الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الآلهة عشتار و طقوس الحزن الجماعي لقيامة تموز العراقي

فاضل سوداني

2007 / 8 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يعتبر موت وقيامة الاله تموز (دموزي ) احد الطقوس التراجيدية المهمة بسماته الاسطورية والطقوسية والفلسفية ، فهو الخزين التراجيدي في روح الإنسان القديم في وادي الرافدين . ولحجم الاضطهاد والعذاب الذي تعرض له الإله ( دموزي ـ تموز ) و علاقة حبيبته الآلهة إنانا – عشتار ودورها الملتبس بهذا الموت المأساوي أدى الى أن تمتلئ المثيولوجيا والآداب السومرية والبابلية بمناحات واساطير وملاحم وطقوس تعزية خاصة بمآسي آلهة الخصب الشهيرة هذه وغيابها عن الحياة ، ومن ثم قيامتها من جديد ، و يعتبر كل هذا حتى الان من أرقى وأغنى ما كتب في مثيولوجيا شعوب وادي الرافدين .
ومن خلال هذه القصائد واللتورغيات والاساطير والطقوس تكثفت معرفتنا عن إختطاف إله الخصب دموزي السومري ـ تموز (في الحضارة البابلية )، من قبل شياطين العالم الاسفل ونواح الالهة السومرية إنانا على زوجها وحبيبها وأخيها بعد ان سلمته هي للموت . لكن الالهة عشتار ( الامتداد البابلي للآلهة إنانا السومرية ) أرادت ان تكفر عن خطئها حيث بدون تموز لا يتم أي إخصاب بمختلف أشكاله سواء في الطبيعة او لدى الانسان ، وهذا يعني القحط والجفاف والموت في الحياة مما دفعها للهبوط الى عالم الموت للبحث عنه وتحمل المآسي والصعوبات التي رافقت رحلتها . وتعبيرا عن ضرورة الخصب في الكون مارس شعب وادي الرافدين الحزن الجماعي على دموزي السومري ـ تموز البابلي و مشاركة الالهة إنانا ـ عشتار في مصابها على حبيبها او نصفها الاخر. ويعد هذا الطقس نقيض طقس الزواج المقدس ،ولكنه مكمل له في ذات الوقت . فعندما سلمت الالهة إنانا السومرية الاله دموزي كبديل لها ، فان الالهة عشتار في النسخة البابلية هي التي هبطت من جديد لإنقاذه و يعد هذا إنقاذاً لحياة الكائنات والطبيعة وكل مايمت بصلة بالخصب .
وقد بدأت مأساة الاله تموز عندما وقع بين أيدي شياطين ( الجلا ) وهي مخلوقات لاتعرف الرحمة وتقتات على االطين ( انتم العفاريت الذين لا ام لهم ولا اب ولا إخت ولا زوجة ولا ولد / الذين يرفرفون حائمين في السماء والارض مثل رؤساء الحرس /انتم العفاريت الذين يتشبثون بجنب الانسان /الذين لا يعرفون ما الفضل ولا يعرفون الخير و الشر /) وتنفيذا لتطبيق قاموا بشد وثاقه في الحال وعذبوه تمهيدا لنزوله في جحيم الموت ، وبعد توسلات كثيره من قبله لجميع الالهة لمساعدته ، و توسلاته الى صهره إله الشمس :
( ايه أوتو ، أنا صديقك ، أنا الفتى الذي تعرفه /إتخذت اختك زوجا / إستبدلتني لأكون عوضا منها في العالم الاسفل / إيه أوتو ، انت القاضي العدل ، لاتدعني أموت ، / غير يدي / بدل صورتي / دعني افلت من شياطيني ، فلا يمسكوا بي ، / مثل حية ساجال سوف اجتاز مروج الروابي ، / سوف أنقل روحي الى بيت اختي جشت نانا ) ويستجيب إله الشمس أوتو لإنقاذه ويحوله الى ثعبان يختفي في الحقول . الاله المنفي تموز مطاردا ، بدون سقف يحميه او زاوية يركن اليها ، مامن دكة يتكأ عليها ، مامن باب يصدر عنه الريح ما من مكان يحتمي فيه . منفي ، مطارد وحيد هو ، لا يملك سوى جذوة روحه ، هو ومصيره هذا الاله المنفي سيد البلاد المعذب. ويضل هائما حتى يصل الى بيت اخته ، وعندما تراه تصدر نواح مر ، نواح لا مثيل له لانها كعرافة ترى نهايته المستقبلية الاليمة .( جشتي نانا حدقت في اخيها ،/ خدشت وجنتيها ، مزقت فمها /…… شقت ثيابها /صدر عنها نواح مر على السيد المعذب / اواه يااخي ، أواه ،أيها الفتى الذي لم تكن ايامه طويلة /أواه يااخي الفتى الذي لازوج له ولا ولد /أواه يااخي الفتى الذي لاصديق له ولارفيق / أواه يااخي الفتى الذي لا يجلب العزاء لأمه /)
وأثناء نوم الاله الهارب من قتلته ، يرى كابوسا مخيفا له دلالاته الرمزية كما يحدثنا الشاعر السومري ـ البابلي بكلمات شعرية معبرة و موجزة وذات بعد تراجيدي ، فمن خلال اللقطة الخاطفة ذات الايقاع السريع كما في السينما المعاصرة ، يكثف لنا الشاعر الصورة الدرامية التي تعبر عن مأساوية النهاية الحتمية لمصير الاله ( استيقظ ، كان حلما / اضطرب ، كان رؤيا ،/ فرك عينيه ، انتابه دوار )
وكما يرى الاله في حلمه فان الأسل يتكاثف من حوله فقط هنالك حزمة من القصب تحني راسها امامه . وعلى مثواه المقدس لايسكب ماء ، وطاسة اللبن المقدسة المعلقة الى وتد تسقط وتنكسر ، ومحجنة (عصا ) الراعي دموزي تختفي ، وبازا يمسك حملا ببراثينه ، وماشية الاله تجرجر لحاها اللازوردية على التراب وتدب على الارض بقوائم ملتوية . ومامن لبن يسكب والطاسة محطمة . دموزي لن يعيش الهدوؤء بعد الان ، فحضيرة الغنم في مهب الريح .
ان رموز هذا الحلم تدلل جميعها على صفات الاله باعتباره راعيا ، ولذلك فان الشاعر استخدم كلمات مكثفة الصورة وترمز لطبيعة مثل هذه الحياة . وحلم الاله يظهر لنا الحالة التراجيدية والحزن الذي يلف شغاف قلبه . وعندما تبدأ (جشتي نانا ) بتأويل حلم أخيها وتفسيره يكون التأويل أكثر رعبا وتراجيدية من الحلم ذاته . حيث تنبئه بان الاسَل الذي يلتف من حوله هو سفاحون سينقضون عليه والأشرار سوف يرعبونه وحظيرة الغنم سوف تغدو خرابا . ولكن تمسك الاله دموزي ـ تموز بالحياة يدفعه الى الاختباء في مكان سري آخر لايعلم به سوى اخته بعد ان يستحلفها ألا تدلهم على مكان مخبئه ،( سوف اختبئ بين النباتات الكبيرة ، لاتقولي اين أنا / سوف اختبئ بين أخاديد " أرالي "، لاتقولي اين أنا ) فتعده بذلك . ( إذا قلت اين مخبؤك ، فلتاكلني كلابك .)
لكن شياطين الجلا يتشاورون فيما بينهم عن مكان اختباؤه(من ذا الذي يرى انسانا تملكه الخوف يعيش بسلام /ألا، فلنمتنع عن الذهاب الى بيت صديقه ،وعن الذهاب الى بيت صهره/فالنمضي باحثين عن الراعي في بيت جشتي نانا) وعندما يصلون الى هناك يعذبونها من اجل ان تدلهم عليه ، لكن دون جدوى (دلينا أين يختبأ أخوك ، قالوا لها ، لكنها لم تدلهم ،/ جاءوا بالسماء قريبا منها ، ووضعوا الارض في حجرها ، لكنها لم تدلهم ./ جاءوا بالأرض قريبا مزقوها ، لكنها لم تدلهم ، / جاءوا بها قريبا …… بعثروها فوق ملابسها ، لكنها لم تدلهم / صبوا في حجرها قاراً ، لكنها لم تدلهم / لم يجدوا دموزي في بيت جشتي نانا / ) وهكذا تفي أخت الاله بوعدها . إلا ان تموز يشعر بالذنب بسبب الآلام التي عانتها اخته ( إن اختبأت في المدن ، أكون جلبت نهاية لأختي ./ ) فيسمح لمطارديه ان يمسكوا به بطريقة ما . وعندما يتم هذا يشعر بالخوف من الموت فييتوسل الاله أوتو من جديد كي يحيله الى غزال ، غير ان الشياطين الاشرار لديهم مهمة تنفيذ قانون العالم الاسفل ولابد ان يجدوه فيطاردونه ةيفلت ايضا منهم وهو دلالة على الصراع بين قوى الاخصاب وقوى الموت . وفي الختام يمسكون به وهو مختبئ في حظيرته في الصحراء . يعذبونه من اجل ان يرسلوه الى عالم الموت الابدي . وبهذا يتحقق كابوسه . لكن اخته تقوم بالتضحية الكبرى عندما تعرض على شياطينه ان تحل محله في عالم اللاعودة كبديل عنه . وعقابا لدموزي الذي حاول الهرب من قدر العقاب يتم الحكم عليه بان يقيم نصف سنة في عالم الاموات وتأخذ أخته مكانه في النصف الثاني . وعند موت دموزي يعم الجفاف في الكون . عندها يمتلأ قلب الالهة إنانا ـ عشتار حزنا على حبيبها فتصاب بالندم على كونها هي السبب لهذا الجفاف والخراب الذي عم مدينتها ، بتسليمها اله الخصب الى الموت . فيبدأ شعب وادي الرافدين بممارسة طقوس الحزن مع آلهته إنانا ، وطقس الندم الجمعي على الاله دموزي ـ تموز حتى تتم قيامته من جديد ، عندها يبدأ الخصب في الربيع والصيف بعد الموت والجفاف وهكذا تبدأ دورة الحياة .
ومن خلال هذه الوقائع السردية لموت وقيامة الاله يمكننا القول بان :
الاختلاف الجوهري لهذا الطقس يكمن في كونه يعالج فكرة اساسية وهي الصراع المستميت بين الحياة والموت أضافة الى التطرق لبعض المشاكل الانسانية الاخرى مثل الدهاء والمكر في التخلص من الاعداء ، والغيرة والتضحية والحب العميق بين الاخت والاخ ، وقد لاحظنا تنوع المكان الذي حدثت فيه الاحداث ، كالمعبد ومجمع الالهة والحقول والصحارى وعالم الموت . التباين في سلوك ومصائر الشخصيات ، وقد اتسمت شخصية الاله تموز واخته جشتي نانا بالتمسك برباط الاخوة القدسي والحنان والرقة مما اضفى عليهما بعدا انسانيا عميقا .
كم تبدو معاناة الاله دموزي ـ تموز متشابه في الكثير من فصولها مع عذابات الانسان العراقي في جحيمه المعاصر سواء كان في فيافي وسهوب وطنه ام في منفاه .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صنّاع الشهرة - تعرف إلى أدوات الذكاء الاصطناعي المفيدة والمج


.. ماذا وراء المطالب بإلغاء نحر الأضاحي في المغرب؟




.. ما سرّ التحركات الأمريكية المكثفة في ليبيا؟ • فرانس 24


.. تونس: ما الذي تـُـعدّ له جبهة الخلاص المعارضة للرئاسيات؟




.. إيطاليا: لماذا تـُـلاحقُ حكومة ميلوني قضائيا بسبب تونس؟