الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بحث في السببية (2 )

نبيل حاجي نائف

2007 / 7 / 26
التربية والتعليم والبحث العلمي


إن غالبية ما قيل في مفهوم السببية هو كان عن السببية البسيطة أو المختزلة . وهذه أهم خصائصها .
إن هدف ودور المعرفة هو استباق نتائج الأحداث بهدف التحكم بها وتعديلها بما يناسبنا . فالتنبؤ الذي هو أساس المعارف هو الذي ينتج السببية .
فالسببية هي : تحديد وتعيين واختصار أو اختزال للعوامل والمؤثرات الكثيرة , فهي تعتمد على اختزال العوامل والمؤثرات والتي هي بمثابة أسباب , بسبب واحد , من أجل القيام بتحديد وتعيين الاستجابات المناسبة . فالأسباب تختزل بسبب واحد أو عدد قليل من الأسباب ويتم التركيز على سبب أساسي واحد .
وهذا ناتج عن التوقع الذي يقوم على آليات الاشراط العصبي التي يعمل بها دماغنا . والتوقع أو التنبؤ هو الذي يفرض ويحدد مجال ومنحى سير التفكير أو المعالجة الفكرية ، وهو بالتالي يعين ويحدد الاستجابات والأهداف . وهذا هو أساس السببية البسيطة .
وإن اعتماد أهم العوامل والمؤثرات , وجعلها السبب في الحوادث , هو أهم عمل لعقلنا .
والتحكم بالأسباب والعوامل هو ما نعتمده في كافة تصرفاتنا , من أجل تحقيق دوافعنا وغاياتنا . فنحن نريد أن نتحكم بأهم وأقوى الأسباب . ومهمة المعارف والعلوم هي تحديد هذه الأسباب .
فيقولون فتش عن السبب وتحكم به في تغيير مجرى الحوادث .
وسؤال لماذا حدث هذا أو كيف حدث , يعني : ما هي الأسباب الرئيسية التي أدت لحدوثه

وهذا الاختصار ليس تابع فقط للتفكير المنطقي السببي وآليات عمل دماغنا , بل هو تابع أيضاً للدوافع والغايات والأمور النفسية كالانفعالات والعواطف والانتماءات .
لذلك نحن نشاهد الاختلافات بين الأشخاص والجماعات الكبيرة في تفسير الحوادث باختيار أو اعتماد كل منهم أسبابه الخاصة به والمختلفة عن أسباب الآخرين , ويتم تجاهل العوامل والأسباب الأخرى وإن كانت هامة .
ومفهوم الحرية مرتبط بالسببية . أنا , لأنني حر , أردت أن أفعل كذا وكذا , وفعلت , وأنا المسبب بما حصل . فالتحكم بالأسباب هو ممارسة الحرية .
والأفعال تصبح بمثابة مسببات أو أسباب .
والسببية البسيطة هي دوماً احتمالية .
وسلسلة التفكير تابعة لسلاسل الأسباب , وموجهة من قبلها .
هل دوماً نفس السبب ( أو عدد معين من الأسباب ) يؤدي إلى نفس النتيجة ؟
في الواقع إن كافة الأحداث أو الوقائع لا تحدث نتيجة سبب أو عدد معين من الأسباب , بل هي نتيجة عدد كبير من الأسباب .
نلاحظ : أنه إذا تفاعلت ( أو تبادلت التأثير ) البنية أ مع البنية ب , وكان نتيجة ( أو سبب هذا ) دوماً تكوٌن أو حدوث الواقعة ج , عندها يمكن أن نطلق تنبؤاً صحيحاً بصورة مطلقة على كل مرة تتفاعل بها –أ- مع – ب- , بأن هذا يسبب تكون الواقعة –ج -
ولكن ليس هناك فقط البنية أ والبنية ب داخلة في التفاعل, فهناك حتماً بنيات أخرى كثيرة مشاركة في هذا التفاعل وهي تهمل عادةً لضعف تأثيرها .
وأيضاً البنية- أ – والبنية- ب - ليستا ثابتتان ومحددتان تماماً, فهما حتماً في تغير ذاتي خلال الزمن , وهذا يهمل أيضاً لأنه غالباً صغير جداً.
لذا : النتيجة هي حتماً احتمالية , وهي تابعة لمقدار تحديد وتعيين تأثيرات بقية البنيات المشاركة في التفاعل التي أهملت , وتابع أيضاً لمقدار تحديد وتعيين التغيرات الذاتية للبنيات المتفاعلة التي أهملت . وهذا يستحيل تحديده وتعيينه بصورة مطلقة . لذلك دوماً تنبؤاتنا هي احتمالية الصحة وليست مطلقة الصحة مهما حاولنا .
تأثير الدوافع والأحاسيس والانفعالات على اختيار الأسباب
إن العقل البشري عندما يعمل ويقوم ببناء تمثلاته وبالتالي أحكامه , سواء للماضي أو للحاضر أو للمستقبل , لا يراعي فقط المنطق والسببية والمنطق ، بل يراعي أيضاً تأثيرات حواسه وانفعالاته ورغباته وقيمه .
لذلك عندما ينشئ تمثلا ته و تنبؤاته و أحكامه بالاعتماد على المعلومات التي لديه , يدخل أيضاً عليها - أو تدخل عليها - تأثيرات أحاسيسه وانفعالاته ورغباته وقيمه ، فتنحرف هذه الأحكام لتلائم غاياته وأحاسيسه وقيمه ، وهو كثيراً ما يستغل المعلومات " أو الأسباب " غير الدقيقة , لكي يحقق رغباته وأحاسيسه ويتحاشى المعارف " أو الأسباب " الدقيقة والتي لا تتفق مع غاياته ودوافعه .
مثال على ذلك :
بناؤه للأساطير والقصص عن الماضي بما يناسب المعلومات التي لديه , وبعد أن يضيف عليها رغباته وأحاسيسه ، يخرج مثالاً أو صورة للماضي بناءاً على عوامل وأسباب تحقق بالدرجة الأولى رغباته ودوافعه ، والمعارف التي يملكها , ويعتبر هذه الصورة هي المرجع الذي يعتمد عليه في تصرفاته .
وهو يقوم أحياناً بتعديل لهذه الصورة أو المثال ليستوعب كل ما يصادفه من وقائع وأحداث تجري له ، فهو إما أن يعدل قليلاً من مثاله أو صورته ، أو يكيف الأحداث والأسباب ويربطها مع بعضها بما يتوافق مع مثاله الذي يعتمده ، وغالباً ما يقوم بالتحوير والتعديل للأسباب لتفسير الأحداث , وليس تعديل مثاله الذي يكون بمثابة مرجع أساسي له .
ونحن نشاهد مثالاً آخر على تأثير الأحاسيس والدوافع الذاتية على اعتماد العوامل والأسباب , عند ملاحظة تصوراتنا لأحداث وأمور تحدث لشخص نحبه , أو نكرهه , أو نغار منه... ، فإننا نجد أن أغلب السيناريوهات التي نضعها لمستقبل هذا الشخص بغض النظر عن المعلومات المتوفرة لدينا عنه وعن أوضاعه أنها سوف تخضع في المحصلة إلى رغباتنا و احساساتنا تجاهه ، فإن كنا نبغضه نرى أن نتيجة هذه السيناريوهات على الأغلب هي الضرر له ، وإذا كنا نحبه نجد أنها النجاح والسعادة ، وإذا كنا نغار منه نجد أنها الفشل والخسارة , ولكن وبعد أن تجري الأحداث وتحدث الوقائع نجد أن أحكامنا وتوقعاتنا والعوامل والأسباب التي اعتمدناها , كانت على الأغلب غير دقيقة ، فقد نجد أن عدونا الذي نكرهه نجح وفاز ، والذي نحبه ونرغب بنجاحه فشل ، والذي كنا نغار منه نجح وتقدم .
ونحن نلاحظ تأثر أحكامنا وتصوراتنا بانفعالاتنا ورغباتنا بشكل واضح عندما نكره شخصاً معيناً ، فتتكون أحكامنا وتصوراتنا وبالتالي اعتمادنا أسباب تؤيد هذا الكره ، وعندما نعود ونتصالح معه تعود وتتغير أحكامنا والأسباب التي نعتمدها بما يناسب ذلك ، مع أن الشخص نفسه وأغلب الأوضاع ما زالت متشابهة ، فالأحكام العقلية ( وكذلك الأسباب المعتمدة ) مهما كانت تسعى لتكون محايدة وموضوعية فإنها تتأثر بالأحاسيس والدوافع والرغبات التي تكون مرافقة لها
إضفاء الدوافع والأحاسيس والانفعالات والقيم البشرية على البنيات والمفاهيم الفكرية
إن غالبية الكتاب والمفكرين يعاملون البنيات الفكرية الشيئية ( الهويات والأشياء ) كما يعاملوا كائنات حية , لها أهداف وغايات وعندها خير وشر وتخطئ وتصيب ......الخ وهي التي تسبب النجاح أو الفشل , الخير أو الشر .
وهذا ( في رأي ) ناتج عن التطور اللغوي والاجتماعي والنفسي والعصبي المرتكز إلى الأسس البيولوجية والفزيولوجية والغرائز وباقي الآليات الحيوية . فالتواصل بين البشر في هذه الأوضاع اللغوية والاجتماعية والنفسية والغريزية والحيوية فرض ذلك ، وجعل التعامل مع المفاهيم التي تصف وتمثل الأشياء- الأسماء أو الهويات- كأنها كائنات حية , فتوصيل المفاهيم والمعاني والأفكار يكون أسهل وأسرع وأفضل عندما تحمل مضامين الأحاسيس والمفاهيم والمعاني البشرية .
لننظر إلى ما يكتبه أغلب المفكرين فنشاهد أمثلة واضحة على ذلك- تحميل البنيات الفكرية الاسمية الخصائص الفكرية والنفسية والمعاني البشرية - أمثلة : فشل العلم في تحقيق كذا - نجحت المدرسة كذا في تحقيق كذا – تفوق العلم على الأدب - تشارك الأدب مع الفن في إنجاز كذا وكذا , قام الاستعمار باستغلال الشعوب وسبب المآسي لها , تقوم أمريكا بالسيطرة على العالم . . . وهناك الكثير.
السببية الموسعة :
لذلك سعياً إلى الدقة والموضوعية ولبناء المعارف والتنبؤات الدقيقة تم التعامل مع تعدد العوامل والأسباب والظروف , واعتماد السببية الموسعة . فهذه السببية تعتمد مراعاة أكبر كمية من العوامل والأسباب ( الدوال ) عند القيام ببناء التنبؤات والمعارف .
ولتمييز السببية البسيطة عن السببية الموسعة نورد المثال التالي :
إذا كان لدينا آلة , أو جهاز , أو حتى كائن حي , وتعطلت ولم تعد تقوم بعملها أو تغيرت خصائصها . عندها نقوم بالبحث عن السبب أو الأسباب التي أدت لذلك , أي نستعمل السببية البسيطة .
لكن في حال أردنا صنع تلك الآلة أو الجهاز أو الكائن الحي , ففي هذه الحالة يجب البحث عن كافة العوامل والأسباب التي تمكننا من صنع تلك البنيات . أي يجب علينا أن نستعمل السببية الموسعة .
فبناء جسر أو ناطحة سحاب أو حاملة طائرات أو مصنع .... يلزمه البحث عن كافة الأسباب والعوامل التي يؤدي إلى تكون البنية التي نريد صنعها . فصنع سيارة يلزمه التعامل مع كم هائل من العوامل والأسباب لكي يتم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المكسيك: 100 مليون ناخب يختارون أول رئيسة في تاريخ البلاد


.. فاجأت العروس ونقر أحدها ضيفًا.. طيور بطريق تقتحم حفل زفاف أم




.. إليكم ما نعلمه عن ردود حماس وإسرائيل على الاتفاق المطروح لوق


.. عقبات قد تعترض مسار المقترح الذي أعلن عنه بايدن لوقف الحرب ف




.. حملات الدفاع عن ترامب تتزايد بعد إدانته في قضية شراء الصمت