الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أشخاص ومواقف 1

محمود كرم

2007 / 6 / 13
الادب والفن


أصابته ( هند ) بسهم قاتل ، أردته صريعاً يتجرع كأس الهوى ، فكل يوم يضرب جعفر ملفاً بملف ، كيف السبيل إلى الطابق العلوي ، علّه يحظى بنظرةٍ من ( هند ) أو بابتسامةٍ منها أو بحديث عابر ، وحينما يأتيه النداء عاجلا ، يا جعفر : خذ الملف للطابق العلوي واقفل راجعاً لاتتأخر ، تنفرج الأسارير عنده ، وتدب الحياة بعروقه ، وتغدو الإبتسامة في عينيه بريقاً يشع بالأمنيات الجذلى ..

وهكذا بين صعود ونزول قصة جعفر كل يوم ، هذا العاشق المعنّى ، لا يلبث أن يصعد إلا والأمنيات العِذاب تتدفق في قلبه دفعةً واحدة ، ومع سبق الإصرار والترصد تبقى آذان جعفر ( شاخصة ) على مدار الوقت لأيّ نداء قادم يحمل له الأمنيات والأحلام من جديد ، وحينما لا تأتيه الأوامر بالصعود إلى الأعلى يحاول أن ينسج من خيالات مكره أية حجة ترسل به إلى هناك ، وهكذا تجري الساعات في يومه ، تارة بطيئة ، وتارةً أخرى سريعة وصاخبة كالأمواج ، وهو فيها زورق مثقوب , يطفو هنا ويغرق هناك في الأعلى ..

بينه وبين الحاج ( يسري ) مسافة متر لا أكثر ، وجيرة تجاوزت الثلاث سنوات ، ورغم هذا وذاك لم يسلم ( يسري ) المثقل بداء السكري ، وبالسنوات العجاف التي قضاها في خدمة الملفات ، من مناوشات ومشاغبات جعفر له كل يوم ، ففي بداية مجيء جعفر إلى قسم الملفات كان يراه الحاج يسري حملاً وديعاً ، ولكن بعد مضي أشهر قليلة أصبح يراه كابوساً مزعجاً يأتيه حتى في منامه ، فلم تكن سنوات الجيرة عند جعفر ذات أهمية ولم يحسب للحاج يسري كبر سنه ، فضلاً عن نصائحه المفيدة وخدماته الجليلة له كل يوم ، هكذا هي العلاقة بينهما ، مد وجزر , تصفو مرة وتتعكر مرات كثيرة وكانت تصل القطيعة بينهما إلى أشهر في أحيان كثيرة , وفي أحيان أخري إلى يوم أو يومين ، والمضحك في الأمر أن الخصام والقطيعة بينهما تختفي فجأة ، لتعود بينهما حالة الود والتصافي بسرعة فائقة ومن دون أية مساع حميدة أو تدخلات أجنبية أو محلية ، فكان يسامحه الحاج ( يسري ) ويصفح عنه , لأنه يعلم جيداً بأن ازعاجات جعفر شر لابد منه شاء ذلك أم أبى ، مردداً : حسبي الله ونعم الوكيل ..

إما أن يموت مدنياً زاهداً في هذه الدنيا , أو أن يحيا مهنياً مبتهجاً بمزايا المهنية ( المدنية درجة وظيفية عادية إما المهنية فهي أرقى بكثير وهذه الدرجات تخص غير الكويتيين ) ، هذه قصة جعفر كل يوم ، من الصباح إلى أن يلفظ الدوام أنفاسه الثقيلة ، وحسب أخبار الأرصاد المهنية التي تترى على جعفر كل دقيقة وكل ساعة من مصادره القريبة والبعيدة ، تصيبه كل لحظة في مقتل ، لكأنَ بينه وبين المهنية مسافة عمر لابد أن يفنى ..

في باديء الأمر لم أكن أعلم شيئاً عن قصة جعفر هذه ، ولكن مع الأيام عرفتُ بأنه يتقاضى راتباً زهيداً بالكاد يسد به رمق الحياة الطاحنة ، وأنه يتمنى أن تشمله الرعاية الوزارية ليتحول مهنياً تتفتح أمامه أبواب الحياة ، ويدخل من خلالها جنات النعيم حسب اعتقاده ، ونحن نتعاطف معه كثيراً ، ولانملك غير ذلك كونه أباً لثلاثة بنات هنّ ضحايا ما جناه جعفر من حظه العاثر في هذه الدنيا ، ولكنه يريد منا أكثر من مجرد التعاطف ، وكأنما نحن السبب في كونه مدنياً بائساً ، ففي كل يوم يصبّ ُ جام غضبه علينا متهماً إيّانا بالتقاعس وعدم السعي لرفع معاناته اليومية ، ونحن لانملك إلا البكاء عليه ضحكاً ، والبعض منا كان يزيده هماً وغضباً باستفزازه من خلال مصارحته أن المهنية بالنسبة إليه عشم ابليس في الجنة ، بينما كان بعضنا الآخر يؤمله دائماً بقرب رفعه إلى درجة المهنية وأنها قادمة إليه على طبق من ذهب ، وهو يعلم جيداً بأن أمله في المهنية كأمل القطب الجنوبي في الشمس الساطعة ..

ويريد منا ثمناً تعويضياً كونه ( مدنياً ) بفرضه علينا أتاوات يومية ، على شكل إفطار مجاني وسجائر وقهوة وشاي وخدمات أخرى معيشية ، وكثمن آخر يجب علينا تقديمه له ونحن لا نملكه ، بالتغاضي عنه قليلاً للخروج مبكراً من العمل يوم الأربعاء تحديداً بصورة متكررة ..

وهكذا ينام جعفر مدنياً ليصحو أيضاً مدنياً عاجزاً عن فعل أي شي سوى إبداء مهاراته الوظيفية الحركية ، والتي يرى أنه يستحق عليها درجة المهنية ، والاكثار أيضاً من التباكي أمام حائط الملفات وأمامنا صباح كل يوم لإنقاذه من أوضاعه المتردية ..

معدم من كل شيء هذا الإنسان المطحون بظروفه القاسية ، لا حبلَ نجاة ، ولا قلبَ عاشق ، ولا مصروف شهر ، ولا أملا في غد ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان محمد خير الجراح ضيف صباح العربية


.. أفلام مهرجان سينما-فلسطين في باريس، تتناول قضايا الذاكرة وال




.. الفنان محمد الجراح: هدفي من أغنية الأكلات الحلبية هو توثيق ه


.. الفنان محمد الجراح يرد على منتقديه بسبب اتجاهه للغناء بعد دو




.. بأغنية -بلوك-.. دخول مفرح للفنان محمد الجراح في فقرة صباح ال