الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آفة الفقر والجوع

حميد طولست

2008 / 12 / 20
المجتمع المدني


‬آفة الفقر والجوع ليست قضية تحرير أو طغيان،‮ ‬إنّما هي مسألة حياة أو موت، لا‮ ‬يمكن تأجيلها أو‮ ‬غضّ‮ ‬الطرف عنها‮ في أي مجتمع كان. ‬فإن استشرت في حضرة البطالة و انتشار الميز بين طبقات المجتمع و تفاوتات مستويات الدخل به،‮ ‬تسلّل الفساد إليه ورافقته الجريمة، لإنّ‮ ‬الجائع في‮ ‬سعيه إلى توفير احتياجاته،‮ ‬قد‮ ‬يلجأ إلى أي‮ ‬تصرّف سلبي‮ ‬دون اعتبار للعواقب، أو التّفكير بأيّ‮ ‬أمر آخر مهما بدا سامياً‮ ‬وذا قيمة وقدسية‮، ‬فالجوع لا‮ ‬يعترف بقيم أو مبادئ وليس له دين، و هو "كافر" كما يقول المغاربة .
كم هي كثيرة‮ القضايا التي ‬يواجهها المواطن المغربي المغلوب على أمره، فيصمت عنها أويتجاهلها، وقد لا يعيرها اهتماما، رغم ضجيج الأنباء الواردة عنها من كل حدب وصوب. فلا يهتم بالانتخابات الأمريكية وفوز أوباما بالرئاسة رغم أنه أسود ومن جذور افريقية، ولا يحسب للشأن النووي‮ ‬الإيراني‮ والتفجيرات العشوائية في‮ ‬العراق وأفغانستان أي حساب، كما أنه لن يكترث لعمليات الاختطاف في‮ ‬مصر، و تزايد نشاط قراصنة سواحل الصومالية، ولا حتى ما يشهده العالم اليوم من زلازال‮ ‬اقتصادية و إنهيارات في الأسواق المالية‮ التي ‬اهتزّت لها معظم الدّول‮ ‬فأدّت إلى ارتفاع مهول في‮ ‬الأسعار،‮ ‬نتجت عنها بالضرورة إختلالات خطيرة. إن ما يهم المواطن المغربي، هو توفير "كسرة" خبز وحيطان تقيه شر الحر و القر. أما حمايته و دويه من انخفاض مستويات المعيشة كما هو منصوص عليها في إعلانات الأمم المتحدة العالمي‮ ‬لحقوق الإنسان الذي صادقت كافة أقطار العالم والمغرب من بينها والتي تنص المادة 52 منها على أنه: ‬""لكل شخص الحق في‮ ‬مستوى معيشة‮ ‬يكفى لضمان الصحة والرفاهية له ولأسرته بما في‮ ‬ذلك الحق في‮ ‬المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية والخدمات الاجتماعية الضرورية‮.. فتلك أمور يتركها لمن تحملوا أمانة أمور الناس من الساسة والحكام. فما يهمه من كل الهرج والمرج المحيط به، هو حلمه بعدالة اجتماعية حقيقية توفر له ولأبنائه أساسيات الحياة من تعليم وصحة ‬وشغل، وتحفظ حياته وكرامته في‮ ‬المجتمع،‮ ‬وتمكن كل الفقراء من الحصول على الغذاء الصحي‮ الكافي ‬لهم و لذويهم. الشيء الذي لن يتأتى إلا بتدخل الدولة لدعم السلع الأساسية لتكون في‮ ‬متناول الشرائح الاجتماعية المعوزة والفقيرة‮ دون غيرها من الميسورين الذين مَنٌ عليهم الوطن الكريم من ريع صناديقه الكبيرة العامرة، كصندوق المقاصة الذي يطبق المثل المغربي "زيد الشحمة في المعلوف"..
‮الخوف كل الخوف ‬يكمن في‮ ‬تجاهل القائمين على الأمور، دورالعدالة الاجتماعية وتليل من خطورة العلاقة بينها وبين الاستقرار السياسي‮، تلك ‬العلاقة الطرديه، التي كلما حافظ نظام ما، كان الاستقرار السياسي‮ ‬من نصيبه، وأسهم ذاك الاستقرار في‮ ‬توفير الأمن الاقتصادي والاجتماعي،‮ ‬وقد بات معلوماً‮ ‬أنّ‮ ‬الأمن الاقتصادي‮ ‬والأمن الأمني‮ ‬متلازمان، فكلما‮ ‬غابا بسبب غياب العدالة كثرت الإحتجاجات التي غالبا ما تتحول في المجتمعات المتخلفة إلى انفلاتات و ثورات يصعب ردعها. فالخطر يزداد كلما ازداد عدد الأفواه التي تبحث عن اللقمة، وغياب العدالة‮ ‬يؤدى إلى العنف والى منطق خذ حقك بيدك؛ وتدارك الأمور قبل تفاقمها أصبح من أوجب واجبات حكومتنا الموقرة وكل سياسينا والبرلمانيين المحترمين، بالعمل على معالجة أسباب الفقر ومسبباته، بدل صناعة الوهم و انتظار فرض العقوبات لاحقاً‮. فالوعود الوهمية زائد العقوبات هي أكثر خطراً من القنابل النووية الإيرانية التي تخيف الغرب رغم قوته..
الحق في التغذية، والحق في العيش الكريم، يعدان من أهم الحقوق الإنسانية، كونهما يشكلان مدخلا لحماية كرامة الإنسان وحقه في الحياة. فليس إذن من باب الصدفة أن تندرج محاربة الفقر في طليعة أهداف الألفية من أجل التنمية، التي التزمت خلالها الدول، وضمنها المغرب، بالتخفيض من معدل الفقر بنسبة 50% خلال الفترة الممتدة بين 1990 و2015 سواء تعلق الأمر بالفقر المطلق، أو بالفقر النسبي أو بالهشاشة. فقراؤنا كما فقراء العالم، لا يؤمنون بأن يوما مشتقا من معاناتهم، يسمى "اليوم العالمي لمكافحة الفقر" و المحتفل به من أجلهم في الـ 17 أكتوبر من كل سنة - يمكنه القضاء على الفقر أو التقليص من مساحة مشاكل الفقراء الاقتصادية، التي تغرق وسط خوف و تخويف رهيب للناس من خطر أزمة فقر قادمة قد لا يسلم فقراء اليوم من تأثيرها. أزمة مختلفة عن كل الأزمات المالية العالمية التي عرفها العالم مند قرون.
ورغم التقدم التكنولوجي الهائل الذي شهدته البشرية، ورغم ارتفاع وتائر الإنتاج العالمي بشكل غير مسبوق، والتطور الاقتصادي المذهل الذي أصاب حياة ملايين البشر، ورغم ما حصل بالمغرب من تقدم خلال الأعوام الأخيرة في مجال ووسائل محاربة ظاهرة الفقر، فإن القضاء على هذه المعضلة، أو التقليص من مساحته، تحقيقا لأهداف الألفية الثالثة، يبقى حلما بعيد المنال، إذ لازال الفقر بجميع أشكاله يشمل قرابة 40% من سكانة المغرب، و يمس الأرياف أكثر من المدن. و يزحف إلى أعداد كبيرة من الطبقة المتوسطة التي كانت عماد المجتمع وعصبُه، مما يهدد المجتمع بأسره.
ويرى بعض المحللين أن نظام الأجور الجامد في المغرب و الذي لا يتلاءم مع تغيرات الأسعار، هو أحد أهم العوامل الرئيسية التي أفقرت الطبقة الوسطى، والتي يخشى من اندثارها واضمحلالها تحت ا مطارق‮ ‬غلاء الأسعار وتآكل الرواتب، بعد أن أعدمت الطبقة الدنيا وفتحت الطريق ممهدا أمام طبقة جديدة غالبيتها من تجار و مروجي المخضرات وناهبي المال العام ليتربعوا فوق كراسي الثراء، ونما نفوذهم على حساب نفوذ الأمة و قويت سلطتهم على حسابها، و ساد راس المال المتوحش الى الحد الذي طغى فيه على كل شيء وكانت النتيجة ما نراه الآن من فقر وتخلف، لأن غالبيتهم ليسوا على علاقة جيدة مع المشاريع البناءة التي تقود إلي نمو أو تقدم، و لم تعد سيادة الأمة مستمدة من الشعب بقدر ما أصبحت مستمدة من القوى المرعبة لأرباب المال والصناعة، لأنه عندما تقل المحاسبة تكثر السرقات، وعندما يُساء الاختيار تكثر السرقات، وعندما لا تكون هنالك رؤية للتخطيط الواضح تكثر الإخفاقات!
و المغرب – ليس بأفضل من دول العالم الثالث – التي تقلّ فيها المراقبة وتكثر فيها المحاباة والمحسوبية، وتتداخل في القرار المقاربات الحزبية والعائلية والمصالحية.

ويذكرنا هذا الوضع بقولة فرانكلين روزفلت أمام الكونغرس عام 1935:
"لقد فوضنا الشعب تفويضا صريحا بأن نحمل الامريكيين على الإقلاع عن فكرة اكتساب الثروة عن طريق الربح الفاحش اكتسابا يؤدي إلى فرض النفوذ الشخصي غير العادل على الشؤون الخاصة ومن ثم العامة أيضا مع عظيم الأسف".
معضلة الفقر لا تقتصر آثارها على الجانب الاقتصادي فقط، بل لها تأثيراتها الاجتماعية الواسعة والخطيرة جدا، فعندما يتزايد عدد الفقراء في مجتمع ما، تتزايد العشوائيات التي تحد من تطور المجتمع، فتزداد معدلات الجريمة والانحراف الاخلاقي والاجتماعي ويزداد عدد اللصوص والنصابين والمجرمين من كل الانواع، اضافة الى ازدياد التسرب من المدارس، وزيادة اعداد اطفال الشوارع، وازدياد تمركز الثروة بايدي القلة من الناس، مما يوسع من الفروقات الطبقية، ويزيد من الاحتقانات والكراهية والشعور بالغبن وكلها عوامل تؤدي الى عدم الاستقرار بل الى الكوارث.
وهذا يتعارض مع كل الطموحات والاهداف التي تسعى اليها الامة والقوى المخلصة فيها، وفي مقدمتها تحقيق معدلات معقولة من التنمية والنمو الاقتصادي، حتى تتمكن امتنا من النهوض من الكبوة التي ترزح في اغلالها منذ عقود طويلة، والحقيقة انه مطلب ليس بعصية على التحقق، لان التخلف والضعف الاقتصادي الذي تعيشه بلادنا احد أسبابه الرئيسية هو ضعف الإدارة الاقتصادية .. وبشكل عام ضعف الادارة السياسية، فموارد بلادنا هائلة، وامكانياتها الاقتصادية كبيرة جدا، تمكنها من ان تصبح قوة اساسية كبرى لو احسنت الادارة السياسية استثمار مقدرات بلادنا ، واولها وضع الخطط والبرامج للتنمية البشرية،.
ما يحتم على المسؤولين الحكوميين والسياسيين، إعادة النظر في السياسات العمومية والخطط المتبعة في القضاء على الفقر، وذلك بتوزيع الثروات الوطنية على المواطنين، ومساعدة الفقراء على رفع مستوى معيشتهم وذلك عبر سن نظام عادل للأجور، وإقرار دخل أدنى للاندماج في النسيج الاقتصادي والاجتماعي، مع محاربة الامتيازات، واقتصاد الريع. بدل تعويدهم على مد يد التسول لمؤسسات الدولة و الجمعيات الخيرية الوطنية والدولية. فنسبة كبيرة ومهمة من الفقراء مستعدة لأن تصبح قوة عاملة و منتجة و مفيدة لعائلاتها و لوطنها، كما يؤكد ذلك محمد يونس البنغالي نصير الفقراء أو"مصرفي الفقراء" كما يلقبونه، وصاحب المبادئ والنظريات الاقتصادية الكبرى، والفائز بجائزة نوبل للسلام عام 2006مناصفة مع بنكه "غرامين بنك" المتخصص في منح قروضا مصرفية صغيرة للمعوزين تؤدي، حسب قوله، إلى استئصال جذور النزاعات و الإرهاب، كما يقول «الفقر خطر على السلام» و أن «ما ينجم عن الفقر المشين من إحباط وحقد وغضب لا يمكن أن يضمن السلام في أي مجتمع» ويؤكد على أن جشع الأثرياء هو السبب الرئيسي فيما حصل ويحصل لفقراء العالم، و كرر دعوته للرأسمالية الاجتماعية كحل صحيح يضمن لأصحاب المال ربحهم و للفقراء فرصة الخروج من فقرهم و نيل حياة تحفظ فيها كرامتهم..
وكم كانت فكرة بروفيسور الاقتصاد البنغالي محل سخرية الجميع ببنغلاديش وعيرها، عندما طرحهت لأول مرة، ولكنها أصبحت اليوم نظرية اقتصادية ونموذجا استثماريا ناجحا يُحتدى، ويفرض التوقف عنده و التفكير فيه طويلا. فما أحوج فقراء العالم لمثل هذه المبادرات والأفكار أكثر من أي وقت سبق. و المختصون في الميدان و أصحاب القراروالتنفيذ في العالم هم المعنيون و المطالبون الأوائل بتجريب مقترح بنك "غرامين". برنامج يونس التنموي ليس وحده الذي نجح في التقليل من الفقر و حول الفقراء إلى قوة إنتاجية مهمة؛ فهناك النموذج السنغافوري للتنمية والعدالة الاجتماعية والسياسية الذي قاده رئيس الوزراء " لي كوان يو" الذي مكن‮ ‬الفقراء من أدوات العمل وحولهم إلى عناصر منتجة وفاعلة في‮ ‬المسيرة التنموية لا عناصر خاسرة إتكالية، لا تجد ما تفعله‮ ‬غير الاضرابات والاعتصامات والتظاهرات‮.
فقد سن رئيس الوزراء السنغافوري برنامجا تنمويا طموحا ادخل سنغافورة إلى‮ ‬مضمار التصنيع،‮ ‬واعد الأراضي‮ ‬الساحلية الواقعة في‮ ‬غرب الجزيرة لتأجيرها للاستثمار الصناعي‮، ‬وشن القوانين التي‮ ‬تنظم شؤون العمل والعمال لتحد من قدرهم على التظاهر والاشتغال بالسياسة " الخاوية أو السياسوية" و أردفه ببرنامج إسكاني‮ ‬عام وطموح، يعد مثالا ناجحا في‮ ‬كل آسيا وذلك من خلال بناء ناطحات سحاب تحتوي‮ ‬على شقق مجهزة بكل وسائل الراحة للعمال العاملين في‮ ‬القطاع العام و أسرهم، واتبع تلك الخطوة بفرض قوانين الضمان الاجتماعي‮ ‬لإجبار المواطنين على ادخار ما نسبته ربع راتبه الشهري‮ ‬على أن‮ ‬يخصم هذا المبلغ‮ ‬من الراتب ويودع في‮ ‬حساب الضمان‮.‬ ‮
الاحتفال باليوم العالمي للفقر جاء مختلفا هذا العام، خاصة بالنسبة للمهتمين و المتخصصين الاقتصاديين و أصحاب المال و الناشطين بالأعمال المالية. إلا أنه لم يختلف عن أيام الفقر للأعوام الأخرى الفائتة المكرورة والمتشابهة التي لا تتغير أبدا، بالنسبة للمليار فقير الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم، حسب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون؛ والذين شارك منهم مساء يوم السبت 18 أكتوبر 2008 المآت بل الآلاف، نساء / رجالا و أطفالا من فقراء المغرب في وقفات احتجاجية نضالية دعت إليها فروع الجمعيات المغربية لحقوق الإنسان وذلك تخليدا منهم لليوم العالمي لمحاربة الفقر . وقد ردد المحتفلون شعارات نضالية:
نعم لن نموت نعم سوف نحيى ولو أكل الفقر من لحمنا..
نعم سوف نحيى ولو أكل القيد من عظمنا..
تناولت مواضيع مختلفة تنذر بالخطر الكبير الذي أصبح يداهم الإنسانية جمعاء وفي مقدمتها الفقراء... تداول المحتجين شعارات كثيرة من مثل :
اعلاش جينا واحتجينا ** المعيشة غالية اعلينا
حقوقي دم في عروقي ** لن أنساها ولو أعدموني
الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ** غايتنا الكرامة في المغرب وفي كل مكان
واك واك على شوهة // الفيلا والبراكة // والبرلمان والهرمكة..
المفارقة المؤلمة بكل‮ ‬دلالاتها المرة‮.. أنه في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬كانت حشود الفقراء تتظاهر في بعض بقاع المغرب، مطالبة بالخبز والعدالة الاجتماعية التي وعدوا بها أتناء الحملات الانتخابية. يستغرق بل يغرق المنتخبون "بالبرلماني والجماعات المحلية" في‮ ‬جدالاتهم الساخنة وصراعاتهم الطاحنة حول المواقع والمصالح الذاتية..
فالحديث عن الفقرعامة، وفي المغرب خاصة، يجرنا إلى الحديث عن إشكالية محيرة في هذه المعضلة وفي هذا العصر بالذات، الإشكالية في حقيقة الأمر تكمن في أنه رغم كثرة الخطط التنموية الاقتصادية، وزخم السياسات الاجتماعية النهضوية التي عرفتها البلاد عبر عقود طويلة، وما نتج عنه من تقدم تكنولوجي، وارتفاع في و ثائر الإنتاج بشكل غير مسبوق، وما عرفه اقتصاد البلاد من تطور مقبول أصاب حياة المغاربة، فإن الدراسات تخلص إلى "أن الفقر الذي كان فيما مضى في مستوى منخفض نسبيا، رغم الظروف غير الصحية للاقتصاد أنداك. زادت حدته وعرف ارتفاعا مهول وانتشارا مخيفا.. هذه الإشكالية بكل حمولاتها، تدفعنا إلى التساؤل عن السبب، أو الأسباب الحقيقية القابعة وراء انتشار هذا " البعبع" المرعب الذي أصبح يهدد حياة ملايين من المغاربة..
ورغم دور الجماعات المحلية غير المنكر، ومساهماتها في إطار تذخلاتها المتنوعة، حسب اختصاصاتها الواسعة في مساعدة المواطنين على تنمية مستواهم المعيشي، وتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية بإنشاء البنيات التحتية والمرافق الخدماتية والتجهيزات التي تساهم في تنمية كل القطاعات التي يمكن أن تخفف من حدة الفقر وسطوته، إلا أنها تبقى غير كافية أو غير ذات جدوى مع الكثير من التجارب وفي كثير من الأحيان...
فالمتابع لأسلوب عمل بعض جماعاتنا الحضرية منها والقروية، أو بالأدق لمعظمها خلال التجربة الطويلة التي عرفتها، سيلاحظ لا محالة، أن جل تدخلاتها محكومة بردود الأفعال الاعتباطية، و "التسلط السلبي" لرؤسائها -الذين ينبغي أن يُسبِّح بحمدهم كل المستشارين والموظفين- الذين يتدخلون في كل شاردة وواردة. هذه العلاقة الهرمية السائدة حاليًّا بين الرئيس والمرؤوس في جل مجالسنا المبنية على النظام الأحادي الشمولي( رغم مظاهر الديمقراطية)، تدفعنا لطرح أسئلة مختلفة عن سبب اختيار هذه الاستراتيجية التي تعمل بموجبها هذه المجالس والتي لا تخرج عن أسلوب الرفض والاستنكار والشجب وسحق مَن يُشتَبَه في معارضتهم للرئيس ورهطه، باللجوء إلى القوة والعنف والفرض، معتبرين ذلك جزء من صلاحياتها و ممارسة ضرورية لاستقامة ودوام التسيير.
مشاكل المجالس البلدية عندنا تكمن بالأساس في أسلوبها الحاد والذي يأخذ دائما عناوين الرفض والاحتجاج السلبي مذهبا وديدنا لا تحيد عنه. حتى أضحى عمل الكثير من مسيري تلك المجالس محكوما بالذهنية الشعبوية وليس بالذهنية المؤسساتية، حيث ُيتعمد الرفض والممانعة دون التفكير في البحث عن موارد تساعد على الإنجاز والاستمرارية، وهي(الجماعات) التي تشكو شح الموارد وتعتبرها المعوق الأول لكل أعمالها، فالغريب في الأمر أن أكثريتها ترفض الاستثمارات بدعوى قلة الإمكانات، وتقف بالمرصاد ضد مشاريع استثمارية و خدماتية هامة يمكن أن تكون لها مردودات اجتماعية ومادية يمكن توظيف في النهوض بأوضاع الفقراء و خدمة المواطنين؛ وكثيرا ما يكون ذلك الرفض الممنهج، إلا بسبب أن المشروع المثمر المرفوض كان من اقتراح المعارضين، أو لأن بعض زبانية الرئيس وحاشيته لهم تحفظاتهم ومواقفهم الشخصية الخاصة منه أو أنه يمس بمصلحة بعضهم، فتتناغم وتتجاوب معهم المجالس البلدية، بوصفهم قوة انتخابية لا يريدون خسرانها حتى وان خسرت جماعاتهم والمواطنين مشاريع يمكن أن تحرك الخدمات والاقتصاد في المقاطعة نفسها، وتمكن ساكنتها من المساهمة في هذا الحراك... الشيء الذي يربك الاقتصاد و يعطل أويلغي الكثير من المشاريع. فما أسهل أن ترفض، وما أسهل أن تحتج، وما أسهل أن تكون لديك عشرات من ردات الفعل.. لكن ما أصعب أن تنتج فعلا واحدا مثمرا يطور ويحسين التفاعل المجتمعي بين مكونات المجتمع: الفرد، الجماعة،و المؤسسات الاجتماعية المختلفة الأخرى.
الحقيقة المرة هي أن مجالسنا البلدية تضع قدما في الحزب وقدما في المؤسسة، وفي المسافة مابين القدمين تفوت علينا مشاريع كثيرة وفرصا مهمة، بسبب خلافات وتجاذبات داخلية و سياسوية، سرعان ما تخرج منها بمجموعة ردات فعل ارتجالية، وقرارات رفض سلبية، تسود بها آلآف الصفحات دون أن تقدم بديلا يحقق نهضة أو تقدما، لا بل إن بعضها ساهم في مضاعفة أزمات التنمية وعاقها كلية..ـــوالذي يظهر أن الهوة ستمضي بعيدا بين الفقراء وبين الأغنياء ما لم تتحول انتخاباتنا إلى عرس ديموقراطي حقيقي ومباراة تنافسية شريفة بين الفرقاء الحقيقيين في هذا الوطن، ننسجم فيه مع منطق العصر، ومقتضيات ديننا الحنيف الذي أمرنا دوما بالأخذ بالأسباب، فإن كان الله عز وجل أمرنا بالشورى في قضايانا كلها، فإنه كلفنا بالأخذ بالتي هي أحسن واختيار أفضل الوجوه الممكنة في كل زمان ومكان للقضاء على هذا العدو المخيف، والأخذ بآخر ما وصلت إليه العقول البشرية الراشدة في تنزيل أمر التشاور والتداول في حل مشكل الفقر، وهاهي الدول المتقدمة بعد أن جربت ويلات ما يجلبه الاستبداد والاستفراد في التدبير، اهتدت إلى النمط الديموقراطي الذي يحقق التنمية والأمن والوحدة والقوة والريادة، ولا يجوز للمؤمن ولا للعاقل الرضا بالدون، ولا السكوت عن سياسة اللف والدوران والتسويف والتأجيل..
فمن واقع تجربتي المتواضعة في تسيير إحدى الجماعات المحلية بفاس، ومن مشاركتي الغنية في الندوات وورشات الأعمال والحلقات المستديرة التي نوقش فيها ما يمكن أن نطلق عليه أحوال الساكنة وقضاياها، والتي تدخل في اختصاصات المجالس البلدية. تكون لدي انطباع آخذ في التعزز مع الوقت، مفاده أن ما ينقص ثقافتنا هو غياب التراكم والتأصيل للأمور، ما يجعل معظم مؤسساتنا، والجماعات المحلية على رأسها، أسيرة لتكرار البدايات. فالمشارع والمخططات التي تناقش في هذه الأنشطة متشابهة بمفرداتها ومحاوروها، إلى حد الضجر. فعندما يفكر المسؤولون بأي جماعة، في وضع خطة لخدمة الساكنة، فإنهم يتصرفون وكأن الموضوع يُبحث لأول مرة، فينطلقوا من أولى البديهيات، ليكون الناتج أن كل المشاركين في تلك المؤتمرات والندوات يكررون ما سبق أن قالوه هم أنفسهم في ندوات مشابهة سابقة، أو قاله سواهم في أنشطة أخرى. ومن النادر أن تبنى ندوة أو جلسة عمل على خلاصات أو نتائج جلسات أخرى سبقتها، لينطلق منها نحو آفاق جديدة غير مسبوقة أو غير مدروسة تحتاج للدراسة والتأصيل، لتحقيق الإضافة على ما سبق أن قيل أو بحث، والانطلاق، بالتالي، من هذه الإضافة نحو أخرى ثم إلى أفق جديد.
التراكم وحده هو معيار الإنجاز، ذلك أن الأمور الحاسمة في الميادين الاجتماعية الإنسانية لا تتحقق دفعة واحدة، إنما بالتراكم الذي يفضي، مع الزمن، إلى تحولات نوعية، وهو الأمر الذي تكشف عنه تجربة العمل بالمؤسسات الحكومية والمدنية عند الأمم المتحضرة، حيث التراكم لا يتحقق بالتكرار الممل كما هو حال جماعاتنا البلدية وجل مؤسساتنا الاجتماعية، وإنما بالإضافة لما هو منجز أو قائم، حتى لو كانت هذه الإضافة محدودة، فإن أهميتها تنبع من كونها خروجا عن الدوران في الحلقة المفرغة.
فالعاقل لا يبدأ من نقطة الصفر كلما هم بعمل، أما غيره فبعكسه، لان العاقل يستفيد من تجارب الآخرين، أما غيره فلا يثق بأحد، بسبب اعتداده بنفسه، ولذلك لا يطمئن إلى تجربة سبقه إليها غيره، ولذلك، فان العاقل لا ينطبق عليه القول المشهور (إن التاريخ يعيد نفسه) بل تنطبق هذه المقولة على الأغبياء الذين لا يعرفون معنا للتعلم من التجربة.
والعاقل، كذلك، يعتبر بان الحياة الدنيا سلسلة واحدة مترابطة الحلقات، والتي تمثل كل واحدة منها تجربة إنسانية أو أكثر، ولذلك فهو يرى بان من يريد أن يستفيد من حياته بأقصى درجات الاستفادة، عليه ان يجد مكانه في هذه الحلقات فلا يبدأ من نقطة الصفر، وإلا أضاع الفرصة ولم يكسب النجاح.
ولو كان عقلاء البشرية يبدأ كل واحد منهم من نقطة الصفر ويرفض البدء من حيث انتهى الآخرون، لما تطورت البشرية ولما شهدنا الفارق الكبير جدا بين حياة الناس في القرن الواحد والعشرين وحياتهم في القرن الثامن مثلا أو غيره، من القرون الماضية، ان كان على صعيد الفكر والثقافة والعلاقات الاجتماعية أو على صعيد المدنية والتكنلوجيا والعمران والتطور المادي، والى ذلك أشار الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بقوله " لولا التجارب عميت المذاهب، وفي التجارب علم مستأنف".‬
فليس غريبا مع هذا الوضع، أن تغدو أنشطة جل جماعاتنا الرامية للحد من ظاهرة الفقر، عاجزة عن أن تحدث النقلة المنشودة في مجال تطويرالمجتمع والرفع من وثيرة التنمية، لأنها تظل تطرح الأسئلة ذاتها التي سبق أن طرحت مرارا ولم يجب عنها، أي أنها تخفق في إثارة أسئلة جديدة، أو على الأقل مقاربة إجابات مختلفة على أسئلة مثارة، غير تلك الإجابات المتداولة التي تشوه الحقائق وتقلب وقائع الأرض ليس بما ينصف الفقراء، بل بما يخدم رغبة حفنة من المنتفعين من ويلات الناس ومآسيهم وكوارثهم، والتي تتحول، مع التكرار، إلى مشاهد فيها من البلادة والخمول والكسل أكثر مما فيها من اليقظة والحيوية والجدة..
إن الركون إلى ما قيل سابقا مرارا وتكرارا دون التبصر في محتواه يصبح مع الزمن عائقا بوجه تطوير العمل الجماعي وبلوغ النتائج المنتظرة منه، ودون إجتراح الأدوات والسبل المفضية إليها، خاصة عندما يتعلق الأمر بواقع شديد التعقيد كالفقر المدقع المفضي إلى الجوع الذي قال عنه الإمام علي بن أبي طالب مقولته الشهيرة "لو كان الفقر رجلاً لقتلته" وهو لا يقصد بذلك -إلا- وطأة الفقر ووحشيته حين يضرب في المجتمعات الإنسانية.
فقتل الفقر من بين اختصاصات الجماعات المحلية، وهو يحتاج إلى النظر بعناية إلى الآليات التي تحكم عملها، وتحليلها في جهد دؤوب ومستمر، ليس من اجل تفسيرها فحسب، وهو أمر مهم، وإنما أيضا تغييرها، وهذا لن يتحقق إذا ما استمرت المرواحة في تكرار البدايات، بدل المجاسرة في تجاوزها والانطلاق منها لما هو ابعد..
لهذه الأسباب وغيرها كثير، قرع الملك محمد السادس في خطابه الأخير أجراس الخطر معلنا أن رأسمالية السلب والنهب والاحتكار والتسلط قد انتهت لياليها، وأن تعزيز المكانة الاقتصادية للطبقة الوسطى وإحياء ماضيها، و إيجاد عمل سنوي ثابت للعامل يكفل له الأجر السنوي والمشاركة بالأرباح هو الذي يحفظ للإنسان كرامته، ويمنع حشد رأس المال في أيدي رجال قلائل .
وذلك بالعمل بالوسائل الملائمة لظروف المجتمع، لإعادة توزيع التوازن الاقتصادي بحيث لا يبقى مركز الثقل في المال والصناعة بأيدي قلة محتكرة تمكنها قوة المال والاحتكار من بسط نفوذها على الدولة والأمة كلها!! والتفكير في إقامة نوع ملائم من الاقتصاد التشاركي يمتص كبرياء رأس المال ويوقف زحفه الضاري الذي أدى إلى القضاء على الطبقة الوسطى...والتي وردت فكرتها في الآية السابعة من سورة الحشر والتي تقول ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) . صدق الله العظيم








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وديع النجار يتحدث بكل شفافية عن رأيه في زواج المثليين


.. مسؤول إسرائيلي يستبعد إطلاق سراح جميع الأسرى لدى حماس قبل نه




.. عائلات الأسرى الإسرائيليين بغزة: كفى ضغطا عسكريا يقتل المحتج


.. نزوح شاق لفلسطيني يحمل أولاده من ذوي الاحتياجات الخاصة في غز




.. إسرائيليون يتظاهرون في حيفا للمطالبة بصفقة تبادل