الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان والغريزة والأخلاق

محمود الباتع

2007 / 6 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لأنه عندما يتعارض الطرح الفكري «حتى وإن كان اجتهاداً دينياً» مع المنطق العقلي فإن من الواجب إعادة النظر في الطرح الفكري، فقد فعل الأزهر خيراً عندما أوقف فتوى الإرضاع السيئة الذكر للدكتور عزت عطية الذي فعل خيراً هو الآخر بالتراجع عن تلك الفتوى التي كان من شأنها أن تجعل منا أضحوكة أمام العالم إذا ما أتيح لها المجال للنفاذ والتطبيق العملي ولكانت كفيلة بأن تجلب لنا من المفاسد من حيث أرادت ان تمنعها ما لسنا في حاجة إلى المزيد منه، وذلك على الرغم من كل التخريجات والدفوع الفقهية التي حاول الدكتور عطية ان يدافع بها عن فتواه ابان مكابرته التي سبقت تراجعه قبل أن ينفلت تماماً عقال الغرائز الذي أصبح واهياً وشديد الهشاشة هذه الأيام ولكن بتصريح شرعي وغطاء ديني هذه المرة.

يمكن تعريف الغريزة بأنها ذلك الدافع الفطري للسلوك التلقائي غير الواعي لدى الكائن الحي بما من أجل التكيف مع البيئة المحيطة به عن طريق تلبية الحاجات الفردية لهذا الكائن سواء كانت حاجات عضوية أو وجدانية، من هنا يمكن فهم الغرائز الطبيعية على أنها المحفزات الطبيعية التي تدفع الكائن باتجاه البقاء والاستمرار في الحياة لكل جنس من هذه الأجناس على حدة، فالحاجات العضوية للمخلوقات الحية كالطعام والشراب والجنس تظهر على الكائن على شكل احساسه بالجوع أو العطش والرغبة الجنسية دون اختيار منه لاي منها، فليس بإمكان أحد أن يقرر انه لن يجوع بعد اليوم وهكذا في ما يتعلق بباقي الغرائز الحسية، أما الحاجات الوجدانية للكائنات الحية كالحماية والأمان والاستقرار فتحركها وترفدها كل من غرائز الخوف والحب والانتماء التي تظهر على شكل عاطفة الأمومة والأبوة والوطنية وما إليها وهي التي ابتكرت لها البشرية حلولاً عبر انشاء نظام الاسر والمجتمعات والدول على اختلافاتها في الأشكال والمضامين، وتتضافر كل هذه الغرائز مجتمعة في خدمة الغريزة الأساسية التي أودعها الخالق فيه وهي غريزة البقاء على قيد الحياة والاستمرار فيها وذلك حتى إشعار آخر يقضي الله فيه أمراً كان مفعولا!

إذا كانت الحاجات الوجدانية في معظمها حاجات جماعية ويقتضي اشباعها أن ترتبط بفرد آخر على الأقل فإن الغرائز الحسية ترتبط مباشرة بأجهزة الجسم وتظهر عليه على شكل الحاجة الجسدية المباشرة إليها، وهي أول ما يشعر به الكائن الحي منذ الثواني الأولى لقيده على جدول الحياة وقبل أن يتشكل لديه الحد الأدنى من الإدراك الواعي وتظل مستمرة معه طالما أن هذا الجسد لا يزال حياً، من هنا كان الإلحاح الجسدي في اشباع حاجاته العضوية هو الأعلى صوتاً والأشد وطأة من بين جملة الغرائز جميعاً، وقد اقتضت حكمة الخالق أن يأخذ اشباع هذه الحاجات العضوية شكل المتعة بما يعود على صاحبه بالكثير من اللذة الحسية التي تجعل من اشباع هذه الغرائز امراً مطلوباً بشدة من الكائنات الحية بل والهدف الوحيد من هذه الحياة لدى مظعم المخلوقات.

لقد انشغلت البشرية منذ بدايات وعيها الإنساني بمحاولات تهذيب وتقنين الغرائز لدى بني البشر وبالعمل على تقييدها ومنعها من الانفلات حفاظاً على البشرية من الانحدار إلى الحضيض الحيواني، فقد زرع الله تعالى هذه الغرائز في بؤرة اللاوعي لدى كل الكائنات الحية بنفس المقدار لا فرق في ذلك بين إنسان وحيوان غير أن ما يميز البشر عن غيره من المخلوقات هو متعة الخالق بنعمة العقل التي تميز بها الإنسان عمن سواه من المخلوقات وكان أن افرز نتيجة هذا العقل أنماطا من السلوكيات الانسانية والمحددات الاجتماعية التي تعارفت عليها المجتمعات المختلفة باسم «الاخلاق» التي لم تأت الأديان لتخترعها وإنما لتكملها وتحصنها بإطار ايماني لتضفي عليها بعداً ربانياً يضاف إلى بعدها الإنساني.

على عكس الغرائز الآتية فطريا من بؤرة اللاوعي فإن الاخلاق هي احد اشكال الوعي الإنساني والتي تعمل على ضبط وتوجيه السلوك الإنساني تجاه المؤثرات الخارجية التفاعلية مع الغير كما تجاه المؤثرات الداخلية النابعة من الأحاسيس الفطرية الغرائزية تحديداً، ولا جدال في أن الحصيلة الأخلاقية التي تحلى بها شخص ما تأتي في شكل مباشر إفرازا لتفاعل متعدد الاطراف ابطاله كل من النوازع الشخصية والجملة الثقافية الفردية والمنظومة القيمية الجماعية للمجتمع، وأما منظومة القيم الجماعية للمجتمع فتتأثر بالعديد من المتغيرات الاجتماعية كالحالة الاقتصادية والبيئية والصحية والاستقرار المدني من عدمه حيث الحروب والكوارث الطبيعية وما ينتج عنها وما إلى ذلك من أوضاع قد لا يكون الفرد صاحب تأثير مباشر فيها في الوقت الذي لا مناص له من التأثر بها إن سلباً أو إيجاباً.

إذا اتفقنا على أن الغرائز الحسية لدى بني الانسان تتوزع بالتساوي في ما بينهم فإن النوازع والحاجات العضوية تكون متساوية بينهم بالضرورة، ويبقى الوازع الثقافي هو الأبرز تأثيراً على السلوك الفردي بما يحتويه من قيم وأخلاقيات مكتسبة عبر التربية والتعليم والتوعية الذاتية وغير الذاتية فبقدر ما يتمكن الفرد من تحصيل الدوافع الأخلاقية، بقدر ما يعطيه ذلك من الحصانة ضد النوازع الداخلية لنفسه الأمارة بالسوء دائماً كما أن من شأن المحتوى الثقافي للفرد أن يمنحه من الوعي ما يكفي لأن يعرف متى وكيف يكبح جماح رغبته الغريزية ومتى وكيف يطلق لها العنان.

مهما كانت المقدمات والأسباب فإن الانكفاء الإنساني على الإشباع العضوي للجسد والانفتاح الواسع على الغرائز الحسية من شأنه أن يلغي كل حاجة أخرى وخصوصا الغرائز الوجدانية فلا يعود يعنيه أن يشعر هو أو غيره بأية عاطفة تجاه أي شيء أو أي أحد فلا يعود يقيم وزنا لقيمة ولا لمقدس ولا لأي اعتبار أخلاقي طالما أنه يحصل على متعته كما يريد، وهذه في الواقع جبلة بني الحيوان الذين لا يعرفون الأخلاق أو القيم أو المقدسات وليس لديهم من الصبر والحكمة إلا ما تخيلته عنهم القصص.

لقد قادت الثقافة الغربية المعاصرة التي يريدون لها أن تكون عالمية، البشرية إلى مثل هذا المأزق الخطر فانفتح البشر على غرائزهم بشكل أصبح يتهدد الكيان الإنساني برمته وصار كل ما نراه ينذر بتحول المجتمعات البشرية إلى قطعان من الوحوش وذلك بعد أن أصبحت أو كادت الأخلاق والقيم دقة قديمة أو موضة تجاوزها العصر، وطغت شهوة التملك والسلطة على كل ما عداها وأصبح كل شيء من حق أي شخص طالما كانت له فيه مصلحة وأصبح أي شيء ملكا لمن تمكن من الحصول عليه بفضل منطق القوة الذي غلب قوة المنطق، واختلط الحق بالمصلحة وضاعت بوصلة المفكرين حتى توهم بعضهم أن إرضاع المرأة العاملة لزملائها هو أقصر الطرق للحفاظ على الفضيلة كمن أغرق المدينة كلها من أجل أن يسقي قطة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وتقبلوا مني كل مودتي..










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البرازيل.. سنوات الرصاص • فرانس 24 / FRANCE 24


.. قصف إسرائيلي عنيف على -تل السلطان- و-تل الزهور- في رفح




.. هل يتحول غرب أفريقيا إلى ساحة صراع بين روسيا والغرب؟.. أندري


.. رفح تستعد لاجتياح إسرائيلي.. -الورقة الأخيرة- ومفترق طرق حرب




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا قصفت مباني عسكرية لحزب الله في عي