الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-الروافض- وفلسفة الرفض العراقية

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2007 / 8 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إن الأمم لا تشتري ألقابها، لأنها جزء من صيرورتها التاريخية، تماما كما هو الحال بالنسبة لأسماء موطنها وبلدانها. فإذا كانت أسماء البلدان والدول هي الصيغة التي تلتقي فيها مصادفات التاريخ والوعي، فإن ألقابها هي نتاج معاناتها الروحية. ومن ثم هي احد مظاهر حلها لإشكاليات وجودها الطبيعي والماوراطبيعي على مستوى الدولة والثقافة. فأسماء البلدان عادية حيادية، بينما ألقاب الأمم جهادية مصيرية. والأولى تتحول مع مرور الزمن الى جزء من وعي الذات الجغرافي والتميز القومي والدولتي، بينما الثانية تصبح مع مرور الزمن جزء من جغرافيا الروح الثقافي.
فالعراق يحتمل الاشتقاق والاختلاف في التفسير والتأويل دون أن يفقده شيئا أو يضيف إليه. في حين يختلف الحال بالنسبة لألقابه، لأنها تتحمل كمية ونوعية جهاده الثقافي ومصيره التاريخي. وليس مصادفة أن يتحمل العراق ويحمل ألقابا عديدة تعكس في اختلافها وتنوعها هاجس الخلاف في صيرورته التاريخية، والوحدة في كينونته الثقافية. وهي المفارقة التي وجدت تعبيرها في وحدة الهوية والاتهام، حالما يجري الحديث عنه. فهو البلد الوحيد الذي تراكمت فيه وحدة الشك والرفض والتحدي. وليس مصادفة أن يحصل العراقيون من بين مكونات الكينونة العربية الثقافية على لقب "أهل الأهواء"! فهي الصيغة الملطفة للقب "الروافض". بمعنى انه البلد الوحيد الذي تحول الرفض الفكري والسياسي فيه الى الصفة المميزة لجهاده الثقافي ومن ثم تكونه التاريخي.
فالعراق هو البلد الوحيد الذي ارتبطت صفته الذاتية بالفكر والمواقف، وليس بالدينار والدرهم! وليس مصادفة أن تطلق عليه سلطات الاستبداد ألقاب الغوغاء والروافض، بسبب استحالة رصفهم في صفوف منتظمة قابلة للتوجيه والحركة رهن إشارتها. وإذا كانت هذه الألقاب وثيقة الارتباط بالمرحلة الأموية، أو على الأقل أن حروفها العربية قد ارتبطت بصعود الأموية، فان حروفها الروحية تكمن في أعماقه السحيقة.
فالعراق هو عالم السكون والجنون، أو الهدوء والهيجان، كما انه عالم البحث عن اليقين عبر شكوكه الأبدية. وليس مصادفة أن تظهر فيه منذ القدم ملحمة جلجامش، أي ملحمة الشك بالأبدية وهواجس البحث عن الخلود. وهي الصفة التي لم يفقدها لحد الآن، كما لم تضعف بين جوانحه لا في أوقات السلم والحرب، ولا في حالات الرفاهية والعوز. بمعنى أنها إحدى المكونات الجوهرية لوعيه الذاتي. وهي مكونات لم تر الأموية فيها غير "شقاق ونفاق". وهي وصمة لها أبعادها من جانب المحبين والكارهين. ففي لسان الإمام علي بن أبي طالب هي عين المحبة المكبوتة بقسوة الصراع، بينما في لسان الأموية هي عين الانتقام الإذلال. من هنا تباين مصيرهما في الوعي العراقي. فالعراق "الرافضي" بالمعنى الأموي هو عين العراق الرافض لاستبدادها، كما أن "الروافض العراقيون" بالمعنى العلوي هو عين مؤيديه، أي أخلاف المعارضة الأبدية المبنية على قيم "الأنفة والحمية وشراسة الخلق وعدم الرضا بالسلطة الغاشمة". ومن ثم لا معنى "للروافض" هنا غير الرفض المادي والمعنوي للاستبداد والظلم. وهي الصفة التي تتمتع بقدر من الاستقلالية القائمة بذاتها. وليس مصادفة فيما يبدو أن يصبح العراق محل "الفتن" الكبرى في التاريخ الإسلامي. ففيه بدأت سلسلة معارك الجمل وصفين والنهروان واستكمالها اللاحق بثورات وانتفاضات الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير والمختار وعشرات الانتفاضات الكبرى والصغرى لمختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية من شيعة وخوارج وقدرية ومعتزلة وغيرهم.
غير أن "الفتنة" التي تلازم الروح العراقي هي "فتنة" الشكيمة الممتحنة بمعايير الحق، شأن الامتحان الأبدي للبحث عن الأبد في ملحمة جلجامش. بمعنى الافتنان بجمال التضحية من اجل الحق، والعيش بجلال الخاتمة. وليس مصادفة أن تندثر فيه وتتلاشى كل القوى التي نقلت إليه مطامحها بدء بالزبير وانتهاء بابنه وأمثاله، ويبقى فيه ويورد من انطلق منه بما فيه واليه أمثال الإمام علي وابنه وأمثاله. وهي معادلة كانت وما تزال محكومة بما في أهل العراق من "أنفة وحمية وشراسة الخلق وقلة الرضا بالضيم". وهي الصفات التي كانت تؤسس "لفتنة" المعارضة والركون الى الفكر من اجل الدفاع عن الحقيقة، والى السلاح من اجل الدفاع عن الحق.
وهي المعادلة الخفية التي حدسها الإمام علي في أهل العراق، التي جعلتهم بالنسبة له مصدر الاعتزاز والشكوى، شأن كل ما يداعب فينا وحدة العقول والقلوب، والهواجس والوساوس، والشك واليقين. وهي الصيغة التي نعثر عليها في الفكرة التي وضعها في إحدى خطبه المريرة والمشبعة بتأمل المستقبل، شأن كل وجدان يتواجد بمعايير الحال والحق، عندما قال: "ألا أن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أمية، فإنها فتنة عمياء مظلمة عمّت خطتها وخّصت بليتها، وأصاب البلاء من أبصر فيها، واخطأ البلاء من عمى عنها. وأيم الله لتجدن بني أمية لكم أرباب سوء بعدي... لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلا نافعا لهم أو غير ضائر بهم. ولا يزال بلاؤهم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم كانتصار العبد من ربه، والصاحب من مستصحبه". وهو تنبؤ مبني على أساس المعايشة والتجربة وإخلاص الرؤية وإدراك طبيعة الأموية، بوصفها التجسيد النموذجي لفكرة الاستبداد والخروج على الحق. وهو الأمر الذي جعل الأموية على خلاف جوهري شامل مع العراق. كما انه الخلاف الذي جعل من عبارة " يا أهل العراق! يا أهل الشقاق والنفاق" صيغة الشتيمة والاتهام الملازمة لجوهر الأموية السياسي. وعليهما ترتبت في وقت لاحق ألقاب "الروافض والغوغاء"، تماما كما ستطلقها الصدامية في مرحلة انهيارها المعنوي وفسادها الأخلاقي وسقوطها السياسي.
إن سر الاتهام اللاحق لأهل لعراق باعتبارهم أهل "الفتن والشقاق والنفاق والغوغاء" وأمثالها، يكمن في سر استعدادهم للمعارضة الكبرى. وهي حالة تراكمت في مجرى صعود الأموية بوصفها مواجهة حادة وقاسية مع "أهل العراق". فالأموية هي نقيض العراقية. فتاريخها هو تاريخ الصراع ضد العراق، ونجاحها مرهون بكبته وقهره، وسقوطها بنجاحه. وهي المعادلة التي جّسد صعود يزيد بن معاوية نموذجها العملي آنذاك. فعندما استفسر معاوية من المغيرة بن شعبة عن الكيفية الممكنة لوضع فكرته عن المبايعة ليزيد موضع التنفيذ، فان الجواب كان جاهزا "أكفيك أهل الكوفة! ويكفيك زياد أهل البصرة! وليس بعد هذين المصرين أحد يخالف!". بينما كانت أجوبة أهل العراق تتسم بنفس القدر من الوضوح في معارضتها ورفضها لهذا النمط من السياسة. وتحفل كتب التاريخ بنماذج هائلة تكشف عما يمكن دعوته بوحدة العقل والقلب المستعدة للجدل والرفض. وهي الصفة التي لازمت الذهنية والنفسية العراقية أو شخصيتها التاريخية الثقافية. وليس مصادفة أن يكون العراق مكان الجدل العقلاني والشكوك الإنسانية الكبرى والعمل من اجلها. بحيث جرى رفعهم لاحقا الى مصاف "أهل الأهواء"، أي أولئك الذين لا يرطنون الى الاستسلام في الفكر، ولا يعولون على النقل البليد والتقليد التليد! وليس غريبا أيضا أن يتهمهم احد "الغرباء" قائلا، بأنه وجد نفسه بينهم كالقرآن في بيت زنديق!! وهو تقييم لا ينفك عن طبيعة الذهنية التقليدية التي تجد نفسها غريبة في عالم صاخب. وهو صخب نابع من عنفوان الشخصية العراقية في بحثها عن النسب المثلى. ولا نسب مثلى إلا في الخيال والمثال.
من هنا تحول العراق على امتداد تاريخه الى ميدان احتراب القوى، ومعارك القيم وتأسيس الأفكار. ومن هنا أيضا فكرة الرفض العميقة في أعمق أعماقه. فقد وجدت كل الحركات التي رفضت الانصياع للسلطة رصيدا فيه. وهو السر الذي جعله ارض "الروافض". فقد ظهرت أغلب إن لم يكن جميع حركات الرفض (الروافض) في العراق من حيث تأسيسها للفكرة واجتهادها وكفاحها وتضحيتها. وهي الصفة التي طبعت سلوك الأغلبية بما في ذلك اشد التيارات الإسلامية جمودا وسلفية كما هو الحال بالنسبة للحنبلية. وهي مواقف لم تكن معزولة عن تقاليد الرفض المتسامية التي ميزت العراق وتقاليده الثقافية والروحية. فقد كان سلوك احمد بن حنبل رافضي تجاه السلطة. وهو سلوك لم يكن معزولا عن المرجعية العميقة والكونية التي وضعها "الروافض" في صلب ونسيج البنية الذهنية العراقية. وإذا كان مظهرها السياسي قد اتخذ في بعض أشكاله الغالية صيغة تأييد "الإمامة المقدسة"، فلأنهم أرادوا أن تكون السلطة مقدسة، أي نزيهة. وذلك لان فكرة الرفض المتسامية هي فكرة التنزيه التام. وهي الصفة التي وجدت تعبيرها النموذجي في الحكاية التي ترويها كتب التاريخ والنوادر عن كيف أن الاسكندر المقدوني قال مرة لارسطاطاليس
- قد أعياني أهل العراق! ما اجري عليهم حيلة إلا وجدتهم قد سبقوني الى الخلاص، فتخلصوا قبل إيقاعها بهم. وقد عزمت على قتلهم عن آخرهم!!
- إذا قتلتهم، فهل تقدر على قتل الهواء الذي غذى طباعهم وخصهم بهذا الذكاء؟ فإن ماتوا ظهر في موضعهم من يشاكلهم.
- ما الرأي؟
- من كان فيه هذا العقل كانت فيه أنفة، وحمية، وشراسة خلق، وقلة الرضا بالضيم. فاقسمها طوائف. وولّ على كل طائفة أمير. فأنهم يختلفون. فإذا اختلفوا فلّت شوكتهم فغفلوا!
فأقاموا مختلفين أربعمائة عام حتى جمعهم اردشير بن بابك وقال :إنّ كلمة فرّقت بيننا أربعمائة سنة لمشئومة!
أنها الصيغة الرمزية عن سياسة ودهاء الإمبراطورية في التعامل مع الشعوب التي تتميز بالحمية والأنفة وشراسة الخلق وعدم الرضا بالضيم، بحيث تصبح مهمة تفتيتها من خلال تصنيع الأمراء، أسلوبا لإحكام السيطرة عليها. وهي الحالة التي يمكن رؤيتها بصورة نموذجية بعد احتلال العراق. إننا نقف الآن أمام عراق هو "دولة طوائف". ففي الجنوب أمراء التدين السياسي لميليشيات المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وجند الله وحزب الله، والفضيلة والتيار الصدري وأمثالهم، وفي الوسط أمراء "مجلس الحكم الانتقالي" الدائم! (رغم اختلاف الأسماء وتصنيع القوانين المؤقتة والدساتير الثابتة!)، وفي الشمال أمراء الطالبانية والإقطاعية البارازانية. وفي المناطق الغربية أمراء المجموعات التكفيرية والأصوليات السفاحة. وهي حالة ليست بحاجة الى تقييم، لأنها بلا قيمة، شأن كل ما هو عابر في تاريخ العراق!
وسوف يصنع العراق وحدته بفعل ما فيه من " أنفة وحمية وشراسة خلق وقلة الرضا بالضيم". فهي القيم التي صنعت هويته التاريخية وكينونته الثقافية، أي منظومة قيمه الكونية والخاصة. وهي المقدمة الكامنة في كيانه، الذي يجعل منها ضمانة الرفض الدائم للاحتلال وسياسة التجزئة. ومن ثم إعادة بنائه الذاتي. وهو بناء سوف ينتج اردشير جديد هو أهل العراق الموحد. وهو توّحد يستمد مرجعيته ليس من الأمراء لأنهم بلا مروءة، وليس من الأحزاب لأنهم فرحون حتى بعبوديتهم! بل من فكرة الرفض للتفرقة. وسوف يقول العراق كلمته: إن كلمة الدكتاتورية التي فرّقت بيننا لأربعة عقود لمشئومة! وإن كلمة الطائفية السياسية والعرقية التي فرقت بيننا لأربع أعوام لمشئومة! وهي النتيجة الوحيدة القادرة على إعادة بناء وعي الذات العراقي بالطريقة التي تجعل المرء يقول بملء فيه:إنني عراقي، إذن إنني رافضي تجاه الاحتلال! وإنني رافضي تجاه التجزئة، إذن إنني عراقي!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 82-Al-Aanaam


.. هل هبط آدم من الفضاء ؟




.. -اليهود مش هينسوهم-..تفاصيل لأول مرة عن قادة حرب أكتوبر


.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية.. الكلمة الفصل للميدان | 202




.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية: تماسك في الميدان في مواجهة