الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل من تعارض وطني بين إنصاف الأمازيغية وتأهيل العربية؟ (حوار)

محمد المدلاوي المنبهي

2007 / 7 / 27
التربية والتعليم والبحث العلمي


س-1 الأستاذ المدلاوي، هل أضرت سياسة التعريب في المغرب باللغة والثقافة الأمازيغيتين ؟

يتعين أولا إعطاء مفهوم محدد للفظ "تعريب" لأن هذا اللفظ، على الرغم من تقدم عمره في الاستعمال الحديث، لم يُضبط قط حدُّه بمقتضى نصوص صورية توضح التصورات والمقاصد؛ وقد تَرك ذلك الفراغُ التعريفي البابَ مفتوحا أما طائفة شتى من المفاهيم تتزاحم أو تتناسخ في الأذهان حسب الظرفيات السياسية والثقافية.
فإذا كان المقصود بهذا الملفوظ هو أي خطة أو أي برنامج عملي، أو أي تصور قائم على مجرد مستوى الإرادات والنيات، يهدف إلى تأهيل اللغة العربية باعتبار هذه اللغة لغة لها مكانتها الحاضرة المترسخة والمكرسة تاريخيا في بلاد المغرب على المستويات الثقافية والفكرية والعاطفية، من حيث كونها اليوم من المقومات الأساسية للشخصية المغربية، المتعددة الأبعاد كما هو معلوم اليوم على الأقل، فإن أي خطة من ذلك القبيل لتأهيل تلك اللغة وللرفع من مكانتها لتصبح حاملا من حوامل الفكر الحداثي والعلمي في المنتدى العالمي للمنافسة اللغوية المعولمة لا يمكن إلا أن يساهم في تمتين الشخصية المغربية في عموميتها، وفي تحصين تلك الشخصية في وجه مختلف قوى الاستلاب قديمها وحديثها. ولن يتأتى شيء من ذلك، طبعا، إلا بتوجيه عقلاني وواقعي يتم العمل بمقتضاه على تأهيل تلك اللغة الوطنية لاستعادة قدرتها على اقتحام كل ما يصبح في المتناول من رُقَع حقولِ المعرفة الحديثة، منافِـسةً باقتحامها ذاك نظيراتها من اللغات المتوسطة الدنيا ومستفيدة منها، وصامدة في وجه اللغات المتوسطة العليا و حتى في وجه اللغات القوية على مستويات العلم والفلسفة والأخلاق والقدرة على التواصل والمعاملات الحية ومستفيدة منها كذلك، ومساهِـمةً - من خلال تلك المنافسات وتلك الاستفادات - في تحويل نصيب من المعارف - مما تسمح به الظرفية السوسيسولغوية الوطنية والدولية - من أحياز المجالات الضيقة للبحث العلمي العالي، الذي لم يعد يمكن تمامه اليوم إلا عبر شبكات التبادل العالمية – ولغتها اليوم هي الانجليزية وبعض اللغات المتوسطة العليا – إلى فضاء الدوائر الواسعة للمعرفة الميـسـَّرة (savoir vulgarisé) اللازمة لتكوين وإدماج سوادِ المواطنين، من غير الباحثين المتخصصين، في آليات الدورة الاجتماعية-الاقتصادية العصرية؛ كل ذلك حسب تصور هو أقرب، في هذا الباب، من تصور الميثاق الوطني للتربية والتكوين (المادة 111، أنظر كذلك المواد 112، 113، 114 من الميثاق). وحتى أعود إلى صميم السؤال المطروح أعلاه، أقول بأن خطة من هذا القبيل من شأنها، إذا ما أنجزت، أن تعمِّـم، في ميدان المعرفة والوعي اللسانيين على الخصوص كلَّ هذا الرصيد من المعارف الوصفية المتعلقة باللغة الأمازيغية بالضبط (نحوا وصرفا ومعجما وآداب وعادات وأخبار) مما راكمته مختلفُ اللغات (ألمانية، فرنسية، إنجليزية) مند قرنين من الزمن، وذلك بدل أن تكتفي تلك اللغة العربية في هذا المجال بترديد وترويج مجرد خطاب عامّي "دمغي" يخصِف من أوراق الجدية العالِمة على "أفكارٍ" هي عاميةٌ في جوهرها، وذلك عن طريق تغليف تلك الأفكار بقوالب الكلام المعْـرب الفصيح الذي يرفع الفاعل، وخبرَ "إنّ"، واسمَ "كان وأخواتها"، وينصبُ المفاعيل، وبدلَ الاختصاص، الخ. ليوهم من خلال طقوس الإعراب وغريب اللفظ بأن جوهر تلك الأفكار من صميم معدن العلم. فخطة التعريب بذلك المفهوم التأهيلي، الذي كنت قد قدمتُ بشأنه شخصيا مشروعا متكاملا مند يونيو 2004 مرّ بجميع المراحل التي تنص عليها المسطرة (سحب الملف، إيداع الملف، المقابلة الشفوية، البحث الإداري) قبل أن يُطوى أمرُ مصير المؤسسة المعنية التي كان قد صدر بشأنها طلب مشاريع مؤسسة وذلك من غير تفسير ولا تعليل، وهو مشروع يتعين اليوم نشره، هي خطة ما كانت فقط – لو أنها تمت فعلا حسب ذلك التصور – أبعدَ ما تكون عن أن تلحق ضررا ما باللغة أو بالثقافة الأمازيغيتين، باعتبارهما دعامتين أساسيتين أخريين من دعائم الشخصية المغربية والضامنتين لاستمرارية تلك الشخصية في وجه رياح الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ بل إن تلك الخطة كانت – على العكس مما يتوهم الواهمون – ستساعد على إنعاش اللغة والثقافة الأمازيغيتين عن طريق تيسير المعرفةِ بهما معرفةً صوريةً عالمةً لشرائح واسعة ممن لم يسمح لهم تكوينهم باستثمار ما توفره اللغات الأجنبية في هذا الباب، باعتبارها الحامل الوحيد لحد الآن للمعارف الصورية العالمة المتعلقة بالأمازيغية، وذلك بدل أن تُـترَك تلك الشرائحُ من المواطنين عرضة لما أسمينا بــ"خطاب العامة" في ميدان الحديث عن الأمازيغية، من قبيل كل ما يروج حاليا حول اللغة باللسان العربي على اختلاف المنطلقات العاطفية والأيديولوجية. إن من شأن خطة من ذلك القبيل أن تساهم بفاعلية في تغيير الذهنيات في الاتجاه التاريخي الصحيح، وفي أفق مصالحة ثقافية وطنية مع مقومات الذات، بشكل لا يمكن لأي لغة أخرى من اللغات الحالية للنخب المغربية أن تنجزه على النطاق الكافي اللازم للنقلة التاريخية. فبدون تهييء ملائم للعقول وللذهنيات من هذا القبيل يتعذر أي تأهيل للغتين الوطنيتين، الأمازيغية والعربية، في إطار وطني متكامل ومنفتح على المستقبل، تتقاسمان فيه الوظائفَ وطموحاتِ الحياة والتطور حسب عبقرية، وموارد، ومؤهلات، وعناصر القوة الظاهرة والكامنة لكل منهما، مع أخذ مخلفات الإجحاف والتفقير اللذين لحقا الأمازيغية لمدى عقود بعين الاعتبار في ميزان التكافؤ النسبي للفرص في تدبير الفضاء اللغوي الوطني.
أما إذا كان المقصود بالتعريب – كما كان يفهمه البعض من خلال توجهات بعض المؤسسات الرسمية الإعلامية والأكاديمية، وعلى رأسها الكتاب المدرسي وبعض شعب كليات الآداب – يتمثل في توجه ذاتوي، أيديولوجي وإرادوي، يتوخى تعميم وترسيخ رموز إثنية معينة وفرضَها كقوالب وحدانية لإعادة صياغة الشخصية المغربية عن طريق خلعها خارجَ ذاتها التاريخية، الغنية والمتميزة بتنوعاتها، قصد إلحاق قسري لها، عبرَ خطاب أسطوري، وتاريخ أسطوري، بمرجعية إثنية أسطورية، وقصد إلباسها ثقافةً استلابية تجعل في نهاية الأمر الشخص المغربي من مختلف الفئات الاجتماعية يتباهى مثلا – من خلال التصريحات والسلوكات – بأنه من أصول غير مغربية، وبأن له شرف الانحدار من العراق، أو من الشام، أو من الحجاز، أو من اليمن، أو من الخليج، أو منها جميعا عبر الأندلس، ويجزم يقينا بأن كل ما عرفته أرض هذا الوطن من أسس العمران ومن إنجازات العلم والثقافة ومن الاجتهاد في العقائد والتشريع والأخلاق و التميز في الفن والهندام والطبخ بل وحتى الانسان الناطق، هي أمور وافدة من هذه الجهة أو تلك، فإن المتضرر حينئذ مع هذا التصور الاستلابي لمضمون "التعريب" ليس هو اللغة الأمازيغية - إذ هي ماهية صورية مجردة عن ملكات التضرر والانتفاع -ولكن المتضرر في جوهر وجوده، وفي استمرارية عبقريته وتميزه ككيان متفاعل، وفعّال في التاريخ، وفي الجغرافيا، وفي الجيوسياسة والديبلوماسية والحضارة بدل أن يكون مجرد منفعل، هو الشخصية المغربية كذات حية ملموسة ولها ملكات الشعور بالتضرر أو الانتفاع.

فإذا ما تمثلت خطة التعريب في تحويل للجهود التدبيرية والتخطيطية من العمل الإيجابي على جعل اللغة العربية تقتدر على اقتحام ما هو في المتناول من رُقع حقول المعرفة الحديثة، منافِسة باقتحامها ذاك للغاتِ القويةَ على مستويات العلم والفلسفة والأخلاق والقدرة على التواصل والمعاملات الحية كما أسلفنا، وتم على العكس من ذلك تصريف تلك الجهود سلبا في العمل السخيف على تعريب أسماء الأعلام من طوبونيميا الصحراء، والجبال، والمدن، والشوارع، والساحات، والأزقة، وتعريب أونوماسطيقا الأشخاص والمجموعات، وفي العمل من خلال برامج التعليم ومؤسسات الأعلام على مصادرة التاريخ البعيد والقريب، وطمس الشخصية المغربية، وتنفيذ شعار "إماتة اللهجات" بما في ذلك عربية الملحون، والعيطة، والطقطوقة، والعروبي، والعمل على طمس كل مظاهر الثقافة الوطنية على مستويات العلم، والأبداع، والعمران، والسياسة، تشبها سخيفا بفضاءات النيل، أو الشام، أو الحجاز، في الانتماء والانحياز، وفي ميادين الأدب، والفن، وحتى الهندام، بل وفي التشدق المذل برطانة لهجات الآفاق المشرقية التي تغلب عليها عادات الفرس والقبط والترك في طبوع الأذان والتجويد والترتيل، وفي هيئات الصلاة من قبض وإسدال، الخ؛ والعمل باختصار على إلحاق المغرب في النهاية بغيره من الأقطاب باعتبار هذا المغرب مجرد كيان مزوّر الهوية من الدرجة الثانية تابع كإيالة إلى مراكز حضارية أخرى أصيلة هي محترمة على كل حال في حد ذاتها وتزاول حقها الطبيعي في محاولة التوسع، فحينئذ، أي إذا ما تمثلت خطة التعريب في مثل تلك التصورات، سيضطر المجيب إلى أن يجيب بداهةً عن سؤالكم السابق بالإيجاب.

س-2 هل اعتماد حرف التيفناغ زاد عزلة الأمازيغية أم حررها من سلطان الكتابة العربية ؟

كما بينت ذلك في مقال مطول سابق أثناء احتداد اللغط حول ما سمي في حينه بـ"معركة الحرف" (الأحداث المغربية؛ (12 /10/ 2003)، (17 /10/ 2003) معتمدا ومحيلا على أعمال أكاديمية آخرى أنجزتها حول الموضوع (انظر أعمال ندوة الأمثال العلمية في المغرب؛ تدوينها، وتوظيفها العلمي والبيداغوجي. مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية. الرباط 2003)، لم ينْـبـنِ اعتمادُ حرف "تيفيناغ" لتدوين وتدريس اللغة الأمازيغية على نتائج أي دراسات للجدوى وللقابلية كما يقتضي ذلك التدبيرُ الحداثي العقلاني لمسائل من هذا القبيل يتداخل فيها التربوي بالسوسيو-لغوي رغم ميل الموقف السياسي السياسوي الظرفي إلى تضخيم وجهها الأيديولوجي وإبرازه على سبيل الحصر. فكما يعلم الجميع، كان القرار، الذي يهم، في واقع الأمر، صميم المجتمع المغربي، من خلال مؤسسة المدرسة، عبارةً عن تخريج سياسي "لإسكات الخصم بما اتفق" كما كان يقول الكلاميون، ولفك اشتباكِ تقاطبِ ظرفيةٍ سياسويةٍ معينة كان فيها طرفان من النخبة المغربية (إحدى الحركات الإسلامية من جهة، وأغلبية الحركة الأمازيغية من جهة ثانية) يعتقد كل منهما بأنه الأقوى، فكان أحدهما يهدد بـتفعيل مسيرة "تاوادا" (أي المسيرة الاحتجاجية الوطنية) التي شُـبـِّه للبعض بأن ظهير أجدير المؤسس للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية إنما أُصدِِر لاتقاءِ زلزالها، بينما كان قد هدد قادةُ الطرف الآخر بإعادة طبعة ثانية منقحة ومزيد فيها تضارع بل تفوق مسيرته في الدار البيضاء ضد مدونة الأسرة، وذلك دفاعا هذه المرة ليس عن الحشمة والعصمة والحجاب وحق الضرب غير المبرح والتطليق بمقتضى عبارة "أنت طالق" صادرة عن المطلـّق في غير إكراه، ولكن عن أحقية وأولوية الحرف العربي، الذي هو حرف لغة القرآن، في كتابة اللغة الأمازيغية، وذلك في وجه الحرف اللاتيني، الذي هو في اعتقاد هذا الطرف الثاني حرف لغة المستعمر. أما ما تبقى من شريحة ثالثة من تلك النخبة، أي شريحة النخبة "الحداثية" التقليدية، التي تأثرت كثيرا بنكستي انهيار المعسكر الاشتراكي، و إفلاس الأيديولوجية العروبية، فتراوحت مواقف أصحابها ما بين محاولة استعارة و عربنة مقولات خطاب الحركات الأسلامية، وبين الاستقالة التامة ومغادرة الساحة الثقافية "مغادرة طوعية" قبل الأوان، فقد ركنَ إلى انتظارية كارثية في ما يتعلق بالشأن الأمازيغي مند أن فاجأه الخطاب الملكي بأجدير وظهيره الملكي المؤسس للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية (انظر مقالا لنا في الأحداث المغربية : 05/ 12 / 2001؛ المستقل: 03/ 12/ 2001) مراهنا في انتظاريته تلك على أمل أن يُضعِـف فريقٌ من الفريقين المتواجهين بشأن الحرف فريقا ليعيد هو انتعاشه على أنقاض الفريق الخاسر، أو أن يضعُف الفريقان معا بفعل تواجههما وبفعل تطور الأحداث، وتقادُم السياسة، وتآكل الرساميل السياسوية. وعلى كل حال، فإذ تم اليوم عمليا اعتماد حرف تيفيناغ، كما ذكرنا، على أسس سياسوية في ظل ظرفية فكرية وثقافية مزرية من ذلك القبيل، وشُـرِع في تنزيله الآن على أرض الواقع من خلال التجربة المدرسية للغة الأمازيغية على محدوديتها وعلى علاتها، فإن ذلك التنزيل قد خلق واقعا سوسيو-تربويا جديدا يتجاوز الإشكالات التي أشرت إليها آنفا، ويطرح أسئلة ملموسة من نوع جديد من قبيل سؤالكم عما إذا لم يعمل ذلك التنزيل من الناحية العملية، على عزل فعلي الأمازيغية، وكمثل التساؤلات البيداغوجية عن الانعكاسات المحتملة لتفاعل التحمـّلات التربوية لتحصيل ذلك الحرف (أيجابا أو سلبا) باعتباره حرفا ثالثا، مع التحملات التربوية الأخري للطفل المتمدرس المغربي الخ. وباختصار، يتوقف الجواب عن سؤالكم على إنجاز دراسات ميدانية تطرح أسئلة جديدة بشأن هذا الواقع الجديد قصد تقويم التجربة بناء على نتائج البحث الملموس، وليس على مجرد تقديرات "الدمغي" كما جرت العادة لدى الكثير من مروجي الخطاب في هذا البلد بحكم تمكن التفكير العامّي المباشر من الأذهان والذهنيات. ومن باب تلك الدمغيات مثلا الحديث العام عن "سلطان الحرف العربي" أو عن "كونية الحرف اللاتيني" أو عن "المزايا" المطلقة لحرف تيفيناغ، بدون إسناد هذه المزايا بدراسات تربوية وسوسيو-ثقافية قبلية أو بعدية.

س-3 هل المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية مجرد مؤسسة لإدماج النخب الأمازيغية بعد عزلتها، أم هو مؤسسة قادرة على تهيئ الأمازيغية علميا وبيداغوجيا لتؤدي دورها التنموي وطنيا؟

كما هو الشأن بالنسبة لكل المؤسسات التي هي من مستوى ومن طبيعة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، يمكن الحكم على حظوظ هذه المؤسسة في أداء الوظائف انطلاقا من ثلاث مستويات، (1) مستوى النصوص المؤسِّسة، وعلى رأسها الظهيرالملكي المؤسس للمعهد، (2) ومستوى التأطير البشري لهياكل مؤسَّسة المعهد كما نص الظهير على تلك الهياكل، (3) ومستوى المحيط المؤسسي والإداري والسياسي العام. ففيما يتعلق بالمستوى الأول، سبق لي أن قلت بشأنه: « إنه بهذا الظهير، الذي يجبُّ ما قبله، يكونُ قد تم الميلادُ التاريخي لأمل عريض ولمسيرةٍ جديدة لم يُدرك الناس بعدُ مداها ولا مرماها، ولا تُتصوّر لها حدود إلا بمقدار ما تكون هناك حدود لعزائم آل هذا البلد الآمن الأمين، وذلك من حيث أن على قدر أهل العزم تأتي العزائم، وتأتي على قدر الكرام المكارم. فلأول مرة في تاريخ هذه الأمة، الضارب في غابر الحقب والأزمان، والحافل بالمآثر والمكرمات، يَعــقِــلُ عقلـُـها العلوي نفسـَـه وينعكس على نفسه، ويَعي وعْــيُــهَا الكلي نفسـَه في أعماق أعماقها، فتفيضُ عن تلك التجربة الوجدانية رحابةٌ تستوعب هذه المرة كافة أبعاد الذات، وتستعيد الأعشارَ والأشلاءَ التي كانت قد ثلـمتها الحقبُ العجاف.ُ» (المستقل الأسبوعي، ع: 403 (03 /12/ 2001) ثم الأحداث المغربية ع : 1050 (05 /12/ 2001). ثم أضفتُ لسنتين بعد ذلك قائلا بشأن نفس الظهير بــأنه «لم يعرف المغرب الحديث، لا قبله، ولا بعده، من محطة من نفس العيار، إلا محطة مدونة الأسرة» (الأحداث المغربية (28/ 11/ 2003). وإذ كان هذا قدَرَ جميع الأفكار الكبرى، فلسفيةً كانت أم عقديةً أم أخلاقية أم فنية أم علمية، من حيث احتمالُ استثمار العنصر البشري لها في الاتجاه الصحيح المناسب لروح ولفظ النصوص المؤسسة الصائغة لها، واحتمال تحريف روح تلك النصوص، على العكس من ذلك، عن طريق إخضاعها لمصالح تدافعات الظرفيات التاريخية، وذلك حسب العبقرية التاريخية لنوعية العنصر البشري المستخلف على تلك الأفكار وحسب موازين الظرفية، فإن حظ مؤسسة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في مطابقتها لجوهر هويتها، وفي أداءها لجوهر وظائفها ومقاصدها محكوم هو كذلك بقول أبي الطيب المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائــم * وتأتي على قدر الكرام المكـارم
وتعظم في عين الصغير صغارها * وتصغر في عين العظيم العظائم

ذلك أنه قد تحكمت في حقيقة الأمر في التأطير الأولي للهيئات الأساسية لمؤسسة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بالعنصر البشري اعتباراتٌ غير متجانسة غلـّبتْ عليها أطرافٌ معينة في النهاية اعتباراتٍ سياسيةً ذات منظور قصير الأمد، استخدم المعايير الجهوية والإثنية بشكل لا أساس له - على إي حال - لا في نص الظهير المؤسس للمعهد، ولا في روح ذلك النص. ثم إن طبيعة تلك الاعتبارات السياسوية التي تحكمت في ذلك التأطير الأولي للهيئات الأساسية للمعهد قد أصبحت، بحكم حاسِـميةِ نوعية التركيبة البشرية في حسم مصير المؤسسات، روحا ثانية للمعهد نسخت روح الظهير من على رقع كثيرة من أرض واقع مؤسسة المعهد، إذ انسحبت تلك الروح الثانية، بجهوتها وإثنيتها، على بقية مراحل الهيكلة الإدارية والعلمية للمؤسسة، وغُـلـّبت عمليا في تلك الرقع على بقية اعتبارات السـلّـميات الهرمية الأكاديمية، إداريا، وعلميا، بما في ذلك ما تنص عليه النصوص التنظيمية الداخلية (القانون الداخلي والقانون الأساسي)؛ حتى إن أمر المعهد في هذا الباب أصبح، إلى حد كبير في هذا الباب، دون ما كان قائما في المؤسسات الجامعية التقليدية مبدئيا من أولية الاعتبارات الأكاديمية على الرغم من علات الممارسة (شروط تسيير الشعب، وإدارة مراكز البحث، تقويم أعمال البحث، والإشراف على البحث، الخ). بل إن تلك الروح الثانية، التي لا أساس لها على كل حال لا في النصوص المؤسسة ولا في النصوص التنظيمية، إلا ما يروج في أذهان الأطراف التي تمارسها باحترافية ووثوقية وترسخها كأعراف موازية تلغي النصوص المؤسسة، أصبحت تتحكم حتى في أوجه التدبير اليومي من قبيل تنظيم مجرد نشاط ثقافي، أو حتى إعطاء كلمة بروتوكول أو مجاملة في حفل مرتجل، باعتبار كل تلك الكيميائيات الجمعوية-الجهوية، والجمعوية-السياسية، من مسلـّمات معايير الحل والعقد، والتقليد والعزل بمؤسسة لم يعد نسيجها البشري يسمح لها بتبيـُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من هويتها الحقيقية كما حددها الظهير الملكي كمؤسسة للبحث ولإنتاج المعرفة المتعلقة باللغة والثقافة الأمازيغيتين. يحصل كل ذلك باسم ما أصبح يسمى بـلعبة "التوازنات الجهوية" في الاصطلاحات الكواليسية المغلفة بألفاظ "الحداثة"؛ وذلك حتى لا يقال بأن في الأمر تفعيلا تلقائيا – على مستوى السياسات الصغرى – لروح ما كان قد سماه ابن خلدون بــالعصبيات المصمودية، والزناتية، والصنهاجية، لما قد يعنيه ذلك، إن صحّ، من أن شعارات الخطاب الحداثي للحركة الأمازيغية لم يسفر عمليا على إرض الواقع إلا عن مضامين ماضوية عتيقة؛ أو حتى لا يقال بأن في التشجيع على ممارسة تلك المحسوبيات الداخلية، أو بأن في إقرارها على الأقل، رغبةً سياسوية – على مستوى السياسات الكبرى – في الاستفادة الموضوعية سياسيا مما قد يكون هناك من ميل ذاتي لتفعيل تلك الروح، وذلك عن طريق زيادة إذكاءها من الخارج موضوعيا، كخطة لتحييد "الصُداع الأمازيغي" بفعل تفاعل عناصره الداخلية تفاعلا يُـلاشي من خلاله بعضُ تلك العناصر بعضها الآخر. ولقد انعكس، بالفعل، مفعول هذه الكيمياء الخاصة للعبة "التوازنات" في هيكلة المعهد على الحركة الأمازيغية برمتها، فثناها عن مواصلة إنتاج الفكر والخطاب الحداثيين، اللذين كان لها، مع ذاك، دور مهم في تأسيسهما وترويجهما في المغرب. وأبرز مظاهر ذلك التأسيس ريادتُها في باب ترويج مفاهيم مثل "التعددية"، و"تدبير الاختلاف"، و"رفض الأحادية"، الخ. فلقد أدت تلك "الكيمياء" الخاصة المعتمدة في تدابير الحل والعقد، والتقليد والعزل بهذه المؤسسة، في تعاملها مع الأطر ومع الهيئات، إلى تشجيع أصوات المزايدة في الأوساط الجمعوية عن طريق خطة الاسترضاءات، وإلى تغليبها على أصوات العقل والكفاءة أينما كانت تلك الأصوات؛ حتى إنه قد أصبحت جل الجمعيات، وما انشق عنها بنفس عاملي المزايدة والاسترضاءات، عبارة عن حظائر لفئات من المتأركمين (des écuries d Ircamisables) ما فتئت تتزايد وتتناسل، شُغلها الشاغل لها عما سواه هو تعقـّب هفوات وكواليس المعهد، محيلة بذلك هذا الأخير في نهاية الأمر إلى ما هو بمثابة "عظمة" سياسية؛ وذلك بدل أن تستمر تلك الجمعيات في المساهمة في تطوير الفكر المغربي، وفي تحريك ذهنيات نخبه وتأهيلها بالإقناع وبإنتاج أفكار أصيلة، ومقترحات جديدة، وبالتكفل بالتنشيط الثقافي والمساهمة في الإنتاج الفكري والتطوير السياسي كما فعلت ذلك جمعياتُ عريقة منذ الستينات والسبعينات من القرن الماضي وإلى ما قبيل سنوات، في استقلال تام، وفي غنى عن أي دعم مادي أو معنوي رسمي، بل وفي محيط كان كله مناهضا، سياسيا، وإداريا، وفكريا، وحتى معنويا. وبتشجيع سلوكات المزايدة في تلك الأوساط، من حيث كان يراد ترويضها وتحييدها، أصبح المعهد نفسه، ومن باب انقلاب السحر على الساحر كما يقال، تحت رحمة ضغط الشارع، الذي أصبح يضبط كثيرا من أوجه إيقاعات أعمال المعهد ويحدد له أولوياته ومستعجلاته، مما ينذر بتحويله في النهاية إلى مجرد مؤسسة للتنشيط ولتسجيل الحضور على إثر كل صيحة من صيحات المزايدة.
كما أن المفعول التخريبي لسحر كيمياء تلك "التوازنات" المزعومة التي اعتمدت في تركيبة النسيج البشري للمؤسسة، بالإضافة مفعول الأضواء الميدياتية التي أحاطت بها هذه المؤسسة نفسها بحكم تغلـّب الاتجاه الذي يجر نحو جعلها مجرد مِـصدَم (pare-chocs) وواجهة إعلامية تنشيطية بالدرجة الأولى، لا مؤسسة للإنتاج العلمي، وللتبادل الأكاديمي الجدي مع المؤسسات الوطنية والأجنبية من ذوات الاختصاص، ولتقديم الخبرة والاستشارة، ولتوفير الأدوات اللازمة لإنعاش وتأهيل مكون أساسي من مكونات الثقافة الوطنية في تكامل وتنسيق مع بقية المؤسسات الوطنية وعلى رأسها الجامعة المغربية، قد انعكسا من جهة ثانية بالإحباط المعنوي على أطر أكفاء من أطر هذه الجامعة نفسها ممن قدموا، مع ذلك، خدمات أكاديمية جلـيلة للغة والثقافة الأمازيغيتين في ظروف محيطية أكاديمية كانت مناهضة على مر عقدين من الزمن. إذ أصبحت ظاهرة استقطاب المعهد للأضواء واحتكاره للفضاء الإعلامي بشكل يصفه البعض بالفولكلورية في باب العناية بالأمازيغية، بمثابة سُحُب تعتيم وإنكار لكفاءات تلك الأطر في عقر محيطها الجامعي والأكاديمي عامة، مما انعكس في النهاية على معنويات تلك الأطر وعلى قدراتها على الاستمرار في البذل والعطاء. ولعل إحجام تلك الفئة عن تجشم صعاب تكوين الوحدات والمسالك في إطار الإصلاح الجامعي الجديد مما له تعلق بالأمازيغية بشكل يضمن الاستمرارية واستخلاف أجيال الأطر، ويزود المعهد نفسه بالأطر الشابة لتعوض الأطر التي أنهكتها تجربة التوازنات، أو يزود أي مؤسسات أخرى ممكنة لتكوين أساتذة الأمازيغية بالطلبة الأساتذه، لهو بمثابة مؤشر بليغ يترجم ذلك الإحباط الذي يهدد اليوم بما يسمى بــ"تجفيف المنابع" بالنسبة للأطر المتخصصة في اللغة والثقافة الأمازيغيتين، اللتين كانت الجامعة، مع ذلك، هي الفضاء الذي تمكّن من خلاله نفرٌ جيل الربع الأخير من القرن الماضي، بفضل مبادارات فردية غير مؤسسية، من توفير ما هو قائم اليوم من أطر على قلتها، وذلك بفضل مجرد ما كان متوفرا من معنويات تحترم الجدارة العلمية في ذلك الفضاء. وإذ أحجم اليوم كل أولئك الذين كانوا فعلا "قد أبانوا عن براهينهم" وكفاءاتهم على مدى عقد أو عقدين قبل ظهور المعهد، فتقاعسوا عن المبادرة في هذا الاتجاه بسبب ذلك الإحباط، وفضل الكثير منهم "المغادرة الطوعية" انسحابا من محبط لم يعد بالنسبة إليهم إلا إطارا لإنكار كفاءاتهم، فإنه لم يظهر النزر القليل من المبادرات التي تحاول أن تلج باب الأمازيغية في إطار الأصلاح الجديد إلا من طرف جهات لم يـُعهـَد في أغلبها أي اهتمام بالأمازيغية، ولم يكتشف جلها أهمية الأمازيغية في البحث والتكوين إلا بعد استقطاب هذه اللغة استقطابا مزيفا وملغوما للأضواء عبر واجهة المعهد الإشعاعية بعد أن تم جر هذا الأخير لاستنفاذ عز قدراته في حلبات التنشيط وتسجيل الحضور في كل الاتجاهات داخليا وخارجيا بشكل يستنزف طاقات أطره ويلهيهم عن التفرغ الهادئ للمهام الجدية التي ينص عليها الظهير المؤسس له، وفي كل ذلك من الأخطار ما يمكن إجماله في أن تصبح الأمازيغية في النهاية مجرد لون يشتري به البعض ثمنا قليلا كما فعل البعض وما زالوا يفعلون بالعربية تحت شعارات "التعريب" بمفهومه الشعبوي الارتزاقي أو الإثني الإلحاقي. فلعل كل هذا إذن، أو بعضا منه، هو ما يلمح إليه سؤالكم بشكل إجمالي وحدسي فيما أعتقد، حينما طرح احتمالَ استحالةِ المعهد إلى "مجرد مؤسسة لإدماج النخب الأمازيغية بعد عزلتها". فعلى كل حال، أجد أن عرض الأمور الملموسة كما هي عليه في الواقع أجدى من اختزال الأجوبة في أحكام إطلاقية.

وإذا ما أضيف إلى مسألة الظرفيات والاعتبارت الخاصة التي تحكمت في أمر تأطير المعهد بالعنصر البشري، بما كان لتلك المسألة من انعكاس طبيعي على أداء المؤسسة لوظائفها، بل على تحديد هويتها العملية ما بين التعاطي السياسي والتدبير الأكاديمي، فأن مسألة مواقف المحيط المؤسسي والإداري والسياسي العام – التي ترجمتْ روحَـها على إثر صدور الظهير الملكي حول الأمازيغية انتظاريةٌ مشبوهةٌ، هي أقرب إلى صمت المؤامرة ومؤامرة الصمت، وإلى خطة الفرّ في انتظار الكرّ، منها إلى "الصمت الذي يدل على الرضا" حسب تعابير "علم نفس" الفقهاء – مسألةٌ قد تضافرت مع مسألة تأطير المعهد بالعنصر البشري لتعطيا معا، في النهاية، معنى متجددا لقول القائل:
أرى ألفَ بانٍ لا تقوم لهادمٍ * فكيفَ ببانٍ خلفه ألفُ هادم

فبالرغم من كل الصعوبات والتشويشات المشار إليها سابقا، تم في الحقيقة بناء الكثير، والكثير جدا، بفضل عزائم نفر قليل من أطر المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بمن فيهم كاتب هذه الأسطر. لقد تمت المعيرة العلمية للإملائية الأمازيغية بشكل موفق لم يكن له نظير في مجهودات ما يناهز العقدين من المحاولات المماثلة في كثير من الأوساط الأكاديمية والجمعوية في الداخل والخارج، وتمت معيرةُ نصيب من المفردات الأساسية، والتراكيب الأولية للأمازيغية المشتركة، وأُعدت ونشرت كثير من أدوات المصاحبة البيداغوجية اللازمة لإدماج الأمازيغية في المنظومة التربوية (مدخل إلى الأمازيغية، معيرة الأمازيغية، كتب التلميذ والأستاذ 1، 2، 3؛ دليل الأستاذ 1، 2، 3)، وتم إصدار ما يقارب الستين مؤلفا مابين مدرسي ومرجعي معياري وعلمي مما له تعلق باللغة والثقافة الأمازيغية وذلك في مدة قياسية (ثلاث سنوات) من طرف المعهد الملكي إركام . كما أبرم المعهد ضعف ذلك العدد من تعاقدات البحث مع باحثين من خارج المعهد قصد إنجاز دراسات من نفس القبيل؛ ثم شـُرع في التجربة الميدانية لإدماج الأمازيغية في المدرسة بشكل فعلي مند سبتمبر 2003. كما أن الأمور بدأت تتحرك على مستوى الإعلام السمعي البصري بعد إبرام اتفاقية بين المعهد الملكي ووزارة الاتصال، وإن بقي أن يتم مثل ذلك مع المعهد العالي للصحافة وغيره من المؤسسات المماثلة. إلا أن مربط الفرس، الذي يجعل كل التساؤلات مشروعة فيما يتعلق بمدى سلامة المحيط العام ومدى خلوص الإرادات وكل ما هو لازم لكي لا يكون خلف الباني الواحد ألفُ هادم هو ما استفحل وأصبح مزمنا من عدم الجدية في مسألة تكوين أساتذة اللغة الأمازيغية. فلقد ترك أمرُ هذه المسألة لتجريب مستخـفّ ولارتجال استمرا الآن للسنة الثالثة بشكل يهدد بإفشال مبادرة إدراج الأمازيغية في المدرسة، تلك المبادرة التي كان أفيد وأجدى أن تأتي متأخرة شيئا ما ولكن على أسس متينة وجدية، بدل أن يخضع أمر الإعداد لها لضغط استعجالات ومزايدات الشارع من جهة، وللاستخفاف والارتجال والتجريب والترقيع المستنزف لأطر المعهد بالترحال والتكرار الممل، والمهدر لإمكانياته المادية بدون جدوى من جهة ثانية، فتفشل العملية بكاملها. والفشل في هذه المحطة بعد الإقدام عليها حاسم ومميت؛ وقد سبق لوزير التربية الوطنية الحالي، السيد الحبيب المالكي، أن صرح في أول لقاء له مع أطر المعهد الملكي للأمازيغية بمقر المعهد بأنه "لا يحق لنا أن نفشل في هذا الأمر"، وكثيرا ما ردد هذا التصريح بعد ذلك. ولقد تناولت هذه الأمور الأخيرة بدورها بتفصيل في كثير من كتاباتي الصحفية (من ذاك مقالان سيصدر أحدهما في مجلة "اتحاد كتاب المغرب" آفـــــاق والآخر في مجلة أكاديمية الجهوية لسوس ماسة درعة) ولا داعي لإعادة الكلام بشأنها هنا.

س-4 - وصفتم جل الجمعيات الأمازيغية بتشجيع أصوات المزايدة وتغليبها على صوت العقل والكفاءة. ألا ترون أن لهذه الجمعيات دورا لا ينكر في إذكاء المطالب الحقوقية والثقافية والسياسية، كما هو الشأن في مطلب بعضها بمحاكمة الدولة المغربية بسبب ممارستها للميز العنصري ضد الأمازيغ حسب وجهة نظر هذه الجمعيات. فما رأيكم في هذا المطلب تحديدا، وفي رأي من يقول بوجود ميز عنصري ضد الأمازيغ وحرمانهم من الحقوق التي تكفلها مواثيق وعهود حقوق الإنسان بشكل عام؟

عفوا، كلاّ، ما قلتُـه في غضون إجابتي عن سؤالكم الثالث هو أن تلك "الكيمياء" الخاصة التي اعتمدت في الهيكلة الأولى للمعهد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وفي بقية تدابير الحل والعقد، والتقليد والعزل بتلك المؤسسة في تعاملها مع الأطر ومع الهيئات، قد أدت إلى تشجيع أصوات المزايدة في الأوساط الجمعوية عن طريق خطة الاسترضاءات، وإلى تغليب تلك الأصوات على صوت العقل والكفاءة سواء داخل الجمعيات أم في الأوساط الأكاديمية. أما دور الجمعيات في «المساهمة في تطوير الفكر المغربي، وفي تحريك ذهنيات نخبه وتأهيلها بالإقناع عبر إنتاج أفكار عقلانية أصيلة ومقترحات جديدة وبديلة، وبالتكفل بالتنشيط الثقافي والمساهمة في الإنتاج الفكري والتطوير السياسي كما فعلت ذلك جمعياتٌ عريقة منذ الستينات والسبعينات من القرن الماضي وإلى ما قبيل سنوات، في استقلال تام، وفي غنى عن أي دعم مادي أو معنوي رسمي، بل وفي محيط كان كله مناهضا، سياسيا، وإداريا، وفكريا، وحتى معنويا»، كما قلت ذلك سابقا، فهو دور فعليّ لا أحد بإمكانه إنكاره. المشكل يقوم حينما تتداخل الأمور، فتنحرف بعض الأصوات الجمعوية عن جادة سبيل مهامها في تحقيق مزيد من المكتسبات في اتجاه تطوير مجتمع عصري، وتسعى، بدلا من ذلك، عن طريق المزايدة، إلى مجرد التشويش على أداء المعهد باعتباره في نظرها نهاية مطاف المسيرة التاريخية، وبمقتضى أنه يتعين، بسبب ذلك الاعتبار، أن تتحكم في دواليبه كساحة أساسية لعملها وإلا انتفت بالنسبة لها مبرراتُ الوجود وفضاءات العمل. كما يقوم مشكل التداخل المنذر بالفشل التاريخي حينما تنحرف مؤسسة المعهد عن جادة سبيل مهامها كما سطرها الظهير المؤسس لها، فتسعى، عن طريق الضياع في برصة الاسترضاءات، وفي متاهات كيمياء ما يسمى بـ"التوازنات"، إلى ضبط إيقاع العمل الجمعوي الأمازيغي، في إطار وظيفة سياسية عرفية يعتقد البعض بأنها موكلة تواطؤًا إلى مؤسسة المعهد، وذلك بدل العمل على التعاون تعاونا مؤسسيا مع كل الهيئات الأكاديمية ذوات الاختصاص في ميادين العمل التي حددها الظهير للمعهد، بما في ذلك بعض الجمعيات التي برهنت عمليا على جديتها وكفاءتها.
أما قضية "الميز العنصري" ضد هذا المكون أو ذاك من المكونات الإثنبة، أو الثقافية، أو الملية، في المغرب، فهي قبل كل شيء مجرد مظاهر متنوعة لموروثات ثقافية ماضوية، ولا أساس مؤسساتي لها في هذا البلد حسب ما هو متعارف عليه في تحديد مثل تلك المفاهيم. ومعالجة أمر تلك الموروثات يتعين أن يتم أولا وقبل كل شيء على مستوى العمل الثقافي التوعوي قبل البحث عما إذا كانت له امتدادات مؤسسية أو سياسية في هذه الفترة أو تلك، وفي هذا القطاع أو ذلك، ضد هذا العنصر أو ذلك، من طرف هذه الجهة أو تلك. ففيما يتعلق بالمستوى الأول، مستوى ما هو ثقافي محض، سبق لي، في مقال كنت قد نشرته على إثر الضجة التي كانت قد خلفتها عريضةُ المطالبة بقانون يجرّم الإقصاء العنصري، والتي كنت من بين موقعيها بالرغم من علاّت وتلغيمات ديباجتها، أقول سبق لي أن استعرضتُ نماذج لأدبيات ثقافة الإقصاء الإثني والملي في كل من العربية الفصحى، والعربية الدارجة، والأمازيغية، من نكتٍ وأمثال وأشعار، حيث يتراوح العنصر الذي يطاله الأقصاء، بدرجات متفاوتة من خلال تلك الأدبيات، ما بين "شّــلح" (أي الأمازيغي بالعربية المغربية) و"اعراب" (أي العربي بالأمازيغية)، و"اسوقّيــي" (أي الخلاسي الملون بالأمازيغية)، و"ليهودي"، و"وداي" (أي اليهودي بالأمازيغية)، ودعْـكَ عن جهويات "العروبي"، و"الضراوي"، و"الجبلي"، إلى آخر ما هناك من الألقاب الإثنو-ثقافية التي تخترق الأبعاد اللغوية، والاثنية، والملية. لقد وقعتُ تلك العريضة ونشرت ذلك المقال بعدما خرجت ذات يوم فاتح ماي 2002 فصادفت مسيرة مؤطرة تأطيرا مؤسسيا من طرف منظمة جماهيرية شرعية وهي تهتف على خلفية مناخ الانتفاضة الفلسطينبة، في خلط سوريالي منها للأنواع وللأجناس وللمقامات، مردِّدةً شعار: "هادا عار، هادا عار؛ ياهودي موستاشار". ففي مثل هذه الحالات يحق الحديث صراحة عن عنصرية مؤسسية تتعين معالجةُ أمرها معالجة سياسية وقانونية لأنها تترجم موقفا مؤسسيا قد يصبح يوما ما أداة للسياسة والتدبير على شكل قوانين أو على شكل مجرد أعراف ضمنية حينما تصل مثل تلك المنظمة إلى السلطة. فليس الأمر في مثل هذه الحالة مجرد اتجاهات واستعدادات ثقافية تعبر عنها النكت والآداب الجماعية أو بعض المواقف الفردية، كمواقف بعض المثقفين "الغيورين" المغاربة الذين غاظهم مؤخرا أن يكون الذكَرُ يهوديا وتكونَ الأنثى مسلمة في بعض اللقطات الساخنة لشريط Marok الأخير للمخرجة، ليلى المراكشي، فرأوا في ذلك التوزيع للأدوار مؤامرة صهيونية ضد شرف وقيم الإسلام وأنفة العروبة، وإلا فلـِمَ لا تُـقلب الأدوار، حسب تقديرهم كما تساءل بعضهم حينئذ؟ إلى آخر ما هناك من مظاهر الموروثات الثقافية التي لا يمكن أن تعالَج إلا على مستوي التثقيف والتوعية والتربية على قيم الحداثة وفكر التنوير والعقلانية. وبناء على هذا التمييز، فإنه ليس إذن من الحكمة في شيء، بل لعله من باب الانتهاز السياسوي، أن نتسرع ونقفز على واقع سوسيو-ثقافي واجتماعي معقد من حيث انتقاليته ما بين القبيلة والدولة الحديثة، وما بين البادية الرعوية والزراعية، وبين الحاضرة العصرية، فنختزلَ علاقاته في وصفة أيديولوجية تبسيطية وإطلاقية نسميها "العنصرية". الرباط 23 /04/ 2006








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الولايات المتحدة و17 دولة تطالب حماس بإطلاق سراح الرهائن الإ


.. انتشال نحو 400 جثة من ثلاث مقابر جماعية في خان يونس بغزة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن قصف 30 هدفا لحماس في رفح • فرانس 24


.. كلاسيكو العين والوحدة نهائي غير ومباراة غير




.. وفد مصري يزور إسرائيل في مسعى لإنجاح مفاوضات التهدئة وصفقة ا