الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكتابة عن الموت... تداعيات ما قبل الشروع بالنهاية

سعدون محسن ضمد

2007 / 8 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كثيراً ما أسأل نفسي عن معنى الموت، ليس عن ما يفضي إليه بوصفه البرزخ الفاصل بين المعلوم والمجهول، بل فقط عن معناه، وبوصفه مفهوماً لا يرتبط بموضوع، فالموت كلمة غامضة إذا لم تكن بلا معنى، وإذا كان لها معنى فلماذا لا نتكلم عنه، لماذا لا نكتب عن تراث الموت؟ لماذا لم نؤسس لفلسفته. كل الأشياء التي نـحتفي بها ونكترث لأبعادها أقل حضوراً من الموت في حياتنا، ومع ذلك نعطيها أكثر مما نعطي الموت بكثير، هذا إذا كنا نعطي الموت شيئاً.
الموت بلا موضوع، هذا ما أريد أن أقوله. ما هو الموضوع المتعلق بمفهوم الموت؟ هل هو اللاحياة؟ أم أنه الحياة الآخرة؟ أم أن موضوعه العدم بكل امتداد اللاجدوى التي يفتحها هذا العدم؟
ما هو موضوع الموت؟
المشكلة أن الموت يرفض أن يعبر عن أي نوع من أنواع الوجود، هو يرفض إلا أن يكون نهاية مصمتة، صمّاء، بلا ملامح، الموت لا يريد أن يعبر عن الامتداد، ولذلك لا اؤمن أن لمفهومه موضوع. لكن من الجدير بنا أن نسأل إذا لم يكن هنالك موضوع فمن أين جاء المفهوم؟
طبعاً الإنسان واجه من الموت أول ما واجه ملامحه الكريهة، الفقد مثلاً. تُعبِّر ملحمة كلكامش عن الصدمة التي يولدها فقد الأحبة، هذا السكون المقيت الذي يدمر حركة الجسد، البرودة التي تسرق حرارته، الكيفية التي يغيب خلالها نبض الحياة عنه، أيضاً الوعد الصادق بعدم العودة الذي يزرعه الموت فيه، والذي يجد تعبيره بتحلل الجسد. هذا الوعد ثبُت للإنسان أنه جاد لدرجة اندفع بسببها لدفن جثث موتاه أو إحراقها أو إغراقها يائساً من عودتهم...
لكن متى استطاع الموت أن يقنع الإنسان بحتمية وعده، الأمر الذي أدى لتبلور ثقافة الدفن والإحراق؟
في ملحمة كلكامش يلعب الموت على محورين، هما: محور الغياب ومحور الصدمة. فمن شدَّة ملازمة الموت للإنسان فإنه لا يحس بوجوده، فيغيب عن وعيه. فهذا كلكامش الذي خاض الحروب، كثيرا ما كان أداة للموت، لكن مع ذلك لا يبدوا أنه توقف عند الموت أو أدرك معناه، لدرجة أنه تعامل مع موت أنكيدوا كما يتعامل الإنسان مع موضوع جديد وغريب. كان موت أنكيدو صدمة لكلكامش. وهذا هو المحور الآخر للموت، محور الصدمة التي يستثمرها ليصنع منها حضوراً جديداً في وعي المصدوم، حدَّ أنه يشك إن كان قد سمع بالموت سابقاً أو أدرك أي بعد من أبعاده.
الموت حاضر إلى درجة تمكنه من الغياب. هل هناك تطبيق لهذه الحقيقة أكثر من الواقع العراقي. تنفجر السيارة المفخخة فتحرق جثث الباعة أمام زملائهم، وما أن تشرق شمس اليوم التالي حتى يعود هؤلاء الزملاء لنفس المكان ليبيعوا الفواكه والسمك والمعلبات.
الإصرار على العمل تعبير عن إرادة الحياة، إذن فالباعة لا يبحثون عن الموت، ولو كان الموت حاضراً في وعيهم لهربوا منه، لتجنبوا المكان الذي أُحرق فيه زملائهم. الموت غائب أو مغيب في وعي العائدين للبسطيات في بغداد.
لكن مع ذلك ما هو الموت؟
يقول علماء الاثنولوجيا بأن الإنسان لم يفهم الموت بادئ ذي بدء، فلم يظهر من الموت في العصور الغابرة سوى هذا السكون المفاجئ الذي يستولي على الجسد. ولأن في النوم سكون مشابه، اعتقد الإنسان أنه نوم طويل، هكذا فكر إنسان ما قبل التاريخ، ربما، وربما أنه جلس عند جثث أمواته ينتظر استيقاظهم. وربما أنه تعب من الانتظار وراح يبحث عن طعامه، ثم عاد وغاب وعاد وغاب.. وهكذا إلى أن بدأت الديدان والحشرات والغربان تلتهم الجثث وتثير فيه أسئلة الحياة والموت.
استغرق جلوس الإنسان عند جثث موتاه حقباً متطاولة، ربما آلاف السنين مرت قبل أن يعي الإنسان ويصدق بأن الموت ليس أكثر من وعد صادق بعدم العودة. الأهرامات المصرية تؤكد ذلك، فما التحنيط سوى انتظار لعودة الحياة من خلال الحفاظ على الجسد.
كان التحنيط فلسفة، مبعثها الموت لكن غايتها الحياة، إذن فالمصريون لم يدركوا معنى الموت، فلسفة الموت لا ترتبط بغايات الحياة. أنا لا أعرف من أي الحضارات انطلقت فكرة دفن الميت أو إحراقه، لكنني متأكد بأن الحضارة التي ابتكرت الدفن هي التي أدركت معنى الموت، أو أنها صدَّقت بوعده. لذلك دفنت الجسد وتركته إلى غير رجعة... فعندما ينتهي طقس الدفن، ويخطوا الإنسان أولى خطواته مبتعداً عن القبر، يكون قد صدَّق بأن الموت لا يُخلف مواعيده، لو كانت هناك ذرَّة شك واحدة، لما ابتعد الإنسان، بل لما أجرى طقوس الدفن أصلاً.
الدفن فلسفة مبعثها الموت وغايتها الموت. فالذي يهيل التراب على جسد حبيبه لا يفكر باحتمال عودته للحياة.. خاصَّة إذا أخذنا بنظر الاعتبار فكرة أن الإنسان مخلوق من طين، فعندها نفهم أن هذه الفلسفة أدركت بأن الروح لن تعود من جديد، وعليه قررت أن تعيد ما للتراب للتراب. لتقطع دابر التفكير بانتظار العودة. يقيناً منها أن الموت لا يخلف الميعاد.
مع كل ذلك لا تكمن أهمية الموت بكونه يمنح الحياة معناها ومغزاها. ولا بأنه يمنح الولادة فضائها الأرحب، بل للموت أهمية لا توازيها أهمية أي شيء آخر، إذ أنه يشكل التحدى الوحيد الذي فشل معه الإنسان. فالإنسان لا يملك حيال الموت شيئاً، التحدي الوحيد الذي لم ينتصر عليه الإنسان هو الموت. كان الموت دائماً بوابة الإنسان على الفراغ، والمجهول والخوف والقلق. ولهذا السبب فقد تحول إلى عين مفتوحة على الغيب. منذ آلاف السنين وعين الإنسان المفتوحة على المجهول من خلال الموت لم يرمش لها جفن، لم تنم. لكن دون جدوى، فهذه العين لم تر غير الخيالات والأوهام، لم تستطع أن تخبر عن ذلك العلم بشيء ذي قيمة، ذلك أن الموت قد قطع على نفسه وعداً آخر، وكان صادقاً فيه أيضاً، ذلك هو وعده بأن يكون مخلصاً للمجهول الذي ينتمي إليه. الموت لا يخبر عن عالمه، لا يكشف خفاياه.. فقط لأنه ممر باتجاه واحد.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أول مناظرة في فرنسا بين الكتل الانتخابية الرئيسية في خضم حمل


.. وساطة إماراتية تنجح بتبادل 180 أسيرا بين موسكو وكييف




.. استطلاع: ارتفاع نسبة تأييد بايدن إلى 37% | #أميركا_اليوم


.. ترامب يطرح خطة سلام لأوكرانيا في حال فوزه بالانتخابات | #أمي




.. -أنت ترتكب إبادة-.. داعمون لغزة يطوقون مقر إقامة وزير الدفاع