الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يواخيم كامبه..نضال من أجل -ألمنة- الألمانية!

زهير سوكاح

2007 / 6 / 20
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


شكل الإصلاح اللغوي علامة فارقة في تاريخ اللغة الألمانية، حيث كان دائماً بمثابة ردة فعل مباشرة لكل تهديد لغوي محدق أو محتمل ضد اللغة الألمانية، كما كان وسيلة للانعتاق من التأثير اللغوي الأجنبي, الذي كان يُنظر إليه بالأساس كمؤشر على تبعية محتملة لأخر.
لم يكن الإصلاح اللغوي في ألمانيا قبل القرن العشرين ذو طابع مؤسساتي محكم التنظيم كما هو عليه الآن، بل كان حصيلة لمجموعة من المبادرات والجهود الفردية المضنية، لكنها كانت جدُ حاسمة ومؤثرة في المسار التاريخي لتطور اللغة الألمانية.
ارتبطت عدة شخصيات ألمانية بحركة الإصلاح اللغوي الألمانية، والتي تعود جذورها الأولى إلى القرن السابع عشر ميلادي، لكن ذاكرة اللغة الألمانية لا تزال تحتفظ على مر العصور بجهود أحد أعلام اللغة في ألمانيا، وهو المربي و الأديب و الناشر و اللغوي:"يواخيم هاينرش كامبه" Joachim Heinrich Campe 1881 -1746)).

مرت اللغة الألمانية في عصره بمرحلة صعبة، فقد ارتبطت الطبقة الغنية والمؤثرة في المجتمع الألماني بكل ما هو "فرنسي" وأضحت اللغة الفرنسية لغة التدريس والكتابة العلمية والإدارة، ووجد عدد هائل من الكلمات والتعابير اللغوية الفرنسية طريقه بيسر إلى معجم اللغة الألمانية.
كانت البدايات الأولى لاهتمام يواخيم هاينرش كامبه بالوضعية الحرجة للغته الأم في فرنسا الثورية: عندما زار كامبه فرنسا في عام الثورة 1789، انبهر أيما انبهار بما أسماه بوضوح اللغة الفرنسية وقوتها التعبيرية، ففي العاصمة باريس تفاجأ بالمستوى اللغوي و الثقافي المتين للطبقة الفقيرة من المجتمع الفرنسي، و التي ساهمت بقوة في إنجاح الثورة الفرنسية.
كانت لغة الطبقة الفقيرة والمهمشة لا تختلف البتة عن لغة الطبقة المتعلمة والغنية من المجتمع الفرنسي، وهذا ما دفعه إلى التدبر ملياً في الأوضاع الاجتماعية والسياسية المتدهورة السائدة في بلده وانعكاساتها السلبية على اللغة الألمانية.
في تلك الفترة كانت ألمانيا منقسمة على نفسها سياسياً ولغوياً. ورغم أن اللغة الألمانية كانت حاملة لأدب معترف به في القارة الأوربية، إلا أنها كانت مثقلة بمفردات دخيلة، دون أن نغفل أيضا التعدد اللغوي واختلاف اللهجات وكثرتها، الذي كان طاغيا آنذاك في المناطق الألمانية.
كان معظم المعجم السياسي الألماني مكوناً في معظمه من مصطلحات ومفردات فرنسية وأخرى إغريقية ولاتينية لا تتداولها إلا الطبقة الغنية المتعلمة فقط، أما الأغلبية الساحقة من المجتمع الألماني فكانت لا تستطيع التعبير عن نفسها سياسياً بسبب جهلها التام بالمفردات الأجنبية و فقر المعجم الألماني من المصطلحات والمفردات السياسية من اللغة المحلية.
أدرك كامبه الذي كان متأثراً بأفكار الثورة الفرنسية (حيث سعى جاهدا طيلة حياته إلى نقلها إلى المجتمع الألماني) أنَّ أي تغيير داخل المجتمع الألماني هو رهين لإصلاحات عميقة في مختلف مناحي الحياة في ألمانيا وأولى هذه الإصلاحات، حسب كامبه، كان هو إصلاح المشهد اللغوي في البلد، حيث أعتبر كامبه أن إصلاح الوضع اللغوي هو شرط لا محيد عنه من أجل إنجاح حركة التغيير في المجتمع الألماني.
كان كامبه يهدف عن طريق الإصلاح اللغوي إلى إيجاد لغة ألمانية ميسرة ومفهومة لجميع متكلميها، و إيجاد هذه "اللغة الميسرة" كان يقتضي في نظره "تنقية" اللغة الألمانية من كل الكلمات و المصطلحات الأجنبية والدخيلة وتعويضها بمقابلات مفهومة ومن صميم اللغة الألمانية، بعبارة أخرى سعى كامبه إلى محاولة "ألمنة" اللغة الألمانية.
لهذا الغرض شرع بحمية وحماس منقطعي النظير ولسنوات طويلة في إيجاد مقابل ألماني لكل كلمة دخيلة في اللغة الألمانية، وبخاصة في الميدان السياسي، حتى يتسنى للطبقة الدنيا من المجتمع الألماني - حسب كامبه - إدراك هويتها والتعبير عن واقعها و تطلعاتها لغوياً و سياسياً كخطوة أولى وحاسمة من أجل الإصلاح والتغيير المنشود.
فى سنة 1801 أصدر كامبه معجماً يضم مقترحات و مفردات ألمانية بديلة عن المفردات الأجنبية, بلغ عددها آنذاك 94 مفردة بديلة فقط، وبعد مرور 23 سنة ظهر المعجم في طبعته الثانية سنة 1813 حيث أصبح يحتوى على 11000مفردة ألمانية بديلة في مختلف المجالات وبخاصة في المجالين السياسي والعلمي.

رغم أن هذا المعجم قد لقي في ما بعد نجاحاً منقطع النظير، إلا أن كامبه كان قد تعرض في بادئ الأمر لنقد شديد من طرف العديد من القائمين والمهتمين بالشأن اللغوي والثقافي في ألمانيا آنذاك بل ولسخرية لاذعة من مفكرين وأدباء معاصرين له، أمثال غوته و شيلر و الأخوين جريم.
كان كامبه مسكوناً بهاجس إيجاد مقابل ألماني لكل مفردة دخيلة وهذا ما أوقعه في إشكالات منهجية عديدة، حيث أن بعض المفردات المقترحة كانت عبارة عن كلمات مركبة وطويلة يصعب تلفظها، وبعضها الأخر كان لا يتطابق بالكلية مع المعاني التي تحملها المفردات والمصطلحات العلمية الدخيلة، أما البعض أخر فقد كان ببساطة مدعاة للسخرية و الاستهزاء بسبب غرابتها أو طرافتها.

لم يحقق كامبه هدفه المنشود، الذي كرَّس له سنوات طويلة من العمل الدؤوب والجهد المتواصل، أي تنقية اللغة الألمانية من التأثير اللغوي الأجنبي وألمنة الاستعمال اللغوي و خلق لغة ألمانية موحدة ميسرة ومفهومة لجميع ناطقيها في جميع المناطق الألمانية، فقد ظلت الكلمات الدخيلة حاضرة في معجم اللغة الألمانية بقوة، أما التعدد اللغوي فقد ظل سائداً في ألمانيا بعد ذلك لفترة طويلة.
لم يستطع كامبه "تنقية" اللغة الالمانية من المفردات الاجنبية كما أراد, لكنه ساهم إلى حد بعيد في زيادة الوعي باللغة الألمانية كمكون من مكونات الهوية الجمعية للمجتمع الألماني والمُعَبِر عنها. أيضا قام كامبه بإثراء المعجم الألماني بعدد كبير من المصطلحات المفردات الجديدة، والتي لا يزال الكثير منها مستعملاً إلى يومنا هذا في الحياة اليومية لناطقي اللغة الألمانية بشكل كثيف، و دونما إدراك أن تلك المفردات ما هي إلا نتاج فردي لمثقف ملتزم بقضايا وطنه أراد تصحيح وضعية الواقع السياسي و الإجتماعي الذي عاصره عن طريق تصحيح المشهد اللغوي لذلك الواقع المتردي.

المراجع:
(باللغة الألمانية)


- Polenz, Peter von: Deutsche Sprachgeschichte vom Spätmittelalter bis zur Gegenwart. Band III: 19. und 20. Jahrhundert. (1999)

- Schiewe, Jürgen: Sprachpurismus als Aufklärung. In: Strocka Volker Michael (Hg.):Die Deutschen und ihre Sprache.(2000)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو يهدد.. سنجتاح رفح بغض النظر عن اتفاق التهدئة | #رادا


.. دلالات استهداف القسام لجرافة عسكرية إسرائيلية في بيت حانون ف




.. من هو -ساكلانان- الذي نفذ عملية طعن بالقدس؟


.. أخبار الساعة | غياب الضمانات يعرقل -هدنة غزة-.. والجوع يخيم




.. مستوطنون إسرائيليون يعترضون شاحنات المساعدات القادمة من الأر