الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السويسري يورج فيدرشبيل في قافلة الأدباء المنتحرين

يوسف ليمود

2007 / 6 / 5
الادب والفن


"عندما يعرف المرء كيف وأين يموت, فلن يكون هناك خوف"
جملة كاشفة, لا تتم استعادتها والتفكير في معانيها الخفية بعين جديدة إلا بعد أن يكون صاحبها قد قرع جرس نهايته بيده, قالها قبل عامين ذات مقابلة عندما تحولت روايته "كيلوري.. أصوات النفق" الى أوبرا غنائية, يتحدث فيها ركاب مترو الأنفاق عن موتهم المرتقب. دائما الموت, ودائما منطقة الحدود بين الموت والحياة, يتحرك فيها العالم الروائي والشعري لذلك الكاتب السويسري الذي لم تكن هناك جغرافيا محددة يمكن أن تحتوي كيانه القلق. عاش في كل مكان ولا مكان, بالأحرى في المنطقة التي يسكت فيها الواقع ويتكلم الأدب.

يورج فيدرشبيل, اسم جديد يضاف الى قائمة الأدباء الساموراي ولو لم يستخدم طريقة الهيراكيري في شق البطن كما فعل الياباني ميشيما, أو يخنق نفسه بالغاز كما فعل كاواباتا, أو يفجر صدغه برصاصة كما فعل معلمه همنجواي أو خليل حاوي, أو يبلع الحبوب كما فعل الإيطالي بافيز والسويدية كارين بوي, أو يعلق نفسه في حبل كما فعل يسينين, لا.. هنا, وكما فرجينيا وولف, كانت صفحة نهر الراين هي التي استقبلت الصرخة. فهل تبقى الوسيلة مثل علامة تعجب في نهاية سطر من علامات الاستفهام, حيث أمام الموت ليس غير السؤال الأبكم, وأمام الانتحار زحام من الأسئلة, إذ يبدو موتا مضاعفا.. تواطؤا مع الرعب!؟

في مدينة بازل, ومع مطلع الستينيات, كانت أعين رواد بار المدينة الشهير باسم "ريو بار" تُسحب بقوة مغناطيسية إلى طاولة شاب ثلاثيني, قوي البنية, متمترس خلف ذاته التي لا تخطئ العين حساسيتها وقلقها وثقتها التي تتحول في بعض اللحظات إلى فورة كبرياء. سيد الطاولة التي يجلس إليها, محب للنقاش, بئر شراب, ظاهرة في الفضول, متعذر التحديد, الناس بؤرة محبته واهتمامه الأول (لموتهم غالبا), أنجز من فوره مجلده الأول الصغير "برتقال وموت", ظهرت فيه استقلاليته كفنان, تخطى أبا الأدب السويسري ماكس فريش وفريدريش دورنمات, ولن ينظر إلى فريش أبدا كأب روحي له, سوف يتعلم بالأحرى من فولكنر وهمنجواي وإدجار ألان بو. أعلنت كتابته مع مجايليه: بول بيتسون, هوجو لوتشر, يورج شتاينر, أوتو. ف. فالتر, بيتر بيخسل عن بزوغ روح الحداثة في الأدب السويسري, أثني عليه بابا الأدب في المانيا الغربية وقتذاك مارسيل رايش رانيكي كثيرا, كتبت عنه صحف بلده, سيكتب هو بدوره النقد السينمائي والمقالات لتلك الصحف كأبلغ ما يكون النقد وأكمل ما تكون المقالات, سوف يتلقى العديد من الجوائز: جائزة الإبداع الأدبي لمدينة زيوريخ ومثيلتها من مدينة بازل, سيحصل أيضا على جائزة الإبداع الأدبي من مؤسسة شيلر السويسرية, لن يكون أبدا رجل موضة في الأدب, ولن يكره شيئا مثل الضجر. سنراه يرافق لسنوات طويلة الفيمينيست إيستر فيلار في علاقة يمكن استشفاف التناقض والتكامل معا داخلها: بين فنان مرهف, دائم الشك في قدراته, مسحوب أبدا إلي أعماقه, وبين امرأة منطلقة إلى الخارج, نشطة في الدفاع عن الكيان النسوي وحقوق المرأة. سيكتب الكثير, وسيصل عدد مجموعاته القصصية ورواياته الى أكثر من عشرين كتاب, ستترجم معظمها الى لغات عديدة يعرفه أهلها من خلال: "الحب هو قوة إلهية", "جغرافيا الرغبة", "عودة باراتوغا", "متحف الكراهية", "وهم وقمامة", "كيلوري.. أصوات النفق", "العمة الأسطورية", وستصدر آخر مجموعة له "قمر بغير مؤشر" بالتزامن مع عيد ميلاده السبعين, بعدها لن يستطيع الكتابة بسهولة بسبب عدة أمراض ليس أسوأها السكري واضطراب الأعصاب, سيتوقف تماما في عاميه الأخيرين مجبرا, وسيتحرك من الآن بجسمه بين الحقيقة والوهم, هو الذي ما إن يدخل المرء عالمه, لا يعود يعرف بالضبط إن كان يقرأ أو يحلم, ما إذا كانت لحظة القراءة هي أمس أم غد, لكنها ليست اليوم على أية حال.
جاء من دافوس حيث ولد ونشأ, ستعرفه فيما بعد زيوريخ بدورها, باريس, لندن, برلين, نيويورك, وستكون مانهاتن دائما جزيرة جحيمه وملهمته, سيكتب فيها وعنها أفضل أعماله, وستحتفي به أوساطات نيويورك الأدبية كأحد الأسماء في قائمة أحسن الكتب, وسيعود إلى بازل رجلا سبعينيا ليرمي بهيكله المتعب ومعه سره في الراين, يتم التبليغ عن اختفائه ويجري البحث عنه في الوقت الذي يحمله التيار حتى أحد السدود لتكتشف جثته امرأة تتمشي في الصباح الباكر مع كلبها الأحد 25 فبراير الفائت.. ستكون سخرية لو كانت تلك المرأة قرأت له يوما كتابا ولم تتعرف عليه, وسخرية أيضا لو لم تكن قرأت له أو عنه أي شيء.

سنجد في قصص مجموعتة الأولي "برتقال وموت" التي تدور أحداثها أثناء الاحتلال النازي لباريس في الحرب الثانية، أن البرتقالة على حافة نافذة شاب فرنسي تشير إلى أن الألماني هو جندي هارب وأن خطر الموت لم يعد موجودا. غير أن أول نجاح كبير له كان عام 1969 بكتاب "متحف الكراهية" وهو يوميات ذاتية من مانهاتن يصور فيها حياته في نيويورك (مدينة العذاب والكثافة وأشكال الظل) كأنها الإقامة في جهنم. كتابة تسحب القارئ بسرعة الخطف إلى لب الحدث, وسط متاهة يلتبس فيها الحس بالزمن, لنكتشف في النهاية ما أراد أن يقوله لنا. في "تيفوئيد ماريا" الذي كان على قائمة أفضل المبيعات في نيويورك عام 1982, نجد ماريا كادوف التي تعمل طباخة في وسط أمريكي بورجوازي متحذلق, حاملة فيروس التيفوئيد دون أن تعرف هي ذلك, ودون أن يفتك المرض بها, لكنها تنقل الموت للجميع عبر الطعام. بذلك يصبح انتقامها لوضعها الذليل كخادمة لدى حثالة من الأثرياء انتقاما غير واع, وغير متعمد كذلك. أما في تحفتة الروائية "جغرافيا الرغبة" الصادرة عام 1989, يحتفي عاشق بمؤخرة عشيقته الرائعة الاستدارة بنقشه "تاتو" يصور خارطة العالم فوقها, وكأن ذلك الوشم أو الرسم هو ما ينقص المؤخرة لتصل إلى الكمال, أو أن العالم ينبغي أن يكون على ربوة الجمال تلك.

"عندما يعرف المرء كيف وأين يموت فلن يكون هناك خوف"
هل كان فيدرشبيل على علم بكيفية ومكان موته عندما قال جملته تلك؟ وهل تبدد القلق اللصيق بكيانه, إن لم نقل الخوف, بعد أن خطط لملابسات النهاية؟ هذا يستدعي في الذهن صورا من عالم الأدب, ربما أقربها للتذكر "سقطة" المرأة من فوق الكوبري في رواية كامو, مع قاموس كلماته أيضا الذي يُستهل بالعبث وينتهي بالتمرد الميتافيزيقي, أو الذي يُستهل بالتمرد الميتافيزيقي وينتهي بالعبث. وهل يجوز التفكير هنا في أن سرعة القيادة في حادثة موت كامو لم تكن سوى انتحارا؟ نخشى أن نكتشف أن "بطء" كونديرا ليس إلا نوعا من انتحار أقسى. ونخشى أيضا أن نربط بين الموت غرقا وبين أصحاب الأبراج المائية, كالسرطان مثلا.. ولد هذا الكاتب في 28 يونيو من سنة 1931.

يوسف ليمود – سويسرا
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ريم بسيوني: الرواية التاريخية تحررني والصوفية ساهمت بانتشار


.. قبل انطلاق نهائيات اليوروفيجن.. الآلاف يتظاهرون ضد المشاركة




.. سكرين شوت | الـAI في الإنتاج الموسيقي والقانون: تنظيم وتوازن


.. سلمى أبو ضيف قلدت نفسها في التمثيل مع منى الشاذلي .. شوفوا ع




.. سكرين شوت | الترند الذي يسبب انقساماً في مصر: استخدام أصوات