتكف عن الضجيج. جامع الحيدرخانة يضفي على المنطقة هيبة فن عمارته. اسند احد العمال سلم خشبي طويل الى جدار الفندق، وبدا بالتسلق ببطء ماسكا ً بيده علبة صبغ كبيرة، تدلت على حافتها فرشاة عريضة خاصة لطلاء الجدران. الشمس تواجه الفندق فتميز بوضوح بين اللون الجديد واللون القديم الذي فقد خاصيته.
بعد توقف قصير بسبب رد التحية واصل ابو انتصار حديثه:
ـ دلف في الزقاق من شارع الرشيد، شاب وسيم الطلعة بطقم ثياب جديد وكأنه متوجه لحفلة زفافه. قسمات وجهه تعبر عن ابتسامة دائمة. ربما كان غارقا ً باحلام لقاء الحبيبة في مكان ما. اقتربت خطواته من السلم، وفجأة هوت علبة الصبغ لتصطدم بالارض محدثة ً جلبة ً، امتزجت مع صرخة المفاجأة من ذلك الشاب. انبعثت من العلبة نافورة طوقت الشاب وبدلته الانيقة، لتوزع امتداداتها على الجدران وارض الزقاق، وكل ما استطاعت الوصول اليه. كتمت ضحكتي، لتمتزج بشعور الاسى على ذلك المسكين.
وهنا صرخ مهند مقهقها ً والدهشة ارتسمت على قزحيّـتي عينيه:
ـ ملعون .. كيف تتجرأ وتضحك عليـّه...!؟
ـ ماذا تقصد...!؟
ـ ان ذلك الشاب هو انا.
ـ هل تمزح...!؟
ـ لا...لا... انا جاد. كنت في ذلك الصباح البس تلك البدلة لأول مرة، وهي هدية من اخي...!
ـ ياللمفارقة...! بعد كل هذه السنين نلتقي هنا حول الموقد لنتعارف وبهذه الطريقة الغريبة...!
كان الحدث مثار اعجاب الجميع. رفع سلام يده ملوحا ً بكأس الشاي:
ـ بصحة البدلة...!
فرفع الرفاق كؤوسهم لينعشوا صدورهم، ولتستمر حكايا الموقد الدافئة.
.........................................
13 05 2007








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي