الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخروج عن التقليد عند الشاعر عبد الامير الحصيري

صدام فهد الاسدي

2007 / 5 / 25
الادب والفن



لا يختلف اثنان معاصران للحصيري ومتابعان له في الوقت الحاضر بأنه صاحب قدرة على الكتابة الشعرية بأشكال متعددة ضمن انساق متناوبة كالرباعيات والخماسيات والمقطوعات الشعرية ، زد إلى ذلك التشكل المزدوج والحديث.
وكلنا نعلم بأن للشكل الشعري دورا مهما في تكوينات تجربة الشاعر التي حفلت بنماذج مختلفة من تلك الأشكال التي استقاها من مصادر متنوعة منها الموروث الشعري القديم دون أن يقلد أحدا ونقولها للزمان مصرين بأن الحصيري قد جدد في موضوعاته مع حفاظه على الشكل الشعري ونمطية العمود التي سار عليها معاصروه ، والذي يتمعن في قصيدة (بائع الدم) مثلا لوجدها ذات موضوع يبتكره الحصيري جديدا يحكي به حكاية واقعية لمن يبيع دمه إلى المرضى المحتاجين وحسبنا أن تلك القضية ما زالت تعاصرنا ونسمع بها وهي من صلب واقعنا دون خيال ، ولكن الحصيري يؤكد مسارات حزنه مستنيرا من البلاغة في رصف أحزانه مكنيا عن المرض الذي ابتلي به قائلا :
صفر فمي رئتان من ذهب
وعرائش صفارة السغب
وكأنه يريد أن يعلن عن تجارة رابحة مستفيدا من المجاز قائلا :
اجتابها أمشي بخطفتها
طربا على أرجوحة الغضب
تقتاد وهمي نحو أقبية
منحوتة بسريرة العجب
أتصفح اللحظات أحبلها
طبق العفاف مزامر اللهب
ومن خلال تلك الأبيات نشمّ رائحة جديدة في موضوعية الحصيري وان لبست الأبيات شكلا تقليديا وقد ركز الشاعر عن سرورية مضارعة في قوله (اجتابها ، أمشي ، أتصفح ، أجملها) وحين ينقل تأثريات الحياة يقول (تقتاد) ولا تخفي القصيدة بنفسها دلالة واضحة أراد بها الطعن السياسي المكشوف فلماذا يبيع المرء أغلى ما عنده وهو الدم ، وعند تساؤلات الحصيري ليست جديدة ولا أجد الحصيري إلا مجددا في تلك الإضاءات الشعرية مثال ذلك :
وإن الريح عملاق
يفضّ بكارة البحر
وهذي الأرض بركان
يشب مجامر العهر
وإلا كيف يشرب مقلتي الشعر قائلا :
أنا ابن الشعر اشرب مقلتيه
ويطعمني الحياة براحتيه
ولم نسمع شاعرا في حياتنا أكل الشعر ، انظر قوله :
إلى متى ستبقى تأكل الشعر جائعا
وتطفئ في ألحانه حر واجد
وقد البس القوافي ثوبا ولأول مرة تأتي تلك المجازيات عند الحصيري قوله:
ولم ازحم الريح في ثياب القوافي
وها هو يعاكس الآخرين فالطرق التراب أمامه لكن الآخرين قبله وصفوا أنفسهم قد تربوا من الطرق ، انظر قوله :
أنا الشريد لماذا الناس تذعر من
وجهي وتهرب من أقدامي الطرق
وحين يصف ثورة الرابع عشر من تموز يستخدم العدد استخداما جديدا لم يسبقه غيره :
تموز عدت لرائد بك بحلة
خضراء تحتضن الطموح وترقد
وأعدت رابع عشرك الزاهي الذي
أذواه من قيظ الحوادث موقد
حتى كادت المجازات ترتصف مع صفحاته بشكل مميز منها (وشاح النهار) ، (حلم المدى) ، (خفقات الوميض) ، (سبات النار) ، (لغة النهار) ، (نهر العظام) ، (أجراس الضحى) .
وقد قلب الاستخدامات التي ورثها قبله ، مثال ذلك بناة الحق سماها بناة الشمس :
يا بناة لشمس في وطني
بكم الأحلام تكتمل
(وأتون النار) إلى أتون الجراح ...
ضمي بعينيك أتون الجراح
وغلفي في شفتيك الصداح
وحتى الشهوة الجسدية جاءت عند الحصيري بوصف جديد ، فلم نقرأ لشاعر آخر وصفا للنهد كما قال الشاعر :
رفقاً بخفقة قلبي المتوقد
نظراتك الشرهاء تأكل مقعدي
ونهودك الحمقاء برعم كبرها
بين العروق من اللظى المتوقد
ولأول مرة نقرأ هذا الوصف الجديد عند الحصيري وهو السباحة بين النهدين ، اقرأ قوله:
وخط نهديك نهير من العبير
يجري من لظى شهوتك
هل تسمحين أسبح حتى أرى
الحياة والآمال في لجتك
وقد قرأنا أن الشعراء قد سكروا عندما شربوا لبن حبيباتهم وتمكن الحصيري قد سكر كأسه فكيف بحاله ، انظر قوله :
سكرت كأسي لما
شربت من نظراتك
ولأول مرة يطلق الحصيري على شعره (قبيلة شعري) بل يسميه المفقود ، انظر قوله :
قبيلة شعري المفقود إني
بعيد نداك من ألم قتيل
وفي عرض الرثاء نجد الحصيري مختلفا تماما عن غيره فقد تخيل الموت ورفض سخرية المقابر وهلع طالبا السرعة في اللقاء قائلا مخاطبا مقبرة النجف :
ومن عذابي أصيح يا نجف
يا موطن الأشقياء يا شرف
ولأول مرة يطلق كنية على النجف (بحر اللحم والعظام ) قائلا سافرا من المقبرة :
حتى إذا ما غرقت جنازتي
بضحكة تفضحها المحاجر
وقد احتلت الخمرة جديدها وهي من أغراضه الكثيرة والدائمة ينظر إليها نظرة يفصح من خلالها عن نقاشه وقلقه مخاطبا الخمرة (ابنة النخل) "
يا ابنة النخل اعصف بكياني
واطعني اعرقي وشيلي يديا
حتى وصف الخمرة بالغيوم الماطرة ... قائلا:
أمطري وحشتي لتزهو سلونا
وشبي نارا على شفتيا
ولأول مرة يحدد الحصيري مكانا خاصا للخمرة وقد انفرد حقا بهذا الوصف :
لم أدع للطعام بين شراييني
مكانا عليك جهماً دجيا
وها هو يكون مملكة من الخمرة وهذا جديد الحصيري أيضاً :
وحتى تلوح لي الدنيا وإن قتمت
أسنى وأجمل من حور ومن عين
وأغتدي قصرا فيها ومملكتي
حانٌ وجندي أقداحي وقانوني
أهدي القصور منيفات وما ملكت
يداي سقفاً من البرديّ والطينِ
ولأول مرة يسمي الحصيري الخمرة (إلهة العاصين) ولم أقرأ طوال عمري تلك الكناية ، انظر قوله :
إلهة العاصين أنت العاشقي
خضر الجفان مرادها المأنوس
ولم نسمع أن للخمرة شاعراً أطلق على نفسه ربها سوى الحصيري:
وها أنت قد أصبحت للخمر ربها
وأصبحت الأقداح ترعتها الكبرى
إن هذه الأمثلة المارة تلفت الأنظار إلى فنية خاصة بالحصيري الذي قام فنه الشعري على لغة تتنوع ورافدها ففيها التراث والصور التراثية والتضمين والصيغ النثرية والإعلام والمصطلحات الحديثة والأسماء الغربية ومع كثرة مفردات سوقية كادت أن تقتل شعره.
وقد حملت صورته الفنية آفاقا ملونة اتكأت على بلاغة قائمة على التجسيد وللتجسيم للأشياء المادية والاستعارة بأنواعها مثال ذلك قوله:
والنهر يرقص حيث ينشد صادح
والبدر ينصت إذ يحدث خاطب
وهذه الصورة أراها من ابتكار الحصيري مجدداً . وقد أصبح الحصيري خالقا لتلك الصورة التي انفرد بها:
وأنا الذي إن شئت فجّرت الثرى
لغة بها تتفاهم الأحجارُ
وهكذا فجّر الحصيري لغة جديدة وسقى أشجار الصمت لغة أخرى وقصائد تستحق الدراسة والتمعن .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات


.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته




.. كلمة أخيرة - قصة نجاح سيدة مصرية.. شيرين قدرت تخطي صعوبات ال