الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عاشقة الليل تستأذن بالرحيل

محمود الباتع

2007 / 6 / 12
سيرة ذاتية


أكاد أزعم أن كثيراً من الشعراء العرب والمعنيين بالشأن الشعري والأدبي والنقدي الحديث يدينون لنازك الملائكة بالكثير من العرفان وما هو أكثر منه من الأسف والاعتذار إلى هذه الشاعرة الرائدة المجددة، العرفان لريادتها وتأسيسها مدرسة الشعر الحر الحديث الذي أصبح لازمة أدبية لمعظم من يريد ولوج هذا البحر من شعراء ومبدعين أما الاعتذار فذلك لأن كثيراً من هؤلاء الشعراء والأدباء ناهيك عن أعداد غفيرة من غيرهم يسودهم الظن بأن هذه الشاعرة قد غادرت هذه الدنيا منذ زمن وأنها قد التحقت برفاقها السياب والبياتي وبلند الحيدري إلى الدار الآخرة بل وربما قد سبقتهم إليها، بينما هي لاتزال في الواقع بين ظهرانينا حية ترزق وترقد حاليا في مدينة القاهرة أسيرة العزلة والوحدة وقعيدة لمرض قد يكون محطتها الأخيرة في مشوار الحياة.

نازك الملائكة نخلة بغدادية عريقة وقامة عربية أخرى من القامات الأدبية الرفيعة وقد ولدت في العام 1923 لأبوين أديبين شاعرين وونشأت في بيت مفعم بالفن والشعر والثقافة ولم يكن اسمها التركي لينفي كونها قد تتلمذت وقرأت على يد والدها الشاعر صادق جعفر الملائكة ومنذ نعومة أظفارها كثبراً من كتب التراث العربي القديم من طراز "فقه اللغة" للثعالبي و"خزانة الأدب" للبغدادي كما اتهمت على حد ما قالت بنفسها كتب "البيان والتبيين" في ثمانية أيام كادت فيها تؤذي عينيها إيذاًْ شديداً ولم تكن تدري أي جنونٍ كان يدفعها إلى ذلك كما تساءلت عن ذلك لاحقاً واصفةً تلك التجربة بالمحنة الفظيعة والتي لم ينتشلها من براثنها إلا مرض التهاب عينيها والذي كان شراً لا بد منه للتوقف بعدها عن المطالعة إلى حين الشفاء، لتواصل رحلتها التعليمية في كنف والدها الشاعر ووالدتها الأديبة الشاعرة التي كانت تنشر بعض أعمالها تحت اسم "أم نزار الملائكة" لتحفظ عن ظهر قلب درراً من الشعر الجاهلي القديم من نوعية أخبار حرب البسوس وقصائد النابغة الذبياني والتغلبي والمرقش وأمثالهم وصولا إلى أشعار العصر الوسيط للبحتري وابن زيدون وابن خفاجة وانتهاءٍ بكتب الشعر والنقد المعاصرة مثل "مع أبي العلاء في سجنه" لطه حسين و"عبقرية الشريف الرضي" لطه حسين و"تاريخ حياة معدة" لتوفيق الحكيم و"بلوغ الإرب" للألوسي وكثير غيرها من الكتب المشابهة الأمر الذي أسهم في تنمية وصقل ثقافتها الأدبية والشعرية أيما إسهام.

مبكراً وفي بدايات سني شبابها أصدرت نازك الملائكة باكورة إنتاجها في ثلاثينات القرن العشرين وكانت عبارة عن ديوان "أنشودة المجد" وأخذت في مواصلة تحصيلها العلمي لتصبح نموذجا للمبدع العربي الشامل الثقافة المدعوم بالدراسة الأكاديمية المتخصصة فقد درست الموسيقى وتخصصت في آلة العود وتخرجت من معهد الفنون عام 1949 وأصدرت في أثناء دراستها ديوانها الشعري الأول "عاشقة الليل" عام 1947 وجاءت دراستها للموسيقى بعد أن كانت قد درست وتخرجت قبلاً من دار المعلمين عام 1944 إلى أن ابتعثت إلى الولايات المتحدة الأميركية وتحديداً إلى جامعة ويسكنسون لتنال درجة الدكتوراه منها عن دراسة في الأدب المقارن الأمر الذي أتاح لها الاطلاع على عيون الأدب الإيطالي والألماني والروسي والهندي والصيني بعد أن أتمت دراسة اللغة اللاتينية في جامعة برستن الأميركية فضلاً عن إلمامها المسبق بكل من الأدب الانجليزي والفرنسي الذين كانت قد تمرست فيهما سابقاً بمجهود ذاتي كما كان الأمر مع الأدب العربي، وهكذا حتى عادت إلىالعراق لتعمل أستاذة للأداب العربية في جامعة البصرة عام 1957.

كانت قصيدتها "الكوليرا" عام 1947 تأسيساً لمدرسة جديدة في الشعر العربي وهي التي باتت تعرف لاحقاً بمدرسة الشعر الحر التي تتنازع الريادة فيها مع مواطنها ومعاصرها الشاعر بدر شاكر السياب إلا أن كثيراً من النقاد يرون لنازك الملائكة فضل السبق في هذه المدرسة وأيا كان الأمر فالمسألة لا تنقص أو تزيد من فضل نازك الملائكة في شيء فقد تميزت هذه الشاعرة بالنبوغ والتميز في مجال النقد الأدبي والشعري بقدر تميزها في مضمار الشعر وكانت من أوائل من مارس نقد النقاد إضافة إلى نقد الشعراء و-ذلك في دراساتها المنشورة في "قضايا الشعر المعاصر" عام 1962 و "الصومعة والشرفة الحمراء" عام 1965 وحتى سيكولوجية الشعر عام 1993.

كما كل الشعراء كانت نازك عاشقة لليل وكان هذا هو عنوان ديوانها الذي أصدرته عام 1947 وذلك لأن الليل كما شرحت ذات مرة يحرر النفوس من رقابة الشعور الذاتي ومن رقابة الآخرية ويدخل الإنسان في مغامرته الخاصة التي لا يد لأحد عليه فيها عندما يتطابق سكون الليل مع سكونه وصفائه الداخلي ويتشابه صمت الليل مع صمت الشاعر الذي كانت تشبهه الشاعرة بأنه القصيدة النائمة في سوداوية تعللها الشاعرة بضيقها بفكرة الموت الذي يأتي على البشر وكرهها لالاستعمار البريطاني والحكومة العميلة وكذلك اشمئزازها من التخلف والجهل الذي يعتري المجتمع.

كانت شأنها شأن كل مثقفي الأمة العربية مسكونة بالشأن العربي العام الذي كانت قضية فلسطين هي أبرز ملامحه في تلك الحقبة التي قد تبدو لنا سحيقة المدى نظراً لما اعترى واقعنا من تغيرات وتحولات جعلتنا نشعر بأن رومانسية الوطنية النقية من أحلام الماضي البعيد، ولم تكن نازك الملائكة إلا تلك الشاعرة المرهفة المترعة بأنانية الحب، فعلى الرغم من أن العراق في ذلك الوقت كان يغلي في اتجاه التحرر من الاحتلال البريطاني والانفتاح والتقدم في كل مجالات الفكر ويعج بقضايا محلية كبرى تحت وطأة الفقر والتخلف، لم يمنع كل ذلك نازك الملائكة أن تنشغل بقضية كبرى كانت وليدة وقتها هي القضية الفلسطينية عندما أعلنت في قصيدتها "مرايا الشمس" بكل النزعة الرومانسية الأدبية وأنانية المحبين التي تتمتع بها الشاعرات عن تفردها في حب فلسطين والانتماء إليها حيث قالت "وتعود خارطتي الحبيبة ملك قلبي .. تحت هدبي، لا يجوب سفوحها غيري أنا .." لتطوف نازك بالمستمع في مدنها مدينة تلو أخرى دون أن تهمل واحدةً منها، تسميها بأسمائها ومعالمها ورائحة أشجارها وبياراتها ورموزها بما يبرز حس المكان العميق الحزن في واحدة كل منها حتى تصل بنا إلى مساحة الغضب الحتمي عندما تدعو الشاعرة عينها بعد أن خذلتها الدموع إلى الثورة بقولها " إني سأكسر قيد خارطتي بأسلحتي جميعاً، وردي ودمعي والسكاكين الحداد !" .

آمنت نازك بأن الفن الحقيقي هو ذلك الآتي من رحم الحرية وأن الشعر عبارة عن معاناة متصلة للشاعر تستمر معه طالما استمرت به الحياة التي تسير وفق تصورها على قاعدة اللاقاعدة حيث لا أساس منطقي تسير عليه أحداثها التي كلما أفرزت معاناة ما أفرز الشاعر في مقابلها قصيدة في إيمان شديد بقيمة الحلم المجرد الذي كانت ترى فيه ما هو أكثر جمالاً من تحقيقه.

كما آمنت الشاعرة وتبنت قضية المرأة العربية والعراقية وتصدت بعنف من موقعها كشاعرة وأكاديمية لظاهرة جرائم الشرف المزعوم عندما أدانت في إحدى قصائدها ذلك الرجل الذي يقدم على ذبح فتاة متهمة وما إن يمسح دماءها عن سكينه حتى يذهب ليجالس الساقطات من فتيات الحانات وكأن العار قصر على المرأة وحدها دون الساقطين من الرجال.

في ظل هذه الأجواء وبهذه العقلية والملكات عاشت نازك الملائكة حياتها وعبرت عن نفسها وأدت رسالتها بما هو أكثر من المطلوب منها وقامت على تدريس وتخريج أجيال من الشباب وكانت مثالا للمرأة العربية المتعلمة الواعية بما تريد لنفسها ولبلدها ولأمتها، مارست فنها وإبداعها برقي وتفرد وأمسكت بزمام العلم والثقافة وعلمت الآخرين ما تعلمته واعتنت بقضايا أمتها كما يليق بإنسانة مثقفة وشاعرة مبدعة، تزوجت وأنجبت ونبغت وتفوقت دون أن تستجدي عون أحد ودون أن تمن على الدنيا بوجودها إلى أن ذاع صيتها كشاعرة لا يشق لها غبار ذات وجه حقيقي دون حاجة إلى تزييفه بمساحيق العلاقات العامة وسطع بريق نجوميتها في سماء الشعر والأدب والثقافة بغير حاجة إلى تلميع من شركات الدعاية والإعلان في احترام شديد لنفسها ولجمهورها، وهاهي تتهيأ لمغادرة هذه الدنيا دون أن يدري بها أحد !
ولكم مودتي ،








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفاوضات الهدنة: -حماس تريد التزاما مكتوبا من إسرائيل بوقف لإ


.. أردوغان: كان ممكنا تحسين العلاقة مع إسرائيل لكن نتنياهو اختا




.. سرايا الأشتر.. ذراع إيراني جديد يظهر على الساحة


.. -لتفادي القيود الإماراتية-... أميركا تنقل طائراتها الحربية إ




.. قراءة عسكرية.. القسام تقصف تجمعات للاحتلال الإسرائيلي بالقرب