الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إسرائيل في ذكرى 5 حزيران: حصّة الكابوس، بين رقصة حرب وأخرى

صبحي حديدي

2007 / 6 / 9
القضية الفلسطينية


أحيا رئيس وزراء الدولة العبرية إيهود أولمرت، الذكرى الأربعين لانتصار إسرائيل الساحق/هزيمة النظام العربي الماحقة، على نحو يليق حقاً بواحد من أشدّ رجالات الصهيونية ابتذالاً وانحطاطاً: من جهة أولى أعلن احتمال استئناف مفاوضات السلام مع سورية، ومن جهة ثانية أعطى الإذن للجيش الإسرائيلي بتنفيذ تدريبات قتالية متقدّمة تتضمّن الهجوم الإفتراضي على قرية سورية. وإذا كان الإعلان السياسي قد سيق مقترناً بسلسلة من الشروط والاشتراطات التي تكاد تجعله أقلّ حتى من أحبولة لفظية (لعلّها ترفع سعر أولمرت السياسي خلال زيارته القادمة إلى واشنطن، في ناظر البيت الأبيض واللوبي الإسرائيلي سواء بسواء)، فإنّ الإذن العسكري كان حقيقة مادّية أقرب إلى تسخين الرقص على إيقاع الحرب، حسب تعبير المعلّق الإسرائيلي زئيف شيف.
والحال أنّ هذا الطور، والطراز، من تفكير القيادة الإسرائيلية الراهنة يبدو، في هذه الذكرى الأربعين خاصة، كاشفاً جديداً صارخاً على اتضاح المزيد من أكاذيب ما عُرف طويلاً باسم «عملية السلام» بين العرب والدولة العبرية. آن الأوان، إذاً، لكي تُجرّد التسمية من غلاف كاذب وحيد على الأقلّ، هو مفهوم «السلام»، أيّاً كانت قراءات وتأويلات وشروحات المفهوم. ثمة، في المقابل، عشرات المفاهيم الأخرى التي يمكن أن توضع في خدمة المتلهفين على استمرار «العملية» ذاتها وحدها، الحريصين على الإستمرار من أجل الإستمرار في عبارة أخرى، الآملين في أن يكون الإستمرار بديلاً عن الحرب، نقيض «السلام». وتدريبات الهجوم على قرية سورية، مثل الهجومات الفعلية على القرى والبلدات والمدن الفلسطينية، ليست أقرب إلى الحرب المفتوحة منها إلى السلام المعطّل فحسب، بل هي استئصال يوميّ منتظم منظّم لكلّ ما تبقى من أوهام السيرورة التي دغدغت بعض النفوس ذات يوم، وهي تدمير يوميّ للمفردات التي صنعت تلك الأوهام، وتحطيم على الأرض للجغرافيا ذاتها التي بدت وكأنها تجسّد العملية: خطوط 1948، خطوط 1967، خطوط اتفاق أوسلو، خطوط اتفاقيات الخليل، خطوط اتفاقيات شرم الشيخ... أمّ الفحم والناصرة تساوت مع البيرة ورام الله، ومناطق «الحكم الذاتي» عادت مناطق احتلال إسرائيلي...
وفي كلّ حال لا يبدو أولمرت وكأنه يكترث حتى باستئناف تراث أسلافه في ما يتّصل بدروس هذه الذكرى الأربعين، أو العِبَر التي يمكن ان تحملها في الحاضر وفي المستقبل (حاضره هو في الأقلّ، ومستقبله السياسي!). ومنذ بنيامين نتنياهو، مروراً بكلّ من شمعون بيريس وإيهود باراك وأرييل شارون، كان زعماء الدولة العبرية يرفضون البدء من النهاية التي توصّل إليها رئيس الوزراء الأسبق القتيل إسحق رابين، حين صحا من سكرة «إسرائيل الكبرى»، حيث الجغرافيا العربية تأكل التاريخ الاسرائيلي حسب عبارة شهيرة أطلقها ناحوم غولدمان. والفارق أنه كان أشطر من الذين تعاقبوا بعده على المنصب، إذْ كان جنرالاً عتيقاً أقطع الصهاينة من أرض فلسطين ما لم يتوفر حتى للملك داود والملك سليمان، وبفضله تمكن الحاخامات من التجوال في بطاح اعتبر أنبياء إسرائيل أنّ الربّ منحها لهم ولنسلهم إلى الأبد. والفارق الثاني كان أنّ رابين يبدأ وقد تبدلت حقائق هذه الأرض، مثل حقائق الجوار وانشغالات العالم الذي كان يقف خلف رابين ضدّ العرب والعدو الشيوعي، ولم يعد يرى أيّ معنى في الوقوف خلف نتنياهو ضدّ عرب منضبطين معتدلين لا حول لهم ولا طول باستثناء خاماتهم وثرواتهم وتجارتهم وحسن سلوكهم.
الطريف أنّ شارون، مثل سلفه إيهود باراك (الذي يتهيأ اليوم لاسترداد المنصب من أولمرت)، كان قد انتهى من حيث بدأ نتنياهو، أي من حيث صحا إسحق رابين ذات يوم! ليست هذه أحجية، لكنّ قارىء مذكرات رابين يدرك أنه، مثل السواد الأعظم من الإسرائيليين يميناً ويساراً، كان يبغض الإنفكاك عن حدود 1967 وما تستثيره في الوجدان اليهودي من غبطة ومشاعر قيامية. وهو استخدم تعبير «نهار العمر كله» في وصف تلك البرهة الأكثر قداسة ورهبة وغبطة في السنوات الـ 45 التي انصرمت من عمره، حين توجّه في 7 حزيران (يونيو) 1967 برفقة وزير الدفاع موشيه دايان لزيارة الحائط الغربي في القدس: «يسهل عليّ أن أسترجع المشاعر التي اتابتني ساعتئذ، ولكن يصعب كثيراً أن أترجم تلك المشاعر إلى كلمات. الحائط كان وما يزال واحداً من معالم أمجاد الإستقلال اليهودي في غابر الأزمان. حجارته تمتلك قوّة مخاطبة قلوب اليهود في العالم بأسره، وكأنّ الذاكرة التاريخية للشعب اليهودي استقرّت في في شقوق مكعباته. منذ سنوات وسنوات داعبني حلم القيام بدور ما في استرداد استقلال إسرائيل عن طريق إعادة الحائط الغربي للشعب اليهودي، جاعلاً منه بؤرة استقلال كسبناه بعرقنا وكدّنا». ولكن هل كانت عودة الحائط الغربي تكفي لكي تهدأ حمّى «الذاكرة التاريخية للشعب اليهودي»؟ كلا، بالطبع، وكان المطلوب نبش باطن أرض الحرم الشريف إذا توجّب منح سطحه لإشراف دولي أو حتى للسلطة الوطنية الفلسطينية، ولهذا قام شارون بزيارته الشهيرة إلى السطح... في انتظار نبش الأعماق!
تلك ذاكرة قيامية دائمة، وبقدر ما التصق الوجدان اليهودي بهذا المعنى القيامي لحرب 1967، غرق أكثر فأكثر في معناها الكابوسي الرهيب. ألم يكن اندثار اليهود هو الإحتمال الوحيد البديل عن انتصارهم الصاعق على الجيوش العربية؟ ألا يبدو الحاضر اليوم مستنزفاً بين ماضٍ تحكمه الحروب والهياكل المهدّمة والممالك المندثرة وأفران الغاز، ومستقبل غامض لا ينجلي فيه إلا سلام الحرب المفتوحة، المتغايرة من غزّة إلى رام الله إلى "حزب الله" على الغزو الإفتراضي لقرية سورية؟ وكيف تتمّ مصالحة ذاكرة كارثية مع سلام كارثي؟ الخطاب اليهودي أدمن قيامة الحضور ومرثية الغياب في آن معاً، كما يقول اليهودي الأمريكي ليون فايسلتيير: في استحضار التاريخ اليهودي نشطت حركة مكوكية محمومة من التخوم (حيث الإنتصارات والأمجاد) إلى المركز (حيث الفواجع والويلات)، ولا يكفي الفلسطيني أنه فلسطيني في الضمير الإسرائيلي، بل تجب إعادته إلى برلين وحشره في استعارة هتلرية، هي بدورها جزء من بلاغة تحويل العماليق إلى كلدان وآراميين ورومان وقوزاق ونازيين وعرب و... فلسطينيين!
ولقد شهدنا ونشهد قتل «العماليق الفلسطينيين» بالرصاص الحيّ وبالدم البارد، حتى إذا كان أحد هولاء العماليق طفلاً في الثانية عشرة من العمر (محمد الدرّة)، أعزل حتى من سلاح الحجارة، منكشفاً تماماً إلا من حاوية قمامة. وقرأنا ونقرأ تصريحات من طراز ما قاله وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق رفائيل إيتان: «لو كان الأمر منوطاً بي لما كنت قد سمحت لأيّ عربي بالتجوال في شوارع البلاد هذه الأيام. كنت سألغي تأمينهم الوطني وأقطع عنهم الماء والكهرباء، قبل أن أطلق عليهم النار». تصريح نازي؟ ليس بالضرورة، فهو مجرّد تصريح صهيوني! ألم يتحدّث الحاخام عوفاديا يوسف عن العرب «أبناء الأفاعي»، الذين ندم الربّ على خلقهم!
وكما وقف رابين أمام حائط المبكى عام 1967 واستقرأ الذاكرة اليهودية الدفينة في شقوق المكعبات الحجرية، كذلك كتب مناحيم بيغن إلى الرئيس الأمريكي رونالد ريغان يصف حصار بيروت عام 1982: «أشعر أنني رئيس وزراء مخوّل بتوجيه جيش باسل لحصار مدينة اسمها برلين، يقبع فيها وسط الأبرياء رجل اسمه هتلر». هذا خطاب يجري على لسان ملوك إسرائيل المعاصرين، المعتصمين بحبل التاريخ اليهودي، المتنقلين بحركة دائبة من قيامة الحضور إلى مرتبة الغياب، ثمّ العكس. إنه خطاب يحترف نصب الفخاخ الميتافيزيقية للفرد كما للمجتمع، وللدولة كما للعالم. مَن قُيّضت له النجاة من وطأة الكابوس والكارثة، وفضع على الفور أمام «حساب الضمير»: سبي اليهود، غرف الغاز، الهولوكوست!
وفي هذه الذكرى الأربعين نتابع أحدث فصول القلق الوجودي العميق الذي ينتاب الوجدان اليهودي إزاء احتمالات سلام قد ينتزع من «الذاكرة التاريخية للشعب اليهودي» حصّتها في التنقّل الدائب بين الحضور والغياب، بين الأرض وباطن الأرض، وبين حائط المبكى والحرم الشريف. وفي الدفاع عن هذه الحصّة يتساوى جميع ملوك إسرائيل الجدد: دافيد بن غوريون، غولدا مائير، موشيه دايان، مناحيم بيغن، إسحق رابين، إسحق شامير، شمعون بيريس، بنيامين نتنياهو، إيهود باراك، أرييل شارون... وكما أعطى رابين الأمر بقمع الإنتفاضة الأولى باستخدام «القبضة الحديدية، والضرب ثمّ الضرب ثمّ الضرب»، كذلك أعطى أمثال بيريس ونتنياهو وباراك وشارون تعليماتهم باستخدام الدبابات والراجمات والصواريخ في قمع الإنتفاضة الثانية، سواء حمل الفلسطيني الحجر أم لاذ بحاوية قمامة.
هي، بالقدر ذاته، الحصّة الكابوسية التي توحّد أحزاب إسرائيل، جميعها تقريباً: كاديما، العمل، الليكود، الأحزاب الدينية، أحزاب المهاجرين، اليمين الصريح واليسار الزائف... وليست فكرة «حكومة اتحاد وطني» سوى تسمية أخرى للصفة الحقيقية التي انفرد شارون باستخدامها ذات يوم: «حكومة طوارىء»: الطارىء ليس انتفاضة الأقصى أو شبح الانتفاضة الثانية فقط، كما قد يبدو للوهلة الأولى، بل الطارىء الآخر الأبرز هو عودة اليهودي إلى دائرة القلق الوجودي العتيق المقيم أبداً، القلق من المحيط، والريبة في المحيط، والإرتكاس التامّ نحو عقلية الـ «غيتو» ذاتيّ الصنع.
وكان الكاتب الإسرائيلي يارون إزراحي قد أحصى الأثمان الباهظة لذلك الإنتقال الثنائي العجيب الذي عاشته الدولة العبرية منذ قيامها سنة 1948: من المعجزة بحدّ السيف، إلى ما بعد الملحمة... بالرصاص المطاطي! وفي كتابه «رصاص مطاطي: القوّة والضمير في إسرائيل الحديثة»، اعتبر إزراحي أنّ استخدام الرصاص المطاطي في قمع الانتفاضة كان نقلة نوعية في الرواية الصهيونية الكلاسيكية، الأسطورية والملحمية والتربوية. وكان عتبة تدشّن «انقطاع خيط الرواية الكبرى» التي لمّت شمل أسرته اليهودية طيلة خمسة أجيال، منذ أواخر القرن التاسع عشر حين غادر أجداده أوكرانيا إلى فلسطين، وحتى أواخر القرن العشرين حين أدرك أنه يصارع قراراً مؤلماً بتجنيب ولده آلام حلم صهيوني فادح الأثمان. ويكتب إزراحي: «في تلك الليلة من شهر كانون الثاني (يناير) عام 1988، حين شاهدت على شاشة التلفزة جندياً إسرائيلياً شاباً يجثو على ركبة واحدة ليسدد بندقيته إلى طفل فلسطيني لا يحمل سوى الحجارة، انتابني إحساس حادّ لا سابق له بالصدوع العميقة التي أخذت تتشكل داخل ملحمة عودتنا إلى هذه الأرض وتحريرنا فيها. ولقد شعرت بفداحة الخسران، وبالتناقص الشديد في قوّة الرواية التي أدامت الحلم الصهيوني». وإزراحي يقرّ بأن محاولة إسرائيل مصالحة أزمة الضمير مع فحشاء استخدام القوّة لن تسفر عمّا هو أقلّ من هوّة فاغرة بين أجيال الجدّ والأب والابن، ولسوف تكون «معركة حكايات» متنازعة كلما وحيثما اقتضى الحال تخليص النفس الإسرائيلية من، أو تحصينها بوسيلة، «الملحمة الكبرى» و«الحلم الصهيوني» و«تاريخ الآخر».
الصهيوني الصالح هنا هو ذاك الذي يعجز تماماً عن إقامة الصلة بين حشر اليهود الأبرياء العزّل في خندق نازي، وحشر الفلسطينيين الأبرياء العزّل في شوارع غزّة ورام الله ونابلس والخليل تحت رحمة الدبابات والراجمات وطائرات الأباشي. وهو، استطراداً، طراز المواطن الإسرائيلي الذي لا يُسقط فاشلاً راهناً مثل أولمرت إلا لكي ينصّب فاشلاً سابقاً مثل باراك... بين رقصة حرب وأخرى!









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجامعات الأميركية... تظاهرات طلابية دعما لغزة | #غرفة_الأخب


.. الجنوب اللبناني... مخاوف من الانزلاق إلى حرب مفتوحة بين حزب 




.. حرب المسيرات تستعر بين موسكو وكييف | #غرفة_الأخبار


.. جماعة الحوثي تهدد... الولايات المتحدة لن تجد طريقا واحدا آمن




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - كتائب القسام تنشر فيديو لمحتجزين ي