الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحن وعصر المابعديات

محمود الباتع

2007 / 6 / 2
العولمة وتطورات العالم المعاصر


ولأن العالم قد انكمشت حدوده حتى أصبح بفضل ثورة الاتصالات المريعة التي نعيشها بمثابة زقاق كوني تنحشر في أركانه كل أنواع الثقافات بمختلف أشكالها وألوانها واتجاهاتها، لا سبيل إلا إلى تفاعلها واحتكاكها وامتزاجها بعضها ببعض لتشكل معا عجينة ثقافية عالمية تنسحب على كل الشعوب والمجتمعات في العالم، وهو الأمر الذي اصطلح الناس على تسميته بالعولمة الثقافية التي نراها أخذت طريقها إلى التبلور شيئا فشيئا حتى أصبحت امرا واقعا يفرض نفسه علينا وعلى غيرنا بينما نكتفي نحن بالاندهاش والتفرج ولا نملك إلا الرفض والاحتجاج السلبي على ما يجري دون أن نملك حياله شيئاً.

ضمن المساحة الواقعة بين سوء الظن وسوء الفهم يقف أولئك الذين يعتقدون أن تناول الجذور التاريخية للثقافة العربية الاسلامية إنما يأتي من باب التعصب الديني أو من باب الجمود أو التحجر الفكري، أو ربما من باب التباكي على الماضي الذي ولى ولن يعود، ولا يفيدنا بشيء محاولاتنا المستميتة لإحياء العظام بعد أن أصبحت رميما، كما يرى هؤلاء أن العودة إلى دفاترنا القديمة لا تعدو كونها إفلاسا فكريا وثقافيا بعد أن أخفقنا في استيعاب متغيرات الدنيا من حولنا، والحقيقة أن الأمر ليس شيئا من هذا كله ولكن دعوتنا إلى التجديد الثقافي للمجتمع وتحديث المفاهيم تأتي بعد الفشل الذريع للتجارب التي كنا قد اعتمدناها سابقا وأثبت التطبيق العملي عدم نجاعتها في انتاج منظومة ثقافية تساعدنا على الوقوف في وجه كل هذه التيارات المعاصرة، التي أصبحت تتلاطمنا من كل صوب واتجاه ولم تكن دائما وبالضرورة تستهدفنا بالذات كأمة أو كشعوب ومجتمعات بعينها بقدر ما كانت تعمل باقتدار على تحقيق ذاتها وخدمة مصالحها الاقتصادية والسياسية وكان من نصيب بلادنا العربية أن تكون ميدان رماية أو معامل تجارب لها دون أن يكون من حقها أن تحظى بنصيب من هذه الوليمة الثقافية العالمية التي فاتنا منها الشيء الكثير.

لقد أدى بنا التداعي الماضوي والإغراق في الرومانسية التاريخية إلى تناسي حقائق مهمة عن واقعنا التاريخي الذي لم يكن بمثابة الفردوس المفقود بالنسبة لنا، ولكنه كان مليئا بالأزمات والمشاكل والنزاعات والحروب وربما أحدها ان الأمة العربية لم تكن تنضوي تحت لواء دولة واحدة إلا فترات وجيزة من عمر الزمن، حيث لم تكن تلك الدولة الواحدة عربية بالضرورة الأمر الذي يثير في النفس تساؤلات قد تكون مشروعة عن حقيقة ومصداقية فكرة القومية العربية تاريخيا، والتي يرى المفكرون الإسلاميون أنها ما جاءت إلا على أنقاض الهوية الإسلامية التي أسقطها انهيار الامبراطورية العثمانية التي كنا جزءا منها لقرون خلت كما يرون أن العروبة لم تكن أمرا ذا شأن قبل مجئ الرسالة المحمدية وقيام الدولة الإسلامية التي جعلت من العرب أمة ذات وزن تاريخي وحضاري، ورغم وجاهة هذا الرأي إلا أن التقوقع فيه لن يؤدي إلا إلى ضياع الوقت في سجالات لا نهاية لها بينما العالم يلهث للحاق بركب العلم والحضارة الحديثة التي قوامها العلم والتكنولوجيا التي لا نملك منها شيئاً يذكر ما عدا بعض الذكريات عن ماض نأبى إلا أن نراه جميلاً.

إن العالم لن يقف في انتظارنا حتى نحدد ونتفق على ملامحنا وعلى هويتنا الثقافية والحضارية، فالكل ماض في طريق النمو والكل يأخذ بأسباب التقدم من أجل تحقيق الرفاهية والراحة والكل يعمل وينجح حينا ويخفق أحياناً أخرى، بينما نحن نقف لا شأن لنا بما يجري إلا أن نلعن الظلام دون أن نحاول ايقاد ولو عود ثقاب يعيننا على تبديد حلكة ليلنا الذي طال كثيراً، خصوصاً بعد أن استمرأنا اللعب على تناقضات القطبين العالميين إبان الحرب الباردة الذي كانت نتيجته أن افتضح عرينا الثقافي والفكري على الملأ في عصر العالم أحادي القطبية، ووجدنا أنفسنا وقد أصبحنا على هامش الكون بدون أن نتفق على فكر أو انتماء أو حتى هوية نعرف بها بينما نعي تماما كأغلبية صامتة اننا على غير ذلك بل ونستحق من أنفسنا ما هو أكثر من ذلك.

لعل السر في نجاح التجربة الأمريكية هو اعتمادها على المبادرة الفردية والابداع الثقافي والعلمي أياً كان منشؤه بغض النظر عن جنس صاحبه أو عرقه أو دينه فكان الهدف هو إثراء العلوم والفنون والآداب والاضافة إلى تراكماتها وهو ما شغل المعنيين هناك بعملية البناء الإنساني فأبدعت للدنيا ما أبدعت مما نراه بحق أعظم تجمع بشري عرفه التاريخ منذ بدء البشرية حتى تاريخه، من حيث التفوق العلمي والاقتصادي والعسكري والسياسي على الرغم من بعض الشوائب المهمة التي اعترت مسار التجربة الأمريكية وربما شوهتها بعض الشيء ولكنها لم تمنعها من التقدم المستمر والنمو، دون أن تلقي كثير بال لما كان ينقصها من المضامين الثقافية التي اعتادت أن تزخر بها الحضارات التي سادت العالم في ما مضى، الأمر الذي أفرغ التجربة من قيمتها الإنسانية وأدى بها إلى أن تنتهي إلى مجرد آلة تنتج العلم والتكنولوجيا والمال والنفوذ دون أن تمتلك منظوراً روحياً أو أخلاقياً تسعى من أجل تحقيقه، فكان اللهاث المستمر وراء السيطرة والنفوذ من أجل تعزيز مواردها المالية والبشرية هو الشاغل الأول والأخير لهذا المشروع الجبار وقد يكون هو أحد أهم أسباب اندفاعه في طريق الانهيار السريع بعد فشله في قيام حضارة على غرار الحضارات البشرية الأخرى.

بينما يتوقف العالم الغربي ومن سار في ركابه في هذا الظرف التاريخي لالتقاط الأنفاس ومراجعة النفس حول ما حققته الحداثة من انجازات لاتخفى للبشرية فإن عقلاءه لايوهمون أنفسهم بأن تجربتهم قد أفلحت في جلب السعادة للبشرية التي كانت هاجس أبناء آدم منذ الأزل، وذلك على الرغم من كل هذه الانجازات العلمية والاقتصادية والطبية التي تخبرنا أرقامهم بتصاعد حالات الانتحار بين الشباب والاقبال المطرد على المخدرات وكم المرضى النفسيين الذين يدل عليه نمط العيش الذي يحياه الأطباء النفسيون لديهم الذي يشير إلى مدى تضخم أرصدتهم في البنوك. نعم لقد بدأ الحكماء من أهل الغرب والعالم يطرحون علناً فكرة عودة عصر الحداثة القهقري الى حيث بدأ وصار الحديث عن عصر «المابعديات» يرفع عقيرته شيئا فشيئا حتى أصبح من المألوف الحديث عن عصر «ما بعد الحداثة» و«ما بعد العولمة» و«ما بعد الرأسمالية» و«ما بعد العقلانية» وما إلى كثير من تلك المابعديات في تمهيد خجول للإعلان عن قرب وفاة المشروع الحداثي المعاصر بسبب مرض «فقر الروح» الذي رافقه وعانى منه طويلا منذ ولادته، ولم يعد مستغربا أن نرى كثيراً من مشاهير العالم الغربي وهم يبحثون عن هدوئهم النفسي وسكينتهم الروحية في اعتناق بعض العقائد الثرية بمضمونها الروحاني ومنها ما هو موغل في الغيبيات والماورائىات كالبوذية والبراهمية ونحو ذلك من معتقدات يعج بها الشطر الشرقي من الأرض في محاولة منهم لعكس المفاهيم المادية البحتة التي بدأوا يكفرون بها.

قد يكون من قبيل الزعم أن هذه الحالة العالمية تشكل لنا نحن العرب سانحة تاريخية من الصعب تكرارها من حيث أن لدينا في مخزوننا الثقافي كل ما يحتاجه العالم الذي يمتلك هو الآخر من العلم والثروة كل ما نحتاجه وينقصنا، وأنه من شأن الشراكة الجادة فيما بين العالمين أن تنتج توليفة إنسانية فريدة لا شك في أن من شأنها أن تعود بالنفع العميم على كامل البشرية، بذلك نكون قد أفلحنا ربما في إعادة تسجيل العضوية في نادي الأمم من جديد، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة فنحن نعرف ان أخلاقياتنا وقيمنا قد علاها الكثير من الغبار واعتراها الكثير من الصدأ وشابتها الكثير من العوائق التي علقت بها على مر الزمن وأمعنت في تشويهها المفاهيم الخاطئة التي أنتجت بالتالي ممارسات خاطئة نراها تسير واثقة على أرض واقعنا المؤلم، ولا يعدو تناولنا لهذه الأخلاقيات والقيم كونه محاولة لإعادة اكتشافها بغرض اعادة انتاجها في صورة تلائم روح العصر ومفاهيمه وكذلك اللغة التي من الممكن أن يستمع إليها ويفهمها الآخر، وان هذا ما يجب ان يشغلنا وان يكون ضالتنا التي نجتهد في اقتفاء أثرها، وهو ما ينبغي ان نسعى خلفه ومن ورائه وصولا الى أن يستمع إلينا العالم ويفهم حقيقة ما لدينا أو ما ينبغي أن يكون لدينا، ولذلك يتوجب علينا ان نتقدم بها في صورة لائقة تجعل من الممكن للآخرين ان يتقبلوها على أقل تقدير، فكيف يمكن لنا أن نسمع الآخر صوتنا ونحن لا نريد أن نعترف «لآخرنا» بحق الوجود، وكيف لنا أن نقيم مصداقية لشعاراتنا ونحن نكتفي بمجرد رفعها دون أن نجد سبيلا لإقامتها على الأرض؟

ليست الثقافة مجرد عقيدة دينية ولكنها تلك المجموعة من القيم والأخلاقيات والممارسات التي تشكل جوهر الإنسان وهويته ومنها الكثير مما يستحق ان يبقى كقيمة الأسرة والعدالة الاجتماعية والتكافل الاقتصادي والحرية الفكرية والإنسان الحر وقيم التسامح والعدل والمساواة وفضائل الإبداع البشري من فنون وآداب وشعر وموسيقى وكل ذلك مما لدينا منه الكثير ويستحق أن يبقى وأن نجتهد من أجل إحيائه لعلنا نتحول في هذا العالم المتغير الى شركاء لا مجرد أُجراء وخدم، وتفضلوا بقبول مودتي!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإمارات وروسيا.. تجارة في غفلة من الغرب؟ | المسائية


.. جندي إسرائيلي سابق: نتعمد قتل الأطفال وجيشنا يستهتر بحياة ال




.. قراءة عسكرية.. كتائب القسام توثق إطلاق صواريخ من جنوب لبنان


.. عضو الكونغرس الأمريكي جمال باومان يدين اعتداءات الشرطة على ا




.. أزمة دبلوماسية متصاعدة بين برلين وموسكو بسبب مجموعة هاكرز رو