الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استاذي نجيب يونس...وداعاً

صائب خليل

2007 / 6 / 13
الادب والفن


تميزت جامعة الموصل في السبعينات عن باقي الجامعات العراقية بمزايا عديدة, واحدها كان استاذ الرسم فيها نجيب يونس, الذي اعطاها لوحاتها التأريخية العملاقة عن بناء سور نينوى وحرق نينوى اضافة الى اللوحات العديدة التي كانت تصور المدينة واعياد اليزيديين وعاداتهم بحركاتها الراقصة العنيفة والوانها البراقة الصريحة.

عرفت الإستاذ نجيب في مرسم الجامعة, الذي كان يضم مجموعة من الفنانين الكبار مثل الفنان ضرار القدو واخرين, ومجموعة من الطلبة الذين طبعتهم الموصل, هذه المدينة المغرقة في الجدية, بطبعها الإجتماعي الخجول الجميل. احدهم صديق العمر, جعفر محمد خضر الذي اصبح اليوم من اهم الفنانين العراقيين المعاصرين.

كان الأستاذ نجيب يونس متميزاً برسمه الأكاديمي الجريء والجميل الكريم بالألوان وضربات الفرشاة الجريئة, فكان يقول ان رسامي الشمال يتعاملون بالوان اكثر قوة من رسامي وسط العراق وجنوبه بسبب نقاوة جو الشمال من الغبار. وفعلاً كانت الموصل كما اذكرها مدهشة بجوها وناسها وامطارها الغزيرة, وفيروز التي كانت تشدو في اقسامنا الداخلية" ليالي الشمال الحزيني...ضلي اذكريني اذكريني".

ذكرياتي في الموصل مازالت لامعة واضحة غنية بعد ربع قرن كأنها الأمس...ولنجيب يونس ذكراه الخاصة.

اكاد اراه وهو ينصح احد الطلاب كان يرسم بالقلم قائلاً: "لاترسم بخط له سمك واحد ودرجة ظل واحدة, كانك تسحب خيطاً اسود من قلمك...يجب ان يكون الخط تعبيرا عن شكل الظل وعمقه".

وحين وجه الإستاذ نجيب انتقاداً لتركيب لوحة لطالب اخر, من حيث مواقع مكوناتها, حين احدى الأشجار في الرسم تبرز بالضبط خلف رأس امرأة تسير, اعترض الطالب قائلاً ان مثل هذا يمكن ان يحدث في الطبيعة فلماذا هو خطأ؟ قال الأستاذ نجيب:" نعم يمكن ان يحدث في الطبيعة, مثلما يمكن ان تقلع عاصفة نخلة, وتقلبها, لكن هذا لا يجعل رسم نخلة واقفة على رأسها امراً مقبولاً".

هكذا انطبعت صور تلك النخلة الواقفة على رأسها وهذا "الخيط الأسود" في رأسي كما في رؤوس بقية شلتنا, كتعويذات تنبهنا في السنوات التالية الى تلك الأخطاء الشائعة في الرسم, وتجنبنا الوقوع فيها. ايكون التعليم اكثر كفاءة من هذا؟

وفي احدى المرات كنت ارسم تخطيطاً لـ"حياة جامدة" عبارة عن مزهرية فخارية واشياء اخرى, فسألته قائلاً اني لاحظت ان المزهرية ليست متناظرة تماماً اي ان فيها اعوجاجاً بسيطاً...فهل ارسم هذا الإعوجاج ام ارسمها كما يفترض ان تكون – اي متناظرة ؟ قام نجيب يونس من لوحته باهتمام وقال لي وهو يتأمل الرسم: "ملاحظتك الجميلة التي قلتها الآن اهم كثيرا من كل ما رسمت! نعم يفترض ان ترسم الفرق فهو عنصر جمالي ويجعل اللوحة اقرب الى الحياة مما هي الى ميكانيكية التناظر...الخ"

مرة تجرأت وسألته حول لوحة ضخمة كان يرسمها بعنوان "بناء سور نينوى" وفيها رجل يمسك صخرة هائلة يبدو انه يحاول تحريكها مع رفاقه. سألته: "استاذ..هذا العامل هل يدفع تلك الصخرة ام يسحبها"؟ نظر الى اللوحة ثم الي وقال ببعض خيبة امل وقليل من الإنزعاج: " يدفعها..."... فأضفت: "استاذ انا اراه يسحب!" فقال بتوتر لم اعتده منه: "اي ابني آني ما اعرف ارسم!"
وحين حاولت الإعتذار عن ورطتي اجاب بهدؤ حيادي: "لا ما بيها شي ابني...إذا ما تشوفها واضحة يعني اكو شي غلط بالرسم". لم يكن ذلك الإعتراف سهلاً فاللوحة الضخمة كانت على وشك الإنتهاء واي تغيير فيها يعني الكثير من الجهد, ولعل ذلك يفسر عصبيته, لكنه لم يمنعه من الإعتراف بالخطأ. كان ذلك درساً في التواضع وقبول النقد والملاحظة حتى ممن هم اقل خبرة بكثير.

وفي احدى المرات كنت اريه تخطيطات رسمتها لكفي واصابعي, فنظر اليها ثم قال: "أرني يدك؟" فرفعت كفي فقال: "آه فعلاً اصابعك اقصر من المعتاد قليلاً" ويبدوا انه لاحظ انحراجي فاضاف فوراً " لكن لايهمك...هذه الأصابع هي التي فيها البركة" ورفع يديه ليريني ان اصابعه هي الأخرى تميل الى الإنتفاخ والقصر.

نعم يا استاذي كانت اصابعك القصيرة مليئة بالبركة والخير مثلما كان قلبك مليئاً بالطيبة والحس الذكي, وان كانا قد توقفا عن العطاء كما لامفر منه للأسف, فلسوف يبقى ما قدماه عملاقاً شامخاً راقص الحركة وصريح الألوان, ولسوف تذكرك الموصل وجامعتها وطلبتها دائماً باعتزاز وامتنان عميقين.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان سامو زين ضيف صباح العربية


.. الرئيس التونسي: بعض المهرجانات الفنية لا ترتقي بالذوق العام




.. ظهور حمادة هلال بعد الوعكة الصحية في زفاف ابنة صديقة الشاعر


.. كل يوم - -ثقافة الاحترام مهمة جدا في المجتمع -..محمد شردي يش




.. انتظروا حلقة خاصة من #ON_Set عن فيلم عصابة الماكس ولقاءات حص