الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عيون ابن رشد

وهيب أيوب

2007 / 7 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كلّ ما نُدركه في هذه الدنيا - مُتحرِّكاً كان أم غير مُتحرِّك - ليس سوى إدراكات للفكر - ليس إلاّ الفكر ذاته.
لأننا لاندرك التنوّع عندما نتعدّى الفكر.
ماندوكيا كاريكا

بعد الضربات التي تلقتها الفلسفة على أيدي الأشعري والغزالي ورجال الدين، كان لا بد من عقل منقذٍ مخلّص يحيي الفلسفة والعلوم من جديد، فكان "أبـــــو الولـــيـــد" محمد بن رشد، المولود في قرطبة بالأندلس عام 1126م، خير من يقوم بتلك المهمة الشاقة، سيــّما وأن الفلسفة والفلاسفة ذاقوا الأمرين من قتلٍ وتعذيبٍ وتهجيرٍ وحرقٍ لمؤلفاتهم في الغرب والشرق على حد سواء.
وهكذا انبرى إبن رشد في فلسفته الرائدة كقائد حركة انبعاثٍ للفكر الإسلامي الحر، فصبَّ اهتمامه على أعظم الفلاسفة، وأهمهم أرسطو، وكان أفضل شارحٍ ومحللٍ لمؤلفاتهِ، مضيفاً فلسفته وآرائه الخاصة، مدافعاً عن العقل، وهو بذلك يقدم الفلسفة على الدين.
لقد عاشت الأندلس بتأرجحٍ مستمرٍ وصراعٍ دائمٍ منذ فـَتــَحها العرب بقيادة طارق بن زياد عام 711م، بين الفلسفة والعلوم والفلاسفة من جهة، ورجال الدين والفقهاء من جهة أخرى. وكان الصراع يعلو ويهبط تبعاً للظروف والحكّام الذين أحب بعضهم واحتضن الفلاسفة وأعلى راية العلوم والفلسفة، ومنهم الخليفة أبو يعقوب يوسف الذي قرّب إبن رشد منه وجعله طبيبه الخاص. وهو فيلسوف وطبيب وقاضي قضاة إشبيلية، وله مؤلفات تربو على السبعين كتاباً ورسائل في مختلف العلوم، أشهرها: "مناهج الأدلة"، "فصل المقال" و"تهافت التهافت"، وهو الكتاب الذي ردّ به على كتاب "تهافت الفلاسفة" لأبي حامد الغزالي. فأورد فقراته واحدةً واحده، وردّ عليها ببرهانٍ عقليٍ منقطعِ النظير. إذ كان الغزالي في كتابه يهاجم الفلسفة والفلاسفة ويحاول دحض أفكارهم، فكان إبن رشد خيرَ من يرد عليه في الكتاب الذي ذُكـِر، وهو أشهر مؤلفاته.
إلا أن حياة إبن رشد لم تكن لتسير بهذه البساطة، بعد أن فجّر بكتبه وآرائه بركاناً لم يخمد بعد، خاصةً بعد تولي الخليفة المنصور الحـُكمَ بعد والده أبي يعقوب. حيث استمر على نهج والده في البداية، إلا أن تحريض المتدينين والفقهاء على إبن رشد واتهامه بالكفر والزندقة، أثار حفيظة المنصور. ورأى سلطته مهددةً من قبل العامة والغوغاء التي أثارها خصوم إبن رشد على أفكاره المفسـِـّرة للقرآن والشريعة بغير ما يعتقدون، خاصةً رأيه بدور المرأة إذ يقول: "رأيي أن النساء ما دُمن من أفراد الجنس البشري فهن يشتركن بالضرورة في تحقيق غاية الإنسان، وهي تعمير الأرض والارتقاء بالحياة البشرية، ولن تختلف النساء عن الرجال في تحقيق هذه الغاية، إلا من حيث الدرجة الأكثر أو الأقل مثلما تختلف بين الرجال، ويستطعن أن يصبحن من القضاة والفلاسفة والحكام أسوة بالرجال". فزاد المتدينون إثارة العامة عليه، مما اضطر الخليفة، تحت ضغط هياج العامة، لعقد محكمةٍ في مسجد قرطبة، وُجِهت خلالها تهمة الخروج عن الدين ومخالفة عقائد المؤمنين. ودون سماع دفاع ابن رشد عن نفسه، حــُكِم بإبعاده ونفيه هو وأصحابه، وأُصدر منشور بتحريم الاشتغال بالفلسفة، وتحريم قرائتها واقتناء كتبها. فأُحضرت كتب ابن رشد وأُحرقت على مرأى العامة في ساحة قرطبة، وتعالت ألسنة المرتزقة في شتم وهجاء ابن رشد، حتى أن الرحالة المعروف إبن جبير هجاه بقوله:
لم تلزم الرشد يا إبن رشد لما علا في الزمان جدك
وكنت في الدين ذا ريــــــاء ما هكذا كان فيه جــــدك.
ولم يتوقف الظلم الموجه لابن رشد ومهاجمته من قبل العرب والمسلمين فحسب، بل تعدّاه الى أوروبا والكنيسة المسيحية، إذ كان عدد من علماء وفلاسفة اوروبا قد تأثروا بفلاسفة العرب أمثال إبن سينا والفارابي وغيرهم، إلا أن تأثير ابن رشد كان الأقوى على عقولٍ من مختلف الديانات، أمثال "موسى بن ميمون" اليهودي و"توما الأكويني" المفكر المسيحي و"مارتن لوثر" داعية البروتستانت. إضافةً لعدد كبير من صفوف مفكري روما وأوروبا، فأُصدرت أحكام ضدهم بالإعدام بتهمة "الرشدية"، ومنهم الإيطالي "بترو بومباناري" 1524م، و"برناردو تليزيو" عام 1588م، الذي تبنى نظرية ابن رشد القائلة بأن الحرارة هي سبب انتقال المادة الجامدة الى الحياة.
ومثلما شعر رجال الدين المسلمين بالخطر على مراكزهم ومصالحهم، حدث ذات الشيء على الكنيسة والكهنة في أوروبا، فأصدرت الكنيسة في باريس قراراً عام 1277 يدين أهم القضايا الفلسفية التي تتعارض والعقيدة المسيحية ومنها:
أولاً: إنكار الرشديين لحدوث العالم وإصرارهم على القول بقدمه .
ثانياً: إنكار الرشديين على الله العلم بالجزيئات.
ثالثاً: إنكار الرشديين على الله الخلق من عدم.
رابعاً: إنكارهم للعناية الإلهية.
خامساً: إنكارهم الخوارق والمعجزات.
سادساً: قولهم بوحدة العقل البشري، وتقديمهم الفلسفة على الدين، إلى آخره من من القضايا الواردة في قرار الإدانة، والذي يحتوي على 219 قضية.
إلا أن الفلسفة والفلاسفة استمروا في التحدي رغم الاضطهاد. وترجم هرمان الألماني أهم مؤلفات إبن رشد إلى اللاتينية وتسربت الرشدية إلى أوروبا، واستمرت فاعلة أربعة قرون، بل امتدت الى القرن الثامن عشر.
وبينما كانت العلوم تتحدى وتتقدم في أوروبا والغرب، كانت تتهاوى وتندثر في الشرق العربي والإسلامي تحت ضربات الفقهاء والحكام والغوغاء. ونهض الغرب بتطوير الفلسفة والعلوم، فظهر كوبرنيك وجاليليو ونيوتن ثم أينشتين وديكارت وكانــْط وهيجل وماركس، إلى آخره من علماء وفلاسفة لا يُعدّوا ولا يحصوا، في الوقت الذي ما زال العرب والمسلمون يتنازعون حتى الآن حول ما قاله الشافعي أو ابن مالك.
منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين حاول بعض مفكري النهضة العربية، متدينين وعلماء أمثال الأفغاني ومحمد عبدو والكواكبي وقاسم أمين وفرح أنطون وشبلي شميل وغيرهم، النهوض بالعقل والعلم وإحداث ثورة فكرية إجتماعية تحدث التغيير الحقيقي. إلا أن دين التعصب، أي تعصب، ما زال يأخذ على عاتقه إعاقة المسيرة وعرقلة التطور.
فهل من مرشدين بعد إبن رشد؟ وهل من صحوةٍ بعد سبات؟ وهل من عيون تتفتح من جديد على عيون أغمضت عام 1198م؟ حيث لم يعد إبن رشد طبيباً ولا قاضياً.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي اللهجات.. مقارنة بين الأمثال والأكلات السعودية والسورية


.. أبو عبيدة: قيادة العدو تزج بجنودها في أزقة غزة ليعودوا في نع




.. مسيرة وطنية للتضامن مع فلسطين وضد الحرب الإسرائيلية على غزة


.. تطورات لبنان.. القسام تنعى القائد شرحبيل السيد بعد عملية اغت




.. القسام: ا?طلاق صاروخ ا?رض جو تجاه مروحية الاحتلال في جباليا