الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غجر الثقافة في العراق

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2007 / 5 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


إن الثقافة الكبرى معاناة متراكمة على مستوى الفرد والجماعة في كيفية حل إشكاليات الوجود التاريخي للأمة والدولة. وهو الطريق الوحيد الذي يجعل من الثقافة مكونا جوهريا بالنسبة لوعي الذات واستشراف المستقبل. فالثقافة الكبرى هي ثقافة المستقبل، أي الثقافة المتحررة من ثقل الماضي والفاعلة بمعايير التجارب الذاتية. وهي المفارقة الصعبة التي تجعل من الممكن تراكم التجارب النوعية في تأسيس وتنظيم فكرة الجمال والجميل في الروح والجسد. وعلى العكس من ذلك، تصبح كل الأفعال أشياء أشبه بألوان الغجر المزركشة، أي اقرب ما تكون إلى أطياف عابرة في غبار الذوق الفاسد.
إن الثقافة الحقيقة تراكم، بينما ثقافة الغجر بعثرة أبدية! وهي الحالة التي يقف أمامها العراق والمثقف فيه على السواء. إننا نقف أمام حالة اقرب ما يكون العراق فيها إلى ميدان تستبدل فيه ألوان الحياة الطبيعية بألوان الغجر. وهي حالة تكشف عن انحطاط الذوق والآفاق. لكنها حالة معبرة عن واقع الانحطاط المادي والمعنوي للنخبة السياسية.
فالقوى السياسية تبعثر الثقافة بطريقة واعية أو غير واعية عبر محاولاتها إدراج الثقافة والمثقفين في فلك تصوراتها ومصالحها الحزبية. وهي حالة تعكس تدني الفكرة السياسية و"ارتقاء" الفكرة الحزبية. وبالتالي هي ليست مجردة عن المأزق الذي تعرض له المجتمع المدني في العراق ونخبه المتنوعة، أي كل ما جعل من رجال الأحزاب وأزلام السلطة القوة الوحيدة الناطقة بلسان "الأمة" و"المصير" و"التاريخ"، رغم جهلهم الشنيع بكافة هذه القضايا. وهي نتيجة لم تكن معزولة عن سيادة الزمن الراديكالي الذي جعل من الأحزاب ممرا للحثالة الاجتماعية والقومية والعرقية والمذهبية للهبوط في حضيض السلطة!
إن تحول السلطة إلى حضيض هي مفارقة العراق الكبرى، التي جعلت من الجهلة إلى علماء، ومن أنصاف المتعلمين قادة، ومن أشباه المثقفين رعاة للثقافة! وهي نتائج محكومة أساسا بفقدان الدولة لأسس وجودها الشرعي. فالشرعية هي شرط التراكم الثقافي والاحتراف
الاجتماعي والسياسي والمهني. وهذه بدورها ليست معزولة عن اضمحلال أو تلاشي دور النخبة المثقفة في الحفاظ على استقلالها الذاتي، بوصفها القوة الروحية للمجتمع والدولة والسلطة.
لقد أدت هذه الحالة الشاذة المتراكمة منذ الانقلاب العسكري للرابع عشر من تموز عام 1958 إلى نتائج وخيمة لا تحتاج إلى جهد تحليلي تاريخي وعلمي من أجل تلمس خشونتها بالنسبة للجسد، وسماع نشازها بالنسبة للروح، وشم عفونتها بالنسبة للضمير، ورؤية انحطاطها بالنسبة للعقل.
غير أن الأحداث الحالية في ظروف العراق الدرامية والدامية تشير إلى أن الدرس التاريخي لهذه الظاهرة المخربة لم يجر إدراكه بصورة جيدة لا من قبل النخب السياسية ولا من قبل اغلب النخبة المثقفة. بمعنى إنهما كلاهما ما زالا يسبحان في مستنقع الأوهام والأهواء. وهي حالة لا يمكنها أن تصنع في ميدان الثقافة شيئا غير ما أسميته بغجر الثقافة. وليس المقصود بغجر الثقافة سوى ذرات الغبار المتطايرة من حوافر المعارك العنيفة بين الفكرة العامة والمصالح الجزئية والعابرة، أي الصراع بين أولئك الذين يمثلون الفكرة الوطنية العامة، العراقية والعربية، والدولة الشرعية والنظام الديمقراطي، وفكرة المواطنة والحقوق المكفولة بالدستور، وبين أولئك الذين يمثلون مصالح الجسد الخائر وغرائز الرغبات المترهلة. وهو صراع جوهري وتاريخي كبير يتوقف على كيفية حسمه آفاق تطور الفرد والمجتمع والثقافة والقومية والدولة.
فالتجارب الكبرى للأمم القديمة والحديثة تبرهن على أن الحل الايجابي لهذا الصراع مرهون بصعود النخبة المثقفة وقيادتها للعملية التاريخية، من خلال تأسيسها للمفاهيم النظرية والقيم العملية. كما يبرهن التاريخ القديم والحديث على أن تراجع أو اندثار المثقف الحر هو مقدمة اندثار الحرية والفكرة الحرة، مع ما يترتب عليه بالضرورة من انحطاط ملازم وسقوط محتم في هاوية العبودية والتخلف.
فالمثقف الحر إمبراطوري النزعة وكوني المنزع. بمعنى انه الممثل النموذجي لإمبراطورية الروح ونزوعها الكوني. وهي مكونات جوهرية بالنسبة للثقافة الكبرى. ومن ثم فان المثقف الكبير هو إمبراطوري النزعة وكوني المنزع بالضرورة، أي أن تمتعه بهذا الاسم يفترض منه بالضرورة التحرر من نفسية القطيع والعوام. أما حالما يكون رهن إشارة الأحزاب ومخربي الروح من التجار والمنافقين والمتسلقين، فان ذلك دليل على سقوط الثقافة من علياء كينونتها الذاتية بوصفها رحيق المعاناة الفعلية للحرية، إلى حضيض الهوس الجسدي للغريزة. وهو سقوط يفقد المثقف كينونته الخاصة ليجعل منه صيرورة تافهة في رياح الأحزاب الفاسدة. مما يجعل منه قشه تطفو على أمواج الرذيلة وقابلة للتنقل السريع والحركة الهائجة بين أزقة الخراب وأروقة التملق، كما نراها في ظروف العراق الحالية! وهي حالة تجعل من الضروري إعادة تأسيس الفكرة الجوهرية عن المثقف بوصفه فرادنية حرة.
إن حقيقة المثقف فردانية واحتراف في ميدان الحق والحقيقة. وهي فردانية تستمد أصولها وتحقيقها العملي الدائم في كونه الممثل النموذجي لعوالم الحكمة. والحكمة النظرية والعملية هي خروج على العقل والبقاء ضمن آفاقه الإنسانية. وهو خروج يحتوي بذاته على تذليل كل أنواع الاستعداد على تبرير الواقع. فحقيقة الحكمة هي تعبير جميل وفاضل عن عوالم الإبداع الحر. والإبداع الحر معاناة لا يقيده شيء غير الحق والحقيقة. والمثقف الحقيقي هو من يعيش بمعاييرهما. وهو سر الإبداع العظيم، لأنه تجسيد فرداني لعوالم الخيال المبدع، أي للإبداع المتحرر من الأهواء والأوهام والإغواء.
وفي ظروف العراق الحالية والمستقبلية لا يمكن التخلص من خطر السقوط فيما أسميته بحالة غجر الثقافة دون التحرر من أهواء وأوهام وإغراء اليسار الخرب، والقومية العرقية، والتدين المفتعل، والطائفية المذهبية، والأصولية الدينية، والتوتاليتارية الدنيوية. فهي جميعا قوى حزبية، أي لا يمكنها التحرر من أهوائها وأوهامها وإغرائها الخاص بها. وهي مكونات ملازمة لها بوصفها الصيغة الباطنية لظاهر الخراب القائم في سيادتها أو انتشارها الحالي في ظروف العراق الحالية. بعبارة أخرى، ليس انتشار أو سيادة هذا النمط من "الثقافة السياسية" سوى الوجه الآخر لانحطاط الثقافة. وحالما يصبح المثقف جزءا من هذه التقاليد الرثة ورهن إشارة أحزابها السياسية، فانه يكشف أولا وقبل كل شيء عن غجريته الجريئة في تحدي أصوله بوصفه ممثل وحامل التراكم العقلاني للحق والحقيقة والحرية.
إن المثقف يفقد معنى وقيمة وحقيقة الثقافة حالما يكون رهن إشارة الأحزاب، أيا كان شكلها وحجمها ونوعها وإيديولوجيتها وغاياتها الظاهرة والمستترة. وهي فكرة لا تسعى لوضع المثقف بالضد من الأحزاب، بقدر ما تسعى لتأسيس هوية المثقف بوصفها ثقافة فرادنية، أي التزام بالحق والحقيقة والمستقبل. بعبارة أخرى، إن مهمة المثقف الجوهرية تقوم في التعامل مع الحقيقة والحق والمجتمع والتاريخ والمستقبل والقومية والدولة، وليس مع أهواء الأحزاب وأوهامها وإغوائها.
إن تاريخ العراق الحديث يبرهن بصورة قاطعة على أن انهماك الأحزاب في تصنيع "أسابيع الثقافة" و"مهرجانات ثقافية" و"منتديات ثقافية" و"هيئات عليا" وما شابه ذلك ليس إلا مصيدة ناعمة محبوكة من أوهام وأهواء التحكم بالثقافة والمثقف. وهو إغواء يعاني منه رجال الأحزاب وأزلام السلطة لتلميع الأوجه الكالحة أمام الشاشة والتاريخ! وهي محاولة بائسة، قد يكون مصير صدام حسين احد نماذجها الفاقعة. كما انه الإغواء الذي يداعب أنصاف المتعلمين وأشباه المثقفين في الركض وراء سراب لا قيمة له. وذلك لان الركض وراء أنصاف المتعلمين وأشباه المثقفين هو مهانة للنفس والفكر والمصالح العليا. لكنها حالة واقعية تعكس واقع العراق الحالي وموت الثقافة الحية فيه، بأثر زمن الراديكالية والاستبداد الحزبي والدكتاتورية الصدامية. ومن ثم لا يعني تهالك القوى العرقية والقومية الضيقة والدينية على كسب "المثقفين" عبر توظيف فتات الأموال المسروقة من اجل "إحياء الثقافة"، سوى لعب نفس لعبة الحثالة السكرانة أمام حركات الجسد المترهل للغجر!
يضع هذا الواقع أمام الثقافة العراقية البديلة مهمة البرهنة على أن المثقف الحقيقي ليس ممثلا على مسرح الوجود العابر للأحزاب والسياسة المبتذلة، بل هو نفسه مسرح الوجود والحقيقة. ففي الحالة الأولى يكون مصيره الانحطاط صوب طابور الغجر "الثقافي"، وفي الحالة الثانية يكون ملزما بالسير في طريق التماهي مع النفس والثقافة بوصفهما فردانية مبدعة. وفي هذا تكمن حقيقة المثقف، انطلاقا من أن المثقف فرادنية وموقف. بمعنى ضرورة الرجوع إلى النفس عبر تأسيس وتأصيل وتحقيق الثقافة الحقيقية، وليس عبر الأحزاب وأنصاف المتعلمين وأشباه المثقفين.
إن طريق المثقف الحقيقي هو طريق الثبات في الحقيقة، والبحث عن بدائل أسمى. وما عداه غبار وسراب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزب الله يعلن تنفيذ هجوم جوي على قاعدة إسرائيلية جنوب حيفا


.. من واشنطن | صدى حرب لبنان في الانتخابات الأمريكية




.. شبكات | هل قتلت إسرائيل هاشم صفي الدين في غارة الضاحية الجنو


.. شبكات | هل تقصف إسرائيل منشآت إيران النووية أم النفطية؟




.. شبكات | لماذا قصفت إسرائيل معبر المصنع الحدودي بين لبنان وسو