الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دعوة لإستعادة الوعي

علي جرادات

2007 / 5 / 22
القضية الفلسطينية


بمعزل عن ما يُساق له مِن تبريرات؛ وبغضِّ النظر عن ما يُحاك له مِن سواتر ومرجعيات "وطنية" و"دينية"، فإن ما جرى ويجري في شوارع غزة مِن لعبة دموية مدمِّرة، هي حرب قَبَليِّة بالتمامِ والكمال، وإن ظهرت على شكل اقتتالٍ بين فصائل سياسية. والحال، تنهال الأسئلة: لماذا؟ وبفعل ماذا؟ ولأجل ماذا؟ ولصالح مَن؟ وفي خدمة مَن؟ وبأيِّ حق؟ وبأية مرجعية أخلاقية أو وطنية أو دينية أو نضالية يمكن تسويغها؟ وما هي الحقائق المُرَّة التي يكشفها هذا التيه الفصائلي الذي يذبح الفلسطيني في الوطن والشتات مِن الوريد إلى الوريد؟
قبل الخوض في هذه الأسئلة، حريُّ التذكير أن البشر لا يمكنهم أن يحصدوا إلا ما زرعت أيديهم، وأن زَرْعَ الشوك لا يجني غير الجراح، وأن المداخل الخاطئة لا يكون التقدم معها إلا سيراً للخلف. وبالتالي، فإن التعبئة الفصائلية الفئوية الحاقدة على مدار سنوات ما كان يمكن لها أن تنتج إلا فظاعات لعبة الدم، عادت تتجلى مجدداً في مشاهد رهيبة يندى لها الجبين، عكستها صور أشلاء الضحايا مِن الأطفال والنساء ومقاتلي أفراد الأمن الوطني وحرس الرئاسة و"كتائب القسام" و"كتائب شهداء الأقصى". نعم، هذا هو الحصاد المُرْ، والنتيجة الطبيعية لوصلاتٍ ووصلات مِن الردح والقدح والتحريض والإتهام المتبادل بالتخوين والتكفير وبرمجة العضوية الحزبية على الكره والحقد. ألم تقل الآية القرآنية الكريمة: "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره".
مع ذلك، فإنها مفارقة عصية على الفهم حقاً، أن نجد أنفسنا نحن الفلسطينيين بعد عقودٍ مِن النضال الوطني وخبرته؛ وفي مطلع القرن الحادي والعشرين، نغوص في مستنقع إحتراب قَبَلي، فيما كان النبي العربي محمد (ص)، وقبل أربعة عشر قرناً ونيِّف، قد دعى لتمدين العرب وتخليصهم مِن عصبياتهم القَبَليِّة التي نهاهم عنها بقولٍ بليغٍ وعظيمٍ في آن، حيث قال (ص): "دعوها إنها منتنة"، وقال مرة: "مَن بدا (أي عاد بدوياً بعد أن تحضَّر) فقد عدا (أي إعتدى على الإسلام).
كثيرة هي الحقائق المُرَّة التي يشير إليها ما جرى ويجري مِن اقتتال داخلي في شوارع غزة بالتوازي والتزامن مع القصف الجوي والمدفعي الإسرائيلي الإجرامي، فاللجوء إلى لعبة الدم المُدَمِّرة لحسم التعارضات الفلسطينية الداخلية، ليس مجرد تعبير عن شدة الأزمة التي تعصف بأطراف الحركة الوطنية، ولا هو مجرد إنعكاس لعمق حالة الفوضى والفلتان التي تعتري مبناها الداخلي، بل هو فوق هذا وذاك وقبله تعبير عن مواطن خلل بنيوية في المبنى الذهني لسائد تركيبها القيادي، فلعبة الدم هذه لا تتم بمعزل عن قراراتِ مستوياتٍ قيادية بعينها. وهذا مرعب فعلاً لأنه ينذر بمخاطر حقيقية على المشروع الوطني برمته، ويعكس وعياً فقيرا وقَبَلِياً وقاصراً لهذه القيادات، ويشي بغرقها في تحديدات ذاتية تَحُولُ بينها وبين رؤية حاجات الشعب الفلسطيني وتحدياتهِ الواقعية.
لقد أختُرِقت الخطوط المحرمة وجرى تجاوزها، وأنتُهكت القيم الوطنية وتمَّ مسخها، ودُنِّسَت بنادق المقاومة وجرى تجريدها مِن شرفها، وطغى الوعي الفصائلي على الرؤية الوطنية، وسادت الحسابات الذاتية على كل ما هو وطني عام مِن الحسابات، وتسيَّدَ التكتيكي على الإستراتيجي، وإن تلفع به، وجرت عملية "أبلسة" الغير و"تقديس" الذات خارج الفحص بمعيايير الإنجاز الملموس، وإنتفى طرح البديل لصالح التعَيُّش على أخطاء الغير، وأستُمِدَّ الوجود مِن "شتم" الغير وليس مِن طرح الإيجابي وتقديم المبادرة الذاتية وتحقيق الإنجازات للشعب والدفاع عنه، وحلَّ "التناطح" بين القوى السياسية بدل تنافس برامجها، وأختُزلت العملية الإنتخابية في النتيجة الرقمية، وغاب معيار ماذا أنتج مَن نجح ومَن فَشل؟، وأصبحت مواجهة العدو تمر عبر تدمير المُنافسِ الداخلي وليس عبر الإتحاد معه، وحلَّ الوعي الساذج لفهم لوحة التناقضات وكيفية إدارتها ومعالجتها، وتسَطَّحَ التفاعل مع البعد القومي للقضية الوطنية، وجرى حصره في منطقٍ نفعي يرى فيه مصدرا للدعم المالي والسياسي ضد الخصم الداخلي، وجرى مسخ علاقة الطلائع الوطنية المُنظمة بالشعب، فبدل طرح البرامج الفصائلية المختلفة كخيارات قابلة للفحص والتمحيص والتفكير، يجري فرضها كواجب على الناس أخذه كمسلمات للتنفيذ ليس إلا.
إذا كان هذا هو حال المبنى الفكري والذهني للكثير مِن القيادات، يغدو السؤال: أين الغرابة في أن تكون لعبة الدم تحصيل حاصل؟!!! بل أين هي الغرابة في أن يضع كل فلسطيني يده على قلبه خشية إنهيار المشروع الوطني برمته؟
قبل أيام، وهرباً مِن جحيم التفكير في تبعات ما يجري في شوارع غزة مِن جنون وطني، ذهبت لزيارة صديق يفوقني حكمة وخبرة، وأثق بدقة قراءته رغم ما بيني وبينه مِن تباين. إستضافني، وبعد فنجان القهوة، بادرته بسؤال: هل نحن الفلسطينيون نقترب مِن الطوفان؟ قال: بل نحن فيه. وأضاف: كنت في موسكو عام 1988، وكنت أتجوّل في شارع "أوربات"، شارع الفن والفنانين. ورأيتُ عجوزا يبيع "وساما سوفييتيا" ببضعة دولارات. صاح به رجل قائلا: ويحك انك تبيع تاريخَك، ورمزَك!!
وراح الرجل يبكي، ويضرب رأسَه بالجدار، ويقول: سينهار الاتحاد السوفييتي!!! وبالفعل لم ينتهِ ذاك العقدُ قبل أن ينهار الاتحاد السوفييتي رغم "الوَحْمَة" على "صلعة" غورباتشوف.
وأضاف صديقي: كنت في بغداد على أعتاب القرن الواحد والعشرين، ورأيتُ مثقفا عراقيا قد "بَسَّطََ" بمكتبتهِ على رصيف أحد شوارع بغداد يبيع كتبه بدريهمات قليلة، حتى الكتب التي علّق على حواشيها بقلمه لم يستطع ان يحتفظ بها، فذكّرني بمسرحية "كاسك ياوطن" عندما "بَسَّطَ" دريد لحام بابنائه الثلاثة ليبيعهم. يومها بكيت، فقالت زوجتي: وما يبكيك؟
قلت: كان معروفا أن الكتب العربية تُكْتَبُ في القاهرة، وتُطْبَعُ في بيروت، وتُقْرَأُ في بغداد... وها أنتِ تَرينَ أن الكاتبَ في القاهرة يُطارد فيهاجِرُ الى غير بلد عربي، وترين المطبعةَ في بيروت تُغلَق أو تُهدم، وترين الآن المثقّفَ في بغداد لم يعد يجد ما يقوتُ به نفسَه وذويه...
وبعد "بسطة" المثقف العراقي بأقل من ثلاثة أعوام أحتل العراق.
ويصل الأمر ذروته في فلسطين، وفي غزة تحديداً، فالإنسان الفلسطيني الذي يقتات بمساعدات دولية يجد خبزه المُر بين طلقات الاقتتال وصواريخ الاحتلال، ولا يدري أين المفر، فكل دروبه مغلقة، وبصيص الأمل (المقاومة) الذي طالما تسلح به بات يذوي حيث النار تأكل بعضها. بلى، إنه مشهد سريالي بالتمام والكمال، فالفلسطيني هذه الأيام يُشوَى على نارِ القهر والغيظ والحصار والعزل والتجويع والقصف والتدمير والجرح والإغتيال والإعتقال، وفوق كل هذا على بارود "الاخوة الاعداء"، فيما لا يلوي القادة الا على تبييت المكائد والكمائن لبعضهم بعضاً، تآكلاً على قصعةٍ فارغة، هذا هو إدْقاعُ الوعي الوطني.
المشروع الوطني في خطر، وإستقالة الوعي التجسيد الميداني لإستقالة العقل هو المظهر الأساسي لذلك الخطر، وهذه الكلمات ليست سوى دعوة إلى إستعادة الوعي ومغادرة "العصبيات القَبلية" في العمل السياسي والنضالي الفلسطيني. إنها دعوة مِن أجل بناء الذات الحزبية على فكرة نبيلة للحق والعدل والحرية والمساواة. هذه المنطلقات الأخلاقية التي ثبت أنها تحتاج إلى أكثر مِن النوايا الطيبة والإخلاص البريء لتحقيقها. إنها تحتاج إلى قوننة وضميرٍ حي يستلهم حاجات الموضوع (الوطن والشعب) قبل أن يدافع عن وجود الذات الحزبية، وعن عدم تمفصلها مع المشروع الوطني وأهدافه المُهَدَّدة. كما تحتاج إلى قيادات وطنية جسورة وحكيمة في آن، تنأى بنفسها عن السقوط في النزعات الزعاماتية المتطرفة ونزعات التضخيم الأيدولوجي التي ترى في الوطن مطية وفي الشعب رعية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا تحاول فرض إصلاح انتخابي على أرخبيل تابع لها وتتهم الصي


.. الظلام يزيد من صعوبة عمليات البحث عن الرئيس الإيراني بجانب س




.. الجيش السوداني يعلن عن عمليات نوعية ضد قوات الدعم السريع في


.. من سيتولى سلطات الرئيس الإيراني في حال شغور المنصب؟




.. فرق الإنقاذ تواصل البحث عن مروحية الرئيس الإيراني إبراهيم رئ