الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة النقد و نقد الثقافة

نذير الماجد

2007 / 8 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


حين يشعر أحدنا بانعدام وزن وجودي يلجأ عادة للاحتماء بأي شيء يخلق لديه امتلاء وهمي، كأن يحاول تضخيم المنجز الذاتي و توسيع حيز القدرات و دائرة السيطرة على الواقع، الأمر الذي يؤدي به لشعور وهمي بحيازة زمام الذات و التحكم بمسارها. هذه العملية بوصفها آلية دفاع ضد المآزق الوجودية و التي تعكس استفحال خطر التهديدات الخارجية و عدم الشعور بالأمن و الهشاشة في الذات/الهوية و عدم تماسكها تمثل ديناميكية تقوم بها النفس من أجل ضمان الاتزان الضروري للبقاء.

بيد أن هذه الذات المهددة تنكمش من جهة أخرى في محاولة مستميتة لتحصيل الخلوص و الاستجماع و بالتالي تحصين الخطوط الدفاعية بوجه ما يصور أنه غزو أو تهديد خطر، و بذلك يتحصل التوازن بين تضخم الذات و بين ما يمكنني أن أسميه : المناعة، النفسية في حالة الفرد، و الثقافية في حالة الأمة و المجتمع و التي تمثل إحدى أهم خصائص الأبعاد الاستاتيكية للمجتمع.

تتحفز "المناعة الثقافية" كلما داهمت الجماعة مؤثرات من خارج كيان الثقافة لتطال سائر البنى التي تتشكل منها الثقافة، سواء كانت هذه المؤثرات مرغوبة أم لا. و من أكثر هذه البنى حصانة و رسوخا في الذاكرة الجماعية/ الثقافة هو الفكر الديني ، أقول الفكر الديني و ليس الدين ذاته قاصدا بذلك العمليات الفكرية و الاعتقادات و مجمل السلوكيات المتشكلة نتيجة التفاعل المستمر بين عناصر الثقافة كلها كالتراث و الآداب و اللغة، لتعطي في المحصلة فهما خاصا بهذه الثقافة أو تلك للدين، و لذلك فمن الطبيعي أن نرى أفهام و قراءات متعددة للحقيقة و الشريعة الدينية تبعا لتعدد المجتمعات و تفاوت الثقافات، و لا يفوتني هنا التنويه بأن هذه المحددات الآنفة الذكر لا يمكن لها وحدها أن تحدد طبيعة الفكر الديني، و لكن ما يعننا هنا هو مركزية الثقافة في تأمين التوازن الوجودي الذي تتوق إليه كل الأمم، و لأن الفكر الديني يعد من أهم العناصر المشكلة لهذه الثقافة، لذلك يحتل مكانة مرموقة في واقع الجماعة. و هنا أستحضر مفهوم المتخيل و العامل الرأسمالي (المعنوية) الذي لا يقل أهمية عن العامل المادي في التأثير على الجماعة و حركتها و تاريخيها، و هو اتجاه حديث ظهر كرد فعل على الإفراط في التركيز على العامل المادي في تحريك المجتمع و تحديد مسار التاريخ.

من هنا نجد أن هنالك علاقة تلازمية بين المناعة الثقافية المتخفزة في الوضعيات التي تزخر بالمآزق و الأزمات و بين تصلب الفكر الديني مما يحول دون خلق فكر نقدي يمنح الذات مقومات نجاتها و سيطرتها على الواقع (الحضارة)، فتحصل القطيعة مع الذات / الاغتراب عن الذات في سبيل الدفاع عن تلك الهوية مهما كانت مهترئة مشدودة إلى الماضي و ما تبقى لها من بريق العصور الذهبية و التي هي في الأساس حاجة ملحة لكل مجتمع،ذلك أن الحداثة و الإمساك بتلابيب الحضارة تتطلب استلهام أجوبة الحاضر و تقصي إشكاليات تعاني منها الذات نفسها و ليس شيئا آخر، فمهما كانت الذات التراثية قوية و حاضرة فهي بالقطع ليست الذات نفسها التي تعيش إشكاليات و أزمات جديدة منبثقة من المرحلة المعاشة و تحديات المعاصرة، إنها ذات أخرى مختلفة تماما عن الذات الراهنة.

إن الفكر النقدي وحده القادر على تحديد تلك الإشكاليات المعاصرة و تقديم أجوبتها من رحم الواقع، و لا يعني هذا تجاهل التراث كما لا يعني القطيعة مع العصر و الحداثة بتجاهل رهاناتها الفلسفية على أقل تقدير بحسب ما يؤكد المفكر محمد أركون، فهو يقر بأن الحداثة تجربة تاريخية مرتبطة (خاصة) بالغرب لكن رغم ذلك " لا يمكن لأي فكر محلي أن يتجاهل رهاناتها الفلسفية، اللهم إلا إذا أراد أن يحرم نفسه من أي تواصل إن لم يكن مع الفكر الكوني فعلى الأقل مع الفكر القابل لأن يكون كونيا".

و يمكن الجزم بأن ثمة اتفاق حول الأزمة التي تعصف بواقعنا العربي و الإسلامي و هي التي تكمن في عطالتنا التاريخية و عدم قدرتنا على ولوج الحضارة و تحقيق المصالحة مع الذات، و منذ انبثاق الوعي بأن ثمة تراجع خطير عند العرب و المسلمين عن الأمم الأخرى ظهرت أجوبة و قراءات عديدة، منها خطاب النهضة و الذي يتسم بقراءة تلفيقية كما يرى المفكر نصر حامد أبو زيد، فهو -أي خطاب النهضة- أخذ التراث بكل مثالبه و قام بدمجه مع آثار و منجزات الحداثة و ليس مبادئها و مبانيها الفلسفية، رغم ذلك فإنه يمثل محاولة جادة متقدمة في اللحاق بركب التطور. على الجانب الآخر، نجد الخطاب التراثي أو السلفي، يعتبر هو الآخر بمثابة استجابة لهذا التحدي، و لكنها استجابة نكوصية بلا شك، حيث يواجه أزمة دخول العصر (المعاصرة و الحداثة) بالرجوع للهوية التراثية مما يعني انسحابا من الواقع و تهربا من المسؤولية و المجابهة و مصادرة خطيرة لدور العقل.



و قد تراجع خطاب النهضة بفعل عوامل سياسية و اجتماعية عديدة لصالح الخطاب السلفي التراثي الموغل في تقديس التراث و اعتماده إطارا مرجعيا لكل عمليات التنمية و التطور و ما إلى ذلك من مسميات و مدعيات مغرية. و تراجع تبعا لذلك "الفكر النقدي" و هيمن بالتالي الركود الاجتماعي، و أصبحت الثقافة العربية ذات سمة نصية تتوالد فيها النصوص و يسود فيها الفكر الاتباعي، و يمكن اكتشاف ذلك في مرحلة مبكرة جدا حين تعرض مفكرون عظام لمحاكمات قوضت مشاريعهم الفكرية "النقدية"، و لطالما عبر الكثيرون من الفاعلين الاجتماعيين و المثقفين عن مخاوفهم من توسع دائرة القمع لتشمل كل مشروع فكري تنويري، و إذا لم نتدارك الأزمة و نتصدى لها فإننا سنغدو بلا شك بين أسيجة مغلقة من القمع و التابوات الحمراء، و سيربض التخلف على واقع الشعوب العربية و الإسلامية مما يؤدي لشيوع التزمت و الكراهية و الاصطفاف من خلال أكثر معاير الإنتماء بدائيةً: القبلية أو الطائفية.

التخلف في الواقع العربي و الإسلامي أمر مؤكد و بين، نجد تجلياته في كل المجالات، و لذلك فشلنا في تحقيق نهضة اقتصادية و علمية، و كان حظنا بائسا جدا في إنتاج البحث العلمي، و جامعاتنا مع الأسف تحتل مراتب متأخرة جدا بين العالم، و التنمية السياسية تكاد تكون معدومة، فبتنا نسمع عن ظاهرة التوريث حتى في النظم الجمهورية، هذا عدا عن ظاهرة العنف المتفشية في كل أصقاع العالم و التي تحمل بلا شك بصمات عربية.

لازلنا أمة تستورد كل شيء من الغترة حتى الطائرة، و نحن لم نورد شيئا سوى العنف و الإرهاب و الكراهية، فهل نحتاج إلى أكثر من ذلك حتى ندرك أننا متراجعون عن ركب الحضارة، بل ما زلنا نقبع في الماضي، نتحدث بلغته و نتكلم بلسانه، و نتلوى من أوجاعه، لازلنا نردد خلافات ليست هي خلافاتنا، نعيد إنتاجها باستمرار دون طائل. لا يمكن لإنسان أن يقف مكتوف الأيدي حين يدرك حقيقة تخلفه و تراجعه، فالاعتراف بالداء هو أولى خطوات العلاج. يجب الإقرار بهذه الحقيقة حتى نتمكن من إشاعة جو من التوتر الفكري و الفعالية النقدية وصولا لكشف الثغرات و أسباب الخلل و الركود الاجتماعي.

بيد أن ما يحول دون ذلك عوامل أساسية أهمها العامل السياسي أو "الدولة -الوطن-الحزب" إذا ما استعرنا مفاهيم الدكتور أركون، فنشوء هذه الكيانات السياسية التي تحمل قدرا كبيرا من الاستبداد و التعنت و "القبلية السياسية" دور كبير في تكريس استبداد شامل يعم كل دوائر و أزقة المجتمع، كالمؤسسات الخاصة و العامة و حتى داخل الحيز الخاص في الأسرة و التعليم و هلم جرا، و من شأن هذا الاستبداد أو "الإرهاب العربي" كما يسميه الشاعر محمد الماغوط في نقده اللاذع للدول العربية أن يخرس الألسنة و يعرض العقول للشلل و التلف و بالتالي لا تتوفر البيئة اللازمة لإشاعة ثقافة النقد.

القطيعة التاريخية عامل مهم آخر، حيث لا يخفى أن المجتمعات العربية لازالت تحكمها أنساق ثقافية و منظومة قيم تشكلت في ظروف و حيثيات تاريخية لا تصلح للتعميم، بوصفها طارئة و ليست جوهرية ثابتة، و كان الخطاب الإسلامي المهيمن على الحياة الثقافية كلها تقريبا يفترض أن هناك استمرارية تاريخية للنماذج العليا للعمل و الأنماط و الفكر التي تشكلت في عصور التدوين و لها نفس الصلاحية في كل الأمكنة و الأزمنة،و كل المنظومات، سواء في الأخلاق أو في السلوك أو السياسية أو غير ذلك، وفق هذا الافتراض يجب أن تبقى مهيمنة كمحاور نهائية و ثابتة في التكوين الثقافي للجماعة، و من الواضح تماما أن تلك الأنساق القادمة من التاريخ نشأت في القرون الوسطى التي يعمها الاستبداد، و قد ظفرت و تشكلت أرثوذكسيتها بصورتها النهائية بعد اشتداد التسلط السياسي الذي وقف إلى جانبها، لذلك فحتى التراثات العقلانية تعرضت للتهميش طوال التاريخ لصالح تراثها الذي امتزجت فيه النصوصية /الإخبارية و الصوفية.

يتفرع عن العامل الأخير عامل لا يقل أهمية، هو "الأكليروس الإسلامي"، فمع التزمت السياسي و هيمنة أصحاب القرار و المصير و المستأثرين بالسلطة، هنالك حليف آخر يربض في المؤسسات الدينية و المساجد و الحسينيات هو "رجل الدين"، بما يحاول أن يكتسبه من مهابة و كارزمية استثنائية تؤهله لتمثل القدوة و النمذجة السلوكية العالية، إضافة لتقمصه الجسدي للتعاليم و القيم الدينية، فتجد أحدهم بسبحته و لحيته و سيماء السجود في جبينه و جبته الواسعة و عمته التي تحيل إلى الرموز التاريخية العظيمة و خاتمه العقيق و بهرجته عالية اللباقة في التحية و التقيد الحرفي بآداب و سلوكيات اجتماعية محددة، فتشعر كما لو أنك أمام ملاك في غاية الطهر، و هذا ما ينعكس عليه هو نفسه، فكل هذه الأبهة تؤدي لإيحاء ذاتي مفاده أن صاحب هذه القامة لا يمكن أن يطاله النقد، لذلك فأغلب هؤلاء يمقتون النقد بالسريرة، لأنه يكشف هذا الزيف و يجعل منه رجلا عاديا يُحاسب حين يقصر و يُعاقب حين يذنب.

رجال الدين كما رجال السياسة في وطننا العربي و الإسلامي يمثلون عقبة كأداء في طريق بناء ثقافة تتسم بروح النقد، و لا يعني هذا أنني أطلق التعميمات جزافا على كل المنتسبين لهذه الفئة، فهنالك بلا شك قادة و مفكرون عظام يناضلون في سبيل خروج الأمة من قوقعتها، و لهم مساع محمودة في طريق الوحدة و الإصلاح و هي غايات نبيلة و سامية و لا شك، لكن النسق العام لرجال الدين لازال سائدا، و يحظى بكل الدعم و التأييد من العامة و الجماهير "الطيبة" و التي لا يمكنها اختراق الحجب السميكة المفروضة عليها منذ الأجداد و الآباء.

أعتقد أننا بحاجة لكي نتمكن من تحقيق الأهداف الكلية لمجتمعاتنا إلى القيام بخطوتين أساسيتين، الأولى نقد الثقافة، حيث تكمن ضرورة تنظيفها من الشوائب و عوامل الركود حتى نتمكن لاحقا من تحقيق الخطوة الثانية ألا و هي بناء ثقافة قوية تتسم بروح النقد الذاتي في مناخ من الحريات و التسامح، هذه العملية يجب أن تستوعب كل الأبعاد الاستاتيكية في المجتمع، و الواقع أن الحاجة إلى النقد يحددها العقل بوصفها عملية مستمرة و دائمة في النظر في مجمل القضايا المهمة، الدينية و السياسية و الاجتماعية، كما يعززها المناخ العقلي الراهن و الذي يجعل الإنسان ناقدا متفحصا لا تابعا مذعنا.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان


.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_




.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال


.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس




.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال