الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دريدا والإله تحوت

عصام عبدالله

2007 / 6 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


لاحظ دريدا أن الميتافيزيقا الغربية تمنح الكلام أفضلية على الكتابة، فهي تعطي امتيازًا خاصًا للكلمة المنطوقة لأنها تجسد حضور المتكلم وقت صدور القول، وتلزم متلقيًا، فليس ثمة فاصل (زماني أو مكاني) بينهما، فالمتكلم يستمع في الوقت الذي يقول فيه، وهو ما يفعله المتلقي في الوقت ذاته، إن سمة المباشرة في حقل الكلام تعطي قوة خاصة في أن المتكلم يعرف ما يعني، ويعني ما يقول، ويقول ما يعني، ويعرف ما يقول، وهو قادر، فضلاً عن ذلك على معرفة فيما إذا كان الفهم قد تحقق فعلاً أم لم يتحقق”
إن تفضيل الكلام على الكتابة، وهو ما اصطلح على تسميته بـ “التمركز حول الصوت” - Phonocentrism إنما هو سمة كلاسيكية من سمات التمركز حول العقل - Logocentrism، وهو مثله مثل “تمركزات” عديدة أخرى” “كالرؤية أو الضوء”، دعمت هذه المركزية حول “العقل” أو اللوغوس - Logos.
وإذا كان الصوت في الكلام يمثل “الحضور”، حضور المتكلم، فإن الكتابة تمثل الغياب، غياب المتكلم. وحسب دريدا “فإنه يبلغ من تشبع لغتنا بميتافيزيقا الحضور أنها لا تعطينا إلا هذا البديل” ويرجع دريدا ذلك إلى أفلاطون الذي أكد في محاورة “فايدروس” أن الكلام يحمل طابع “الحيوية” الذي تتصف به النفس، و”الحقيقة” التي هي حوار الروح الصامت مع نفسها، أما الكتابة فهي وسيلة جامدة صماء، وهي محاكاة “ميتة” للفعل الكلامي الذي يتضمن حيوية خاصة.
والواقع أن الآراء قد انقسمت بشأن “الكتابة”، منذ القدم، بين مادح وناقد. أكبر المتحمسين كان “ديودورس” الذي قال: “الكتابة هي الوسيلة التي تتحقق بها أهم وأنفع مشاغل الحياة: التصويت، الخطابات والوصايا، القوانين وغيرها من الأمور الضرورية من أجل تسيير الحياة بشكل صحيح. من ذا الذي يستطيع أن يعطي الكتابة حق قدرها؟ … بفضل الكتابة يبقى للأموات ذكر في أذهان الأحياء، وبواسطتها يتقارب الناس في البعاد ويتواصلون ببعضهم البعض، أما عن المعاهدات التي تتخذ وقت الحروب بين الملوك أو الشعوب، فإن الأمان والسلام توفره الكلمة المكتوبة، وهي أحسن ضامن لاستمرار الاتفاق. فضلاً عن أن الكلمة المكتوبة بوجه عام هي التي تحفظ أقوال الحكماء والوحي الإلهي (للآلهة) مثلما تحفظ الفلسفة والثقافة وتقوم بنقلها للأجيال المتعاقبة إلى أبد الآبدين. فإذا كان صحيح أن الطبيعة هي سبب الحياة، فإن سبب الحياة الطيبة هو التعليم المبني على الكلمة المكتوبة”
أما النقاد ففي مقدمتهم المؤرخين: “هيرودوت” و “توسيديدس” نظرًا لما تعلموه في عملهم من أن الكلام المكتوب لا يستحق الثقة. أضف إليهما “أريستوفان” في مسرحية “الطيور” وتنديده بالكلام المكتوب المنسوب للآلهة بالكذب والافتراء.
لكن أهم هذه الانتقادات جاء من أفلاطون بالفعل، ويمكن تلخيص نقده للكتابة كما جاء في “فايدروس” في ثلاث نقاط. 1- أن هذا الاختراع سينتهي بمن يستعملونه إلى ضعف التذكر لأنهم سيتوقفون عن تمرين ذاكرتهم حين يعتمدون على المكتوب، وبفضل ما يأتيهم من انطباعات خارجية غريبة عن أنفسهم وليس بما بباطن أنفسهم.
2 - الكتابة لا تنقل الحقيقة بل مظهرها، ومن يتعلمها يبدو كأنه قادر على الحكم في كل الأمور بينما هو جاهل ومن أشباه الحكماء.
3 - لكن الشيء الأخطر في موضوع الكتابة هو الشبه بينهما وبين التصوير، فهي تظل صامتة لو أننا وجهنا إليها سؤالاً، ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها. فالكتابة تجري من اليمين إلى اليسار دون تمييز بين من يفهمونها ومن لا يعنيهم منها شيئًا على السواء، وهي تردد نفس الكلمات. فالكتابة ليست إلا تقليد خداع للكلام المنطوق.
هذا هو نقد أفلاطون الذي استند إليه دريدا، ولكن أفلاطون من ناحية أخرى، هو أول من نادى في كتاب “القوانين” (الجزء السابع) بضرورة إنشاء مدارس التعليم الإجباري في مدينته المثالية ونص على فرض تعليم “الكتابة” والقراءة على جميع الأطفال دون تمييز بين الذكور والإناث. والسؤال هو: كيف وفق أفلاطون بين النقد الهدام للكتابة وبين الدعوة لتعميمها؟
يقول مصطفى صفوان: “1 - إن ظهور الكتابة اقترن بالقداسة، إذ أخذت شكل الحقيقة المنزلة. 2 - أفلاطون أراد رفع صفة القداسة عن الكتابة، لأنه رأى أن مجال الوصول إلى الحقيقة ليس هو الكتابة وإنما الجدل (الكلام المنطوق) الذي يتضمن ثلاثة أطراف: المتكلم والمخاطب واللغة المشتركة بينهما. بحيث يمكن القول أن “أفلاطون” للمرة الأولى في تاريخ البشرية، استخلص بنقده فكرة “العقلانية” في حد ذاتها، مجردة من كل خلط بالاعتقاد. وهذا فتح لا يقل أهمية عن اكتشاف الكتابة نفسها”
لقد كان أفلاطون واعيًا بمغزى نقده، والدليل على ذلك هو أنه بدأ بالإشارة إلى الأسطورة المصرية التي تفسر ظهور الكتابة بأنها هدية من الإله “تحوت. كذلك تمييزه المستمر بين الموضوعات التي يستطيع العقل أو الجدل أن يقول فيها كلمته، والموضوعات التي يضطر فيها إلى اللجوء إلى الأساطير والمعتقدات كي يسد ثغرات جهله.
فإذا كان قد نادى بعد ذلك بالتعليم الإجباري للجميع، فلأنه كان ضروريًا للاشتغال بالوظائف العامة، وهذا كان واجب على أعضاء المدينة الأحرار ولتدبير الاقتصاد المنزلي وهذا كان واجب المرأة. ومن المؤكد كذلك أن الفصل بين الجدل والاعتقاد في مجال الفكر الإنساني كان خطوة لا يمكن تصورها خارج تجربة الديمقراطية كما ظهرت في أثينا مدة قرنين: الخامس والسادس قبل الميلاد.
وتكشف كتابات دريدا في “مجموعها” عن أنه كان واعيًا بالدور الخطير الذي لعبه أفلاطون في تاريخ الفلسفة، ومساهمته الأصيلة في مسألة “الكتابة”، الدليل على ذلك أنه خصص دراسة مستقلة له هي “صيدلية أفلاطون”. فضلاً عن استشهاداته العديدة بأعماله وهذه الدراسة تحديدًا تعد نموذجًا أساسيًا ومبكرًا على قراءة دريدا لمحاورة “فايدروس” والنقد السقراطي العريق، وكيف أن أفلاطون استخدم الحيلة البارعة المتمثلة في الزعم بأنه لا يقوم بما هو أكثر من إعادة تسجيل كلام أستاذه وأبيه الفلسفي سقراط. والحال أن أفلاطون كان يقوم بإحياء سقراط حين يعيد كتابة أقواله، وكان أيضًا يقتل سقراط حين يخرق قانون الأخير في تحريم الكتابة. وهكذا فإن “صيدلية أفلاطون” تأسست على مبدأ “الكتابة” بوصفها الفارماكون، الذي يقتل ويعالج في آن واحد.
يقول دريدا: “الفارماكون - Pharmakon هو في الوقت نفسه سم ودواء، خير وشر، ناقص وزايد … الخ. لا هذا ولا ذاك، يعدي الواحد بالآخر بدون تصالح ولا إشباع ممكن. يسم في الآن نفسه كل مقابلة ثنائية للدلالات أو للقيم، وهما تكملان بعضهما بعضًا. وتضافان الواحدة للأخرى بلا نهاية”
الكتابة عند أفلاطون إذًا هي الفارماكون (السم والترياق معًا) وهي حسب دريدا تقوم “بتغطية” المعنى بالشيء نفسه الذي تؤسسه كشفافية. فأي ثنائية يغيب أحد طرفيها بظهور الثاني. كلاهما سم ودواء، غياب وحضور، وجود وعدم، كلاهما يخشاه “الأب”. يقول دريدا: “هكذا يتصرف الإله - الملك الذي يتكلم كأب. هنا يتم تقديم الفارماكون [السم - الدواء = الكتابة] الأب يقوم برفضه واحتقاره وهجره والحط من قيمته. إن الأب يشتبه في الكتابة ويراقبها باستمرار”.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف ضرب الانغلاق السياحة الجزائرية؟


.. فرنسا:أي استراتيجية لمواجهة أقصى اليمين؟ • فرانس 24 / FRANCE




.. شبحُ الانهيار يُطاردُ السلطة الفلسطينية! | #التاسعة


.. روسيا والصين لفرض نظام عالمي جديد.. هل يكون الثمن حرباً عالم




.. هل سيتوقف الحوثيون عن ضرب السفن بعد انتهاء حرب غزة؟ فواز منص