الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الليبرالية والليبرالية الجديدة

سلامة كيلة

2003 / 9 / 5
مواضيع وابحاث سياسية



 الدولة تدخّلت في الاقتصاد منذ نشوئها، وكانت تلعب أدوارا مهمة في بعض الأحيان، لكنها كانت تلعب دور المشرّع والمكمّل القمعي الذي يضمن مصالح الطبقة المالكة. لهذا كانت "الحرية" الاقتصادية هي السائدة، ولم يكن يظهر دور الدولة كمتدخّل في الاقتصاد إلا حينما تعيش الطبقة المسيطرة أزمة. ولقد عبّر الفكر الاقتصادي منذ القرن الثامن عشر عن ميل الرأسمالية الناشئة لتكريس هذه الحرية وتعميمها، وكان الشعار هو: دعه يعمل دعه يمرّ. وارتبط هذا الميل أكثر بواحد من أهم مفكري الرأسمالية هو آدم سميث.
 ورغم أن الرأسمالية فرضت تدخّل الدولة في فترات عديدة ولأسباب مختلفة، منها الحماية ومنها الاحتكار، فقد ظلّت تدافع عن "الاقتصاد الحر"، وكانت تواجه خصومها بالتأكيد على حرّية السوق. وستبدو حرّية السوق هذه وسيلتها لتفوّق اقتصادها، حيث أنها تتخذ إجراءات حمائية حينما تشعر بضعفها الاقتصادي وبالتالي بخوفها من تفوّق الآخرين، مما يسمح بهزيمة اقتصادها وانهيار شركاتها. لكنها تشدّد على حرّية السوق بينما تشعر بتفوّقها ومقدرتها على هزيمة الآخرين.
 الأمر هنا يتعلّق بالمصالح، وبميل الرأسمال إلى بناء الظروف المناسبة لتحقيق الأرباح وكسب المعركة. وبالتالي فان الليبرالية ليست فكرة أصيلة في الرأسمالية رغم أنها جزءا مكوّنا في النمط الرأسمالي. بمعنى أن حرية السوق القائمة على التبادل الحر للسلع لا تختفي ولا تنتهي، لكن الدولة الرأسمالية تتدخّل سواء لحماية الشركات "القومية" من منافسة الشركات الأخرى، أو أنها تقدّم الدعم لها لضمان تفوّقها في المنافسة، مما يوجد اختلالا في التنافس على حساب حرية السوق، وبما يشكّل خرقا له. وسنلحظ هنا بأن السياسي (أي الدولة) هو أداة الاقتصادي، وهو المشكّل لبيئة مناسبة لنشاط الاقتصادي، مما يجعله يشوّش على المفهوم الليبرالي ويضعه محلّ مساءلة.
 لكن حرية السوق تخضع أيضا لتشوّش آخر، يتمثّل في أن المنافسة ذاتها تفضي إلى ما سمّي بالاحتكار، حيث تقود المنافسة إلى أن تنهار شركات ويفلس رأسمال نتيجة تعثّر ذاتي أو نتيجة مزاحمة من قبل شركات أخرى ورأسمال آخر، بفعل اكتشافات جديدة أضافتها أو بفعل "مغامرة" أو لأسباب أخرى. والاحتكار هنا يتحكّم بالسوق "الحر" دون أن يلغيه، لكنه يحسم المنافسة مسبقا عبر تهميش دور الآخرين، فيعيد إنتاج ذاته كاحتكار في إطار السوق "الحرة" هاتان العمليتان، السياسية والاقتصادية، ملازمتان للنمط الرأسمالي في الإطار القومي وفي الإطار العالمي. لهذا، إن قوّة الدولة هي عنصر مهم بيد شريحة من الطبقة الرأسمالية قوميا، والطبقة بمجملها على الصعيد العالمي، وكلما كانت الدولة متفوّقة كلما استطاعت أن تفرض شروطها على الدول الأخرى، وبالتالي أن تحسّن من وضع رأسماليتها في إطار المنافسة العالمية. وهذا يستلزم أن يكون اقتصادها قويا كذلك، مما يجعل المنافسة تزيد من قوته.
 وكذلك فان تشكّل الاحتكارات يسهم في أن تصبح قوة منافسة دون منازع. وهذه المسألة بحاجة إلى تأمّل ضروري، لأن فرض عالمية النمط الرأسمالي تقوم على قوة الاحتكارات وقوة دولتها.
 وسنلحظ أن الرأسمال الأقوى هو الذي يسعى لفرض "اقتصاد السوق"، ويسعى لأن تلعب دولته دورا مركزيا في "تهيئة المناخ الدولي" الضروري لنشاطه، بينما يلجأ الرأسمال الأضعف إلى وضع القيود الضرورية لحماية ذاته. وهذه مسألة نلمسها فيما بين الرأسماليات( الأمير كية/ اليابانية/ الأوروبية) في إطار المركز الرأسمالي، وقد تمتدّ إلى الأطراف حيث يجري الصراع من أجل احتكارها لمصلحة رأسمالية محددة أو فتحها للتنافس بينها.
 لكن ستبدو المسألة أعقد فيما يتعلق بالأمم المخلّفة (أي الأمم التي بات تخلّفها ناتجا عن فعل المركز الرأسمالي)، لأن اللاتكافؤ هو الذي يحكم العلاقة بينها وبين المركز (أي الأمم الرأسمالية)، ويتمثّل اللاتكافؤ من حيث التوصيف بعدد من السمات هي: الصناعة/ غياب الصناعة، التمركز الرأسمالي/ غياب التمركز، الغنى/ الفقر، الحداثة/ التخلف. وهي سمات ليست "عضوية" بل نتجت عن النهب الرأسمالي منذ أن نشأت الرأسمالية، والذي تحقق عبر الاستعمار أوّلا، ومن ثمّ أصبح يعاد إنتاجه عبر "اقتصاد السوق" ثانيا. كانت الليبرالية تقوم على أن حرية التبادل في السوق هي التي تحقّق التطوّر وتعظّم الأرباح و"تدقّق" السلعة (أي تحسّن من طابعها) وتستوعب قوّة العمل، وكذلك تحدد الأجور، وبالتالي تؤسّس لآليات اقتصادية منتجة وقادرة على أن تتخطى معوقاتها، ولهذا كانت الليبرالية تساوي حرية السوق. إذا كانت الليبرالية كذلك فقد أبانت مئتا عام من سيادتها أنها وهي تتطوّر في المركز وتدفع قوى الإنتاج إلى الأمام، كانت تعيد إنتاج التخلّف في الأطراف، وظلّت تحصر قوى الإنتاج في المركز ذاته مانعة توسّعها إلى الأطراف، وبالتالي معيدة إنتاج البنى القديمة مع شيء من التحديث الضروري لها، الأمر الذي جعل الحداثة والصناعة هما جوهر مشروع القوى "المنشقة" عن النمط الرأسمالي، لأن بقاء الأطراف ضمن النمط الرأسمالي إضافة إلى أنه كان يعيد إنتاج التخلّف فقد كان يفاقم الصراع الاجتماعي المحلّي ضد الرأسمالية المحلية (التي عملت كوكيل لرأسمالية المركز)، مما كان يفرض الميل للانشقاق عن ذاك النمط.
 وإذا كانت كل التجارب "المنشقة" (الاشتراكية وحركات التحرر) قد انهارت، فهل العودة إلى الاندماج في النمط الرأسمالي ذات فائدة لتلك الأمم؟ لقد كان"الفشل" المعبّر عنه بانهيار النظم التي قادت عملية الانشقاق تلك، أساسا للتأكيد على ضرورة العودة للاندماج في النمط الرأسمالي، وللقول بأن التطوّر الحقيقي لا يتحقّق سوى ضمنه إلى أن تستنفد الرأسمالية طاقاتها على التطوّر، مما يفسح المجال لتحقّق الاشتراكية. ومسألة المنافسة وسيادة اقتصاد السوق في جوهر التأكيد على أن التطوّر سيتحقّق في إطار هذا النمط، دون ملاحظة أن التنافس في إطار اللاتكافؤ لن يفضي سوى إلى إعادة إنتاج التخلّف، فقد كانت حرية الاقتصاد- كما لاحظنا- تؤسّس لنفي الحرية ذاتها وإنتاج الاحتكار، وهي عملية نشأت في المركز ومازالت تفعل فعلها رغم التكافؤ الذي يحكم العلاقة بين الرأسماليات، ومازالت تفضي إلى انهيار شركات وتمركز أخرى في عملية مستمرة منذ نشوء الرأسمالية. ولهذا فان حرية الاقتصاد تؤسّس لنفيها الذاتي عبر صيرورتها الذاتية، مما يزيد من عملية التمركز والتركّز الرأسماليين، ولقد أفضى إلى نشوء شركات بالغة الضخامة (الشركات متعدية القومية) باتت تمارس سياسة احتكارية، سواء عبر مقدرتها على دفع الشركات الأقل ضخامة إلى الإفلاس، أو عبر شرائها لشركات أخرى تعمل في حقول مكمّلة لنشاطها (مثل التجارة أو المصارف بالنسبة للشركات الصناعية....) الأمر الذي كان يؤسّس لنفي المنافسة موضوعيا نتيجة مقدرة الشركات الاحتكارية على التحكّم بالأسواق ذاتها.
 إن الاندماج في النمط الرأسمالي عبر اختيار اقتصاد السوق يفرض التكيّف مع مقتضياته،حيث ستخضع اقتصادات الأمم المندمجة لمنافسة لا متكافئة تقود إلى تدمير كل التطوّر الذي تحقّق في فترة انشقاقها. المسألة هنا تتعلّق بعنصر التفوّق الذي تحقق للرأسمالية نتيجة أسبقيتها واحتكارها التكنولوجيا والتراكم الرأسمالي، وقدرتها السياسية/العسكرية، حيث سنلمس- إذا ما استثنينا المسألة الأخيرة، أن توحيد العالم في إطار السوق الحرة سوف يقود إلى منافسة غير متكافئة نتيجة عدد من المسائل التي توفّرت لرأسماليات المركز، يمكن تحديدها في النقاط الآتية:التراكم الهائل لرأس المال لدى حفنة من الرأسماليين، وتضخّم رأسمال الشركات الاحتكارية إلى المدى الذي يجعلها التفوّق التقني الذي باتت تستحوذ عليه نتيجة التراكم العلمي والمعرفي، وكذلك الخبرات الهائلة التي باتت تستحوذ عليها.
1) المستوى العلمي، الأمر الذي يسهم في المستوى التقني العالي للمنتوج.
2) سعة الأسواق التي تستحوذ عليها تلك الشركات مما يتيح لها الإمكانية للإنتاج الضخم الذي يسمح بخفض أسعار المنتوج.
 هذه المسائل تجعل الرأسمال المحلي ينزع ليس للتوظيف في النشاط المنتج، بل إلى التوظيف في القطاعات المكمّلة لنشاط الرأسمال في المركز (وهنا التجارة/الخدمات/ المال)، أو التوظيف في المركز الرأسمالي ذاته، لأن التوظيف في النشاط المنتج يواجه منافسة هائلة نتيجة ما أشرت إليه سابقا، وهو الأمر الذي يجعل الرأسمال المحلي لا يخوض في هذه المغامرة.
 إن بناء الصناعة (وكذلك تطوير الزراعة وحتى بعض قطاعات التجارة والمال والخدمات) يواجه بمنافسة خطرة من قبل الرأسمال الإمبريالي نتيجة فارق التقنية في المنتوج والقدرة على المناورة في أسعار السلع (بفعل ضخامة الرأسمال وسعة السوق كون العالم هو سوق الرأسمال الإمبريالي). هذه المعادلة هي التي تفرض أن يرتبط بناء الصناعة وتحديث الزراعة بدور الدولة في المجال الاقتصادي (سواء للحماية أو الاستثمار)، وبالتالي فان تخلي الدولة عن هذا الدور يعرّض الاقتصاد (ولاسيما القطاع المنتج) لمخاطر هائلة نتيجة الاختلال في المنافسة. لقد تعرّضت الصناعات التي نشأت زمن الانشقاق إلى الانهيار نتيجة هذا الاختلال، وكلما توسّع فرض اقتصاد السوق كلما اتسعت رقعة القطاعات الاقتصادية المعرّضة للانهيار. إذاً ستتعرّض كل الأمم التي تلتحق بالنمط الرأسمالي للانكشاف حالما تخضع لشروط الشركات الاحتكارية الإمبريالية، المنفّذة عن طريق صندوق النقد والبنك الدوليين أو عن طريق اتّفاقات الشراكة أو السوق الحرّة مع الدول الإمبريالية، أوعبر ضغط الدولة الأمير كية. وسوف يتدمّر كل التقدّم الذي تحقّق طيلة سنوات الحرب الباردة (رغم محدوديته)، لاسيما في المجال الصناعي (صناعات النسيج والأدوية...)، وأيضا في المجال الزراعي. وهو ما حصل في كل الدول التي انفتحت على "السوق العالمي" دون قيود، أو على العكس بشروط هي في مصلحة الرأسمال الإمبريالي.
 المسألة إذاً تتعلق بالقدرات ولا تتعلق بالنيات أو الآمال. حيث سيؤدي الانفتاح الاقتصادي إلى انهيار في قطاعات اقتصادية مهمة، وبالتالي إلى تراجع الدخل العام، ولكن أيضا إلى تشريد مئات آلاف العمال والموظفين، وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد مستورد يعتمد على المركز الإمبريالي ويكون تابعا له، كما يفضي إلى تصدير الرأسمال المحلي إلى المركز ذاته. إنها عملية اندياح السلع والرأسمال الإمبريالي، مما ينتج الدمار ويعيد الإلحاق من موقع التابع المتخلف، والذي يفتقد أي مشروع يهدف إلى تحقيق التطوّر.

البديل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي الثقة بين شيرين بيوتي و جلال عمارة ???? | Trust Me


.. حملة بايدن تعلن جمع 264 مليون دولار من المانحين في الربع الث




.. إسرائيل ترسل مدير الموساد فقط للدوحة بعد أن كانت أعلنت عزمها


.. بريطانيا.. كير ستارمر: التغيير يتطلب وقتا لكن عملية التغيير




.. تفاؤل حذر بشأن إحراز تقدم في المفاوضات بين إسرائيل وحماس للت