الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسافرون الخالدون

رياض كاظم

2007 / 6 / 11
الادب والفن



كانت تلك السنوات طارئة على المدينة ، عصر احلام سعيدة ، حملها قادمون من الصحراء والمدن ، متسولون ضالون وقعوا عليها صدفة ، تجار ماشية أغرتهم شحوم خرفانها ولحومها
، مهربوا خمور واسلحة ، مسافرون خالدون ، ارواح تائهة ، رجال دين وشعراء وفنانين ، جذبهم سحر الناصرة فاستوطنوها الى الابد ، وخلدوها بقصائد ودارميات وحكايات ماتزال تجري على السنة العجائز والمهتمين بطرائف الادب.
عزلة المدينة وغرابتها جذبت انظار الرحالة الشهير ( ماكسويل ) فقرر البقاء بها لفترة شهرين تمكنه من دراسة احوال اهلها ومعرفة طبيعتها ، لكن الشهرين اصبحا ثلاثة وستة وتسعة ثم اصبحت سنوات طويلة ، كان يقضيها بالتسكع او العمل كتاجر تحفيات ومغامر ينزل الى اعماق الهور ، الى اعماقه السحيقة ويعود بحكايات عجيبة عن السفينة الذهبية التي تظهرعند اكتمال القمر وتأخذ معها ارواح الناس ، وعن شيوخ مازالوا يتحدثون باللغة السومرية .
كتب ( ماكسويل ) في مذكراته .
حينما وصلت الناصرة ، شعرت بالزمن قد توقف عشرة قرون عن زمننا العادي .
لم يكن عمر المدينة حينما وصلها الرحالة الغريب يتجاوز القرن والنصف ، ومازال بناتها الاوائل احياء ،مازال سعيد حياً وكذلك العجوزست الحسن ، وابو الهدى وهارون ، وهناك مدونات ( علي ) ، اما ابناءها الاخرين فماعادوا قادرين على النطق لتوالي السنين عليهم .
قبل سنوات كتبت فصلا عن ( ست الحسن ) ، فيه حاولت ان اتذكر كيف ولدت في تلك المدينة وكيف احبت وعاشت الى ايامنا هذه ...... كنت بعيدا جدا عن مصدر الحكاية ، وراء المحيط ، اعيش في شيكاغو واعاني من قصة حب وهمية مع سيدة تعيش في سورية ، واقابل ناس وهميين ، كانت حياة واهمة بالفعل والفصل الذي كتبته واهم ايضا ،
فانا لم اكتب قصة ست الحسن بل كتبت قصة خيالية ، مما حدى باحد اصدقائي للقول .
قصتك هذه كذب في كذب
صاحبة الجلالة .... هولاء القوم يعومون على بحيرات من النفط
كتب الرحالة ( ماكسويل ) يطمع ملكته ويستثحهاعلى ارسال بعثة الى المدينة العائمة على بحر من النفط ، لكن البعثة لم تأت سريعا كما اشتهى ، ضلت طريقها في الهور لسنوات طويلة ولم يخرج منها حي سوى رجل معتوه في اواخر الخمسينيات من عمره ، وصل الناصرة بملابس غريبة ، ممزقة وعلى صدره صليب ضخم وكتاب ملفوف بخرقة. عرف نفسه باسم
- سيمون ... الاب سيمون ..
قليلون هم من يتذكر الانكليزي الاحمرالذي افتتح له دكانا في وسط السوق ، غير بعيد عن دكان ( فنان الذكريات ) واخذ يتاجر بالمشغولات اليدوية واللقى الاثرية ويدفع بسخاء للقرويين وقبائل البدو مقابل ما يحملونه له من طرائف لا تقدر بثمن ، كان يشتري منهم كل شيء ، الجلود المنقوشة والجرار الملونة والحلي وقطع الزجاج ، حتى احبه الجميع واطلقوا عليه اسم الحاج ( محمد الاحمر ) او الاحيمر ، كما ينعته من يشك بنواياه ، فلا احد يدري من اين اتى ذلك الرجل الغريب الاطوار ، الذي يزعم انه رسول صاحبة الجلالة ملكة بريطانيا الى اهل الناصرة ، من اجل تدعيم السلام بين البشر والتعرف على طبيعة الناس المجاورين لنا .
كان خطاب المغامر ، مراوغا ، لم تعتده المدينة ، فيه الكثير من الدهاء والوعود بالذهب الذي سياتي من صاحبة الجلالة ، سفن من الذهب ستصل حينما يريد الرب ، في اية لحظة.
- ربما الان ابحرت سفن الملكة متجهة نحونا ، هكذا كان يتحدث الى من حوله حتى صدقه الجميع وكسب صداقتهم ، ستأتي السفن حتما ، ربما هذه الليلة ؟
لا احد يدري ماذا حصل للسفن ، هل تاهت في الهور العريض ام التهمتها السفينة الذهبية ، لا احد يتذكر ان كانت السفن قد اتت حقا ام انها لم تات اصلا ؟ لكن ( الاحيمر ) اتسعت تجارته واخذ ببناء جامع ضخم بقبة زرقاء ومئذنة طويلة العنق ، تشبه العضو الذكري ، وهذا ما دفع الاحيمر للاستغفار ورسم شارة الصليب على صدره لانه اضطر لبناء هذا الجامع ، وهذا العمود المخزي في مدينة لا تعرف الرب ولا تعرف حتى اسمه .
- من اجل ربهم ، لا من اجل ربي ....
كانت المدينة خالية من مظاهر التدين واهلها لا يهتمون بذلك كثيرا ، نزعتهم البدوية وقرب نزوحهم من الصحراء جعل من الصعب عليهم تذكر دينهم ، فلم يكن معهم فقهاء وعلماء دين يرشدوهم الى عبادتهم .... كان يصلون احيانا ، بعضهم خمس مرات في اليوم والبعض الاخر ثلاث ، وقسم كبير منهم لا يصلون اطلاقا ، ليس لانهم غير مسلمين لكن لان الله بدا لهم بعيد عنهم جدا ، لا يكاد يلحظهم ، فابتعدوا حتى لم يعد احد يعرف الى ماذا ينتمون , وهذا ما استرعى انتباه ( الاب سيمون ) فانشأ الى جانب الجامع كنيسة صغيرة لطيفة ، يتصدرها صليب ضخم وتمثال يجسد المسيح مصلوبا وعند بابها وقف الاب وهو يبتسم في وجوه زبائنه القدماء ويقدم لهم الشراب البارد والخبز دون ان يطالبهم بالثمن .
كل من في المدينة ذاق شراب الاب واكل من خبزه وتحادث معه عن موطنه الاصلي واهله ، لكن احدا منهم لم يدخل كنيسته ويستمع الى موعظته عن الاب والابن والروح القدس .
لم تجتذب مواعظه احدا ، كان بعضهم يذهب الى الكنيسة للبيع والشراء فيضطر الى سماع صلاة الاب ومن ثم يعرض عليه بضاعته ويغادر وهو يهز يده باستهزاء .
لا شيء ينفع مع هولاء القوم ....
اخذ الاب يتمشى وسط كنيسته الخالية شابكا ذراعيه على صدره دون ان ينتبه للظلال الخمسة التي سدت مدخل الباب ، التفت ناحيتهم وقد اخذته الدهشة من مظهرهم الذي يشبه عاصفة ترابية ، كانوا خمسة كهول يرتدون الخرق ويتقدمهم هيكل عظمي واسع العينين والجبين ويحمل عصا راسها ضخم يشبه رأس رجل مقطوع .
قال بصوت عميق .
يسمونني ( داود ) وهؤلاء اتباعي .... المسافرون الخالدون ....
ابتسم الاب وفتح ذراعيه مرحبا .
مرحبا بك يا صديقي ، ايها المسافر الخالد .
احتضن زواره واجلسهم على المقاعد واخذ يلقي على مسامعهم اجمل موعظة اجترحتها مخيلته عن الام المسيح ، انصت له الجميع بخشوع حتى انتهى فرفع داود اصبعه كتلميذ مدرسة وقال وهو يرتعش .
نحن خائفون يا صديقي .. واخوتي اتعبهم السفر ، اسأل ربك ان تنتهي رحلتنا هنا ، فربنا لم يأذن بعد ، قل له ان اخي الاصغر بدأ ينام عند صلاتنا ، والاكبر منه يبكي في نومه ، ابكي معه حينما يبكى ، نبكي جميعا من كثرة الترحال خلف السفينة الذهبية ، اسأل ربك ان يأذن بنهاية رحلتنا .
تنحنح الاب ثم قال .
سيأذن لكم الرب بنهاية الرحلة ، لكنه لن يعدكم بالسفينة الذهبية .
قال داوود وشفتاه ترتعشان
لماذا ربك لا يعد ؟
قال الاب .
لا وجود لتلك السفينة ، انها مجرد حكاية . ثم اكمل
سمعت عن مسافرين غيركم ، قبل اعوام طويلة جاءت قافلة تبحث عن قبر ولي ، فتشوا المدينة كلها عن قبر الولي الصالح ، فلم يجدوه لكنهم وجدوا بدلا منه ( تكية ) في ناصية الشارع اتخذوها مكانا للعبادة ، الناس هنا يسمونهم المسافرين الخالدين .
قال داود .
لا مسافرين غيرنا .... لم نلتق بأي عابر خلال تجوالنا ، كل العابرين يبحثون عن مأوى لليلة واحدة او ليلتين ، اما نحن فلا نبحث عن مأوى ولولا ذلك لما سمونا بالمسافرين الخالدين .
لكنكم متعبين كما ارى .
نعم ... نحن متعبون ، اخي الاصغر بدأ لا يصلي الصبح والاكبر منه تحول يومه الى بكاء ، يتحدث وهو يبكي يأكل ويبكي ، يمشي وهو يبكي ، اقول له لماذا تبكي يا اخي فيجيب ، متى سنصل ؟ لا ادري متى نصل فابكي معه .
قال الاب .
في المدينة منازل كثيرة وخالية ، والناس هنا مضيافون ، اذهبوا الى القصر ، قصر محمد الامام أو اذهبوا قصر سعيد او بيت الخاتونات .
قال الاخ الاصغر
سمعت الكثير عن بيت الخاتونات ، اريد ان اقضي ليلة في بيت الخاتونات .
قال الاكبر منه والدموع تتساقط من عينيه .
ماذا لو نمنا في بيت الخاتونات ؟
قال داود .
اخي الاصغر يظن ان الخاتون طعام او حلوى ، هو لا يدري ما المرأة ، لم ير امرأة في حياته حتى انه لا يتذكر شكل امه ، والاكبر منه يبكي لانه تذكر امه .... اخوتي الاخرون لا يسمعون شيئا مما يدور حولهم .
قال الاخ الاصغر .
الخاتونات فراش لين ....
جاوبه اخاه – هوة لا قرار لها ..
اجابه الاخوه الاخرون – هه ؟
سار ( الاب ) يتقدمهم ناحية بيت الخاتونات فرأى بطريقه علي بن محمد الامام يحوم حول المنزل ، ولمح شبح ابو الهدى وهو يمرق سريعا ، والتقى وجه لوجه مع صفية ، عرفها من اسنانها الذهبية حينما كشرت بوجهه .
وصل الى البيت وقرع بابه وهو يقول .
انا ( الاب سيمون ) .
فتحت الباب ( فضيلة ) خانم وسدته بجسدها الممتليء وصدرها الضخم .
نظرت الى الجاسوس كما تحب تسميته ، الى ماكسويل بملابس رجل دين ورع ثم نظرت خلفه ناحية العاصفة الترابية .....
قالت .
انفضوا عنكم التراب قبل ان تدخلوا .
نظر داود الى قدميه المعروقتين ثم نفضهما ودخل مع اخوته بضجة ، الاخوة المتعبون ادهشتهم المخاديد الملونة والفرش الناعمة والرائحة اللطيفة المدوخة ، فاصطدموا ببعضهم .
قال الاصغر .
اريد ان انام ..
جاوبه الاكبر منه .
ربما وقعنا على السفينة الذهبية .
اجاب الاخرون – هه ؟!
قالت فضيلة خانم وهي تتطلع بملابس الاب وهيئته الجديدة .
ما الحكاية الان ، وما اسرع ما تغير جلدك يا ماكسويل ؟
قال الاب .
ماكسويل عاد الى بلاده منذ زمن بعيد ، عاد ليخبرهم عن النفط في هذه الارض ، اما عني فانا الاب سيمون ، اسألي كل الناس ، أسألي بناتك الجميلات عديلة وسعدية وسلامة ، اسأليهن من اكون ...
نادت فضيلة خاتون .
تعالوا يا بنات ؟
جاءت ثلاث فتيات جميلات تطلعن بالجمع الغريب وقلن بصوت واحد .
اهلا يا ماكسويل .
قال الاخ الاصغر وقد اخذته الدهشة من عدد النساء حوله .
اريد فراشا دافئا .
جاوبه الاكبر منه وقد جفت الدموع من عينيه .
ماذا لو انها السفينة الذهبية ؟
اشار داود باصابع مرتعشة ناحية الفتيات الجميلات وقال .
اخوتي ضائعون ويريدون من يرشدهم للطريق .
جاوبه اخوته – هه؟
قال الاب .
لست ماكسويل ، اسألي عني صفية وهارون وست الحسن ، كلهم يعرفون الاب سيمون وسيروون لك بعض من حكايته وكيف نجا من موت محقق على ايدي البو راشد ، حينما جاهر وسطهم باسم ربه ودعاهم الى عبادته .انا الاب سيمون ...
صلى صلاة قصيرة .
قالت البنات – آمين ..
قال الاب – آمين .
قال الاخوة – هه؟
قالت فضيلة خانم بلهجة آمرة .
لن يجلس احد على افرشتي قبل ان يستحم .
تضاحكت الفتيات الثلاثة واحطن بالاخوة الخمسة الذين التصقوا ببعضهم خوفا من الاحتكاك بهن ، فاصبحوا اشبه بكرة صوف .
قالت سعدية وهي تصفعهم .
الى الحمام ... الى الحمام .
قال داود.
اخوتي لا يعرفون الحمام ، يظنونه ابريق .
قال الاصغر .
خمر ، شاي ، مرحاض
رائحتكم لا تطاق ...
انزعوا ..... انزعوا كل شيء ...
قال الاب وهو يحاول الخروج .
سأكتب الى ماكسويل ، سابلغه تحياتك وتحيات بناتك الجميلات .
قال الجميع بصوت واحد .
وداعا يا ماكسويل ....
استدار الاب سيمون ناحيتهم وانحنى كأي جنتلمان حقيقي .
دخل الاخوة الخمسة الى الحمام وهم يرتجفون ، نزعوا خرقهم وجلسوا على ارضية الحمام الحارة التي اخترقت عظامهم فأخذوا يتعرقون بسرعة ، في البداية امسكت البنات باصغرهم ووضعنه في قدر ضخم واخذن بتدليكه وتسريح شعره ولحيته حتى تحول الى كائن آخر ، يشبه صور الكنيسة ، كائن شديد البياض والنحول ، حملنه الى امهم بصخب وهن يتضاحكن .
انظري يا امي ماذا خرج لنا .
شهقت فضيلة خاتون ووضعت يدها على صدرها وقالت .
يا الهي لكم يشبه السيد المسيح ؟
ثم اكملت .
ما اسمك ؟
قال – اخوتي يسمونني ابراهيم ، اشعر ببرد شديد ...
قالت سعدية وهي تداعب شعره .
تعال اختبأ بحضني .
اقترب ابراهيم منها ووضع راسه على صدرها فشعر بالدفء يتسلل الى جسده ، دفء ناعم جعله يتمتم قبل ان ينام – وماذا عن اخوتي ؟
قالت البنات .
اخوتك رحلوا مع ماكسويل .
قال – من ماكسويل ؟
انه الاب سيمون راع الكنيسة ومحمد الاحمر والاحيمر ، الجاسوس ذاته الذي مايزال يكاتب ملكته .
صاحبة الجلالة ما تحتاجه بريطانيا العظمى ليس المزيد من القوة بل ساعات قليلة تحت شمس الناصرة الحارقة . فهنا كل ما نريد ، المدينة تعوم على بحر من النفط ولدينا كنيسة ونسخة مطابقة للرب وجدته في حمام فضيلة خاتون وسأعرضه على الناس في عيد القيامة ، ولدينا قديسين بعدد الفطر وكل ما نريده منك هوالمجيء الى الناصرة ومباركة اهلها وكنيستها وربها .
طوى الاب رسالته ووضعها في جيبه وخرج من المدينة ...
الى اين ذاهب ايها الاب الجليل ؟
كانت الاصوات تنطلق من خلفه .
فيجيب – ابحث عن ماكسويل عسى ان يوصل رسالتي الى صاحبة الجلالة .
آمين ...
آمين ....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرباط تستضيف مهرجان موسيقى الجاز بمشاركة فنانين عالميين


.. فيلم السرب لأحمد السقا يحصد 22.4 مليون جنيه خلال 10 أيام عرض




.. ريم بسيوني: الرواية التاريخية تحررني والصوفية ساهمت بانتشار


.. قبل انطلاق نهائيات اليوروفيجن.. الآلاف يتظاهرون ضد المشاركة




.. سكرين شوت | الـAI في الإنتاج الموسيقي والقانون: تنظيم وتوازن