الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الثقافة والمثقفين

مرزوق الحلبي

2007 / 8 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


قد يتسع مفهوم الثقافة أو يضيق وفق زاوية الرؤية أو غاية الذين يتداولون المصطلح. فالثقافة في المفهوم الضيق للمصطلح هي جملة الأنشطة الإبداعية الفنية الملامسة للحسّ الجمالي التي تأتي بها جماعة ما. أما الثقافة في المفهوم الواسع فهي مجمل الأنشطة والأفعال والأنماط والأنساق التي تأتي بها هذه الجماعة. ووفق المفهوم الضيق، فإن الثقافة قد تدلّ على هوية الجماعة وتعكس مضمونها وما يستتر تحت سطح الذات الجمعية. أما الثقافة في المفهوم الأوسع فهي الهوية ذاتها، وهي التي ترسم صورة الجماعة وتمثّل خصائصها وأنساقها وأنماطها وسلوكياتها ومنظومة قيمها وتصورها للعالم. وعلى عادة المنظومات القائمة على ثنائيات أو على قطبين، سنجد على الدوام مفاهيم أضيق أو أوسع للثقافة متحركة على المحور بين المفهوم الضيق وبين ذاك الواسع. بمعنى أننا نميل إلى القبول بوجود تعدد دلالي لمفهوم الثقافة يتحدد بمدى الدنوّ أو النأي عن قطبي المحور. ووفق مفهوم الثقافة يتحدد مفهوم المثقف. فحسب المفهوم الواسع فإن المثقّف هو الذي يُدرك ثقافة المجتمع ويستطيع تحليلها وتفكيك بُناها. وحسب المفهوم الضيّق فإن المثقف هو ذاك الفرد الذي يشتغل بالثقافة باعتبارها نشاطا إبداعيا فنيا. ومنّا مَن يريد للمصطلح أن يتّسع ومنّا مَن يريد له أن يضيق. منّا مَن يريدون للمصطلح أن يشمل أقلّ عدد من الأفراد للتدليل على أن الثقافة هي من نصيب قلة قليلة تثقّفت وتركت الآخرين وراءها من خلال فهم محافظ للثقافة. ومنّا من يريد للمصطلح أن يتّسع لأكبر عدد من الأفراد المثقفين للتدليل من خلال فهم متحرر وديمقراطي للثقافة.

بين هذا وذاك نستطيع أن نجزم أن ليس كل مَن يشتغل بالإنتاج الإبداعي الفني مثقفا. وبالجزم ذاته نستطيع أن نقول أن ليس كل من تلقى ثقافة أكاديمية أولى أو ثالثة أو اكتسب مهنة، مثقفا. بمعنى أننا لسنا متفقين دائما على تعريف المثقّف. ولا أرى ضررا في غياب الاتفاق على تعريف محدد بل أرى إلى ذلك فرصة للتعدّد والاجتهاد وحائلا لما اعتدناه حتى الآن من مصطلحات وأنماط وأنساق قُصد بها التدليل والإشارة فإذ بها تأسر الناس في قوالب وخانات لتنشأ حالة من الجمود.

وأجدني ميالا لقبول تعريف ضبابي للمثقّف بعد أن أخذت بالتعريف الواسع للثقافة. وذلك لأن الحياة كفيلة بأن تقنعنا بضرورة المرونة والإيحاء في تعريف المثقف. ولأن التعريف ضبابي فإنه من الصعب أن نتحدث بوضوح عن مهمات محددة للمثقّف وعن دور مرسوم مسبقا له. وقد كانت هذه المسألة مثار نقاش وجدل عبر تاريخ الإنسانية وفي كل المجتمعات والحضارات. ومن اللافت أن دور المثقف يتغيّر من مرحلة إلى أخرى ومن واقع إلى آخر. أي أنه يتحرك ولا يستقرّ إلا عند اليقينيين منّا الذين يتعاملون مع المثقف مثلما تتعامل سلطات الضريبة مع المواطنين! هناك فاتورة عليه أن يدفعها وإلا فهو ليس مثقّف قطعا. لقد طّلب من المثقّف في "زمن الثورة" ومفاهيم "الواقعية الاشتراكية" أن يلتزم بقضايا مجتمعه وأن يقف دائما في صفّ الثورة. وقد ذهب في هذا الخط مثقفون ألمعيون حتى النهاية رغم أن الثورة قد انقلبت على أبنائها أو على الإنسان الذي جاءت لتغيّر الدنيا من أجله. وأُغري البعض بدور الالتزام بقضايا مجتمعهم فقضوا أعمارهم يكتبون ويُنتجون الكلام ذاته والقصائد ذاتها والإنشاءات اللغوية ذاتها. وقد أفل نجمهم أو


اختفى بعد انتهاء "القضية" أو انكفائها. هذا بينما آثر آخرون أن يلوذوا بخانة التكنوقراط لا يغادرونها لأي سبب من الأسباب مصابين بالتبلّد التام حيال قضايا مجتمعهم أو مآسيه. وهؤلاء الملتزمون عابوا على المستنكفين والأخيرون اتهموا الملتزمين بتسييس الأدب أو الفكر أو أدلجة العلم. معارك طاحنة نشأت بين المثقفين في كل مجتمع ومجتمع. بل رُصدت معارك المثقفين أشدّ فتكا سيما أن الجزء الأكبر منهم يمتهن فن الكلام والتعبير.

ولأن الحياة لا تلوي على شيء فإن المفاهيم والدلالات التي تولّدها لا تنتهي. فإذا اعتبرنا أننا في زمن ما بعد الحداثة وهو زمن غياب الحقيقة الواحدة أو اليقين والمطلق وولادة مفهوم تعدد الحقائق وغياب الطمأنينة والوضوح في حياة البشرية ومجتمعاتها. هو زمن اتضح فيه ضرورة إحداث توازن بين منظومة قيم تبدو لنا متناقضة متضاربة وضرورة أن نظلّ أخلاقيين في حكمنا على العالم وأحداثه. ويقينا أن مفاهيم ما بعد الحداثة هذه قد تركت دلالاتها على مصطلح المثقّف وعلى ما نريد له من مهمات وأدوار. فإذا افترضنا أن المرحلة مرحلة تعدد الدلالات أو الحقائق ف، هذه التعددية تنسحب على مفهوم المثقّف بحيث لا يُمكننا أن نرسم له تخوما أو نحدد له دلالات بعينها أو أن نزجّ به في خانة. فكأن المعنى لم يعد محصورا في لفظة من حروف بل يتحرّك على محور من زمن. ومن هنا نفترض لأننا قادرون على قبول تعدد "صور" و"أشكال" المثقّف بوحي من التقاء القيم وتقاطعها وتوازنها مثل الحريات (أولا) على تعددها والعدل والمساواة والكرامة. لكن هذه التعددية تفرضها، أيضا، تحولات العلوم في الراهن وأبرزها إدراك أن البحث بأدوات متعددة ووفق مذاهب متعددة يُفضي إلى موقع أقرب من الحقيقة أو العلمية. بمعنى أن قراءة الظاهرة المبحوثة لا تصحّ ولا تستوي تماما إلا إذا تمت بأدوات ومذاهب بحثية ومعرفية متعددة.

نعتقد أن المثقف كمصطلح فقد دلالات واكتسب أخرى أعفي من مهمات وألقيت عليه مهمات أخرى جديدة لا سيما أن العولمة مفاعيلها ومراكز قواها وأدواتها أنتجت العالم من جديد بصيغة لم نعرفها من قبل فوقعت على المثقّف مهمات التفكيك والتركيب والسؤال والإجابة في حقول جديدة وحيال ظواهر أجدّ. نشأ وضع جديد صار المثقّف فيه هو ذاك الفرد الذي يجتهد ساعيا إلى الإسهام بقسطه في إدراك حركة المجتمع وثقافته ومباني ضعفه وقوته وسط متغيرات متسارعة، وهو الذي يشارك مجتمعه في فهم مشاكله وأزماته وفي البحث عن حلول. وقد يكون المثقّف نقديا بمعنى ساعيا إلى التفكيك والتفسير أو منتجا لفكر ونصوص تتوخى مقاربة "الحقيقة" أو التدليل على احتمالات أفضل. المثقّف هو ذاك الفرد الذي يسهم بقسطه في عملية تغيير مجتمعه وإعادة إنتاج المجتمع لذاته من خلال وضع معارفه ومهاراته قيد الامتحان العملي وعلى نحو يصب في ضمان حقوق أفراده وحرياتهم ورخائهم. بمعنى أن المثقّف هو ذاك الفرد الذي بواكب متغيرات الكون ويستطيع أن يربط بين هذه المتغيرات الكونية وبين تحولات محلية أو إقليمية. المثقّف هو ذاك الذي يستطيع أن يتجاوز ذاته وطروحاته نحو الآخرين وينخرط في عملية حوار دائم مع مجتمعه على أفراده ومرجعياته وفعالياته دون أن يلجأ إلى برج عاجي أو إلى شعبوية مُفرطة. كما أن المثقف لا يرجم الآخرين ولا يشطبهم أو يخوّنهم أو يزيلهم من طريقه على نحو ما لمجرّد حضور الاختلاف معهم. وهو لا يستطيع، أخلاقيا على الأقلّ، الظهور بمظهر الليبرالي والمدافع عن الحقوق هنا والالتصاق بنظام أو مركز قوة مستبدّ ودموي هناك. المثقّف هو الفرد الذي لا يتقادم ولا يفقد إنسانيته ولا يؤجّل أخلاقيته عند أو منعطف أو ثاني محطّة. المثقّف هو ماء الحياة المنسابة التي لا تحمل نجاسة المستنقع!





لقد اقترن مفهوم المثقّف بالأخلاق والقِيَم ردحا غير قصير من الزمن ولكننا نؤكّد في هذا الزمن المتغيّر جذريا اقترانه بالعقل والمعقولية، أيضا، لأن أخلاقية بدون عقلانية ستُفضي بصاحبها إلى رومانسية سالبة ومتبرّمة غير فاعلة أو على نزعة مغامراتية مُهلكة. والعقلانية التي نقصدها ليست تلك المشتقّة من القانون الاقتصادي الساعي إلى تحقيق الربح مهما يكن الأسلوب بل إلى ذاك العقل الذي يستطيع أن يُقيم توازنا حساسا بين كل القيم وكل الحقائق وكل المصالح المشروعة بعيدا عن يقين جامد أو إطلاقية عنيفة. العقل الذي يسعى إلى تحقيق الأهداف النبيلة بطرق مستوية وعادلة غير ملتوية ولا تنطوي على انتهاك للحقوق ومبادئ العدالة الطبيعية. العقل الذي يسأل عن الكلفة والضرر في كل ما يأتي به من أفعال ساعيا إلى حصرها في الحد الأدنى. فلا يخرج إلى حرب، مثلا، دون أن يحسب خسائره لا سيما بالأرواح، أو لا يفتح طريقا في منطقة دون أن يضمن تعويضا مناسبا للمتضررين. ومن هنا فإن منتهى الثقافة الآن هو في اعتماد التعددية والحوار أساسا لها باعتبار كل مجتمع يقوم على جملة حقائق وليس على حقيقة واحدة مطلقة. الله في عليائه واحد أحد فرد صمد أما نحن على الأرض فمتعددون في كل شيء! ومع هذا وذاك فإن أحد الشروط الضرورية لإطلاق تسمية مثقف على أحدهم هو قبوله التعددية حقيقة اجتماعية ومثار غنى المجتمع وحيويته والحوار قيمة بحد ذاته وأسلوبا لإدارة الحياة والصراعات فيها على وجه الخصوص.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفاوضات القاهرة بين الموقف الاسرائيلي وضغط الشارع؟


.. محادثات القاهرة .. حديث عن ضمانات أميركية وتفاصيل عن مقترح ا




.. استمرار التصعيد على حدود لبنان رغم الحديث عن تقدم في المبادر


.. الحوثيون يوسعون رقعة أهدافهم لتطال سفنا متوجهة لموانئ إسرائي




.. تقرير: ارتفاع عوائد النفط الإيرانية يغذي الفوضى في الشرق الأ