الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المجتمع المدني في الفكر الاسلامي

وعد العسكري

2007 / 8 / 26
المجتمع المدني


من المعقولات الأساسيّة لكلِّ إنسان مهما تكن عقيدته وفكره السياسيّ والاجتماعيّ هو الايمان بالحرِّيّة والأمن والعدل والسّلام وتكافؤ الفرص والحقوق ومبدأ التعاون والتعايش .
فالانسان لو خُلِّي وعقله الطبيعي الفطري لما كانت هذه المبادئ إلاّ من المسلّمات الفطريّة لديه ، وأحكام العقل الطبيعي السّليم يتوافق عليها العُقـلاء بما هم عقلاء ; بغضِّ النظر عمّا يكون لديهم من عقل صناعي كوّنته التربية وعمليّات التحصيل والتجارب الخاطئة والمصيبة .
وقد بحث علماء الاسلام من متكلِّمين وفلاسفة واُصوليين وفقهاء مسألة العقل وأحكامه بشقّيها : العقل العملي ، والعقل النظري والسِّيرة العقلائية .. وما انتهى إليه الفكر الاسلامي في مدرسة الشيعة الإماميّة ( أتباع أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) عليّ وبنيه ) ، من الإيمان بأنّ ما يحكم به العقل يحكم به الشّرع ، وما يحكم به الشّرع يحكم به العقل تحت عنوان التحسين والتقبيح العقليين (الذّاتيين) بمعزل عن الشرائع والأديان .
فإنّ العقل يدرك بطبيعته ـ مستقلاًّ عن الشّرع ـ حُسن العدل والأمن والنِّظام والصِّدق والحُبّ والتعاون والحرِّيّة ، وقُبح الظّلم والفوضى والعدوان والاضطهاد ... إلخ .. وهو المسمّى في مصطلح الفلاسفة والمتكلِّمين بالعقل العمليّ ..
وهكذا نفهم أنّ المفاهيم الكلِّيّة للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الموصوفة بالحُسن والقُبح، مسألة يدركها العقل البشري ، بما هو عقل بشري ، بغضّ النظر عن العقيدة والمبادئ ، وهو يتطابق في إدراكاته مع الشّرع .. لذا فإنّ الكثير من المفاهيم الكلِّيّة لبناء المجتمع الّتي اصطلح عليها البعض بالمجتمع المدنيّ ، هي من مدركات العقل ; لذا فهي تتطابق مع أحكام الشريعة ، وحين يدخل العقل المكتسب ، أو العقل الصناعي ، الّذي كوّنته المعرفة النظرية المكتسبة من البيئة والتعاليم ... إلخ ; لتشخيص بعض المفاهيم ، يبدأ الخلاف ، كالقناعة بإلغاء دور الدولة ، واشتراط العلمانيّة ، وأمثالها .
ويزوِّدنا التأريخ بمثال رائع في مجال إدراك العقل البشري لما هو حَسن وقبيح ، وتطابق الشريعة معه ، وهو حلف الفضول الّذي اُسِّس في الجاهليّة قبل الاسلام لنصرة المستضعف والمظلوم من السّلطة المتحكِّمة في المجتمع آنذاك ، وإنقاذ حقّه .. فهو تحالف اجتماعي (مؤسّسة اجتماعية) لنصرة الحقّ والوقوف بوجه الظّلم ، والدِّفاع عن حقوق الانسان، والحفاظ على الأمن .. فشارك فيه الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عند عقده وإنشائه ، وأثنى عليه بعد مجيء الاسلام ، واعتبره إنجازاً عظيماً .
ومن هذا التقديم الموجز يتّضح لنا أنّ بناء مجتمع إنساني على اُسس المشتركات العقليّة هو من مدركات العقل، كما هو من مقرّرات الشريعة..
فالإسلام بنصوصه الشرعيّة وبدعوته إلى العمل بمشخّصات العقل الطبيعي السّليم يدعو إلى بناء مجتمع يسوده العدل والأمن والقانون وتكافؤ الفرص ، وتحفظ فيه حقوق الانسان وحرِّيّاته ، ويعمل أفراده ومؤسّساته على أساس التعاون .
والتشريع الاسلامي بطبيعته يفصل بين تقرير المبادئ وآليّات التنفيذ ، فهو مثلاً يدعو إلى حرِّيّة الانسان وسيادة القانون والتعاون والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر الّذي يُبرِز دور الاُمّة كقوّة سياسية واجتماعية إلى جانب دور الدولة .. ولكنّه لا يحدِّد اسلوباً معيّناً ، ولا يفرض آليّة خاصّة للتنفيذ; بل يدعو إلى أفضل الوسائل المُتاحة للإنسان المخاطَب . وعندما يجد الانسان أنّ أفضل وسيلة لتنفيذ تلك المبادئ والمفاهيم هي آليّة المؤسّسات الدستورية والسياسية والاقتصادية والاصلاحية لحماية حقوق الانسان وحرِّيّاته وصيانتها من اضطهاد السّلطة وتجاوزها على المبادئ والحقوق والقيم ..
والمؤسّسات الاجتماعية والثقافية والمهنيّة والسياسية ، سواء الدستورية والقانونية ، أو مؤسّسات حقوق الانسان والدِّفاع عنه أو الأحزاب والجمعيّات ... إلخ .. إنّما تقوم في الشريعة الاسلامية على مبدأين أساسين دعا لهما القرآن ، وهما مبدأ التعاون ، ومبدأ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر .
ولقد أوجب القرآن عمليّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في العديد من آياته ، كما دعا إلى التعاون على البرِّ والتّقوى ، واعتبر ذلك من الأعمال المقرِّبة إلى الله تعالى .

المجتمع المدنيّ في ظلِّ الاسلام
تفيد الدراسات والأبحاث العلميّة والملاحظة الميدانيّة، والإحساس الوجدانيّ أنّ الحالة الاجتماعية غريزة متأصِّلة في ذات الانسان ، فكما هو فرد يشعر بالأنا المستقلّة ، كذلك تشدّه غريزة الاجتماع إلى العيش مع الجماعة ، وتكوين الحياة الاجتماعية ..
فالفرد خُلِقَ ليعيش ضمن حياة جماعيّة ، وذلك لأنّ الأفراد المتكاثرين لا يمكن أن يعيشوا في إطار منظومة اجتماعية موحّدة .. تدفع الانسان إلى تلك الضرورة الدوافع الغريزية ، كما يدفعه إلى ذلك الاحساس بالحاجة إلى الجماعة وتبادل المنافع ..
ولقد تكوّنت حياة الانسان الفكريّة والحضارية والمدنيّة في ظلِّ المجتمع وفي إطار الجماعة، لأنّ ما لدى الانسان من حضارة وموجودات وعلوم وتقنيّة بشريّة هي نتاج التكامل بين الجهود والطّاقات والامكانات والخبرات والعقول البشريّة عبر تأريخ وجودها .
أي هي نتاج مبدأين أساسين ، كما يوضِّح القرآن ، هما :
1 ـ مبدأ التعاون ، 2 ـ مبدأ التسخير(()) .
ففي مبدأ التعـاون يبرز الاحساس بالوعي الاجتماعي ، كما يبرز العنصر الأخلاقي في مجاله الاجتماعي ، الّذي قد يعطي فيه الفرد ولا يأخذ ، أو قد يعطي ويأخذ ، فليس المنظور في التعاون حجم الرِّبح الشخصي، بل المنظور فيه صنع موضوع نافع وبنّاء عن طريق
التعاون، قد يشعر البعض فيه بالخسارة ، ولكن هذه الخسارة معوّضة تعويضاً .. ويشكِّل الايمان بالآخرة والجزاء الاُخروي المحفِّز الأكبر في سلوك الانسان المؤمن ، فهو ينفق ماله ويضحِّي بنفسه وراحته من أجل أن يكسب مرضاة الله سبحانه ، حسب الفهم الإيماني .. فالتعويض المادِّي يتلقّاه الفرد من المجتمع في هذه الحالة بطريقة غير مباشرة ، أي من غير عوض مباشر على جهده التعاوني الخاص بالموضوع المتعاوَن عليه، بل يتلقّاه من مواقع اُخرى من خلال وجوده الاجتماعي . فالمجتمع كما يأخذ منه بهذه اليد يعطيه بيد اُخرى . فهو يتلقّى من المجتمع الأمن والتربية والرّعاية وتوفير الخدمات التّي لم يبذل جهداً مباشراً فيها . فقد ولد في مجتمع مكتمل البناء : الطّرق والجسور والسدود والمدارس والأسواق والمغروسات والحيوانات والمصانع والمستشفيات وأرصدة الدولة ووسائل النّقل والعلوم والمعارف ... إلخ .. وكلّها جهود الآخرين لم يُشارك هو في تأسيسها ، بل ولدت قبله ، فوجد نفسه منتفعاً بها ووارثاً لها ..
وما أصدق الحكمة القائلة : «زرعوا فأكلنا ، ونزرع فيأكلون» .
وكم هو دقيق تصوير الشاعر العربي لتبادل المنافع حين قال :
الناس من بَدو ومن حَضر بعـ***ـض لبعض وإن لم يشعروا خدم
فالبناء الاجتماعي في حقيقته عبارة عن منظومة من العلاقات والمنافع المتبادلة .. قد تجسّد الكثير منها في مشاريع ومؤسّسـات اجتماعية كالاُسرة والسّوق والسّدود والمدارس والمحاكم والمستشفيات والبرلمان والحزب والسّلطة والقانون والجمعيّة والشركة والمصنع ... إلخ .
لذا نجد القرآن يدعو إلى التعاون بقوله :
(...وَتَعاوَنُوا على البِرِّ والتّقْوى وَلاَتَعاوَنُوا عَلى الإثْمِ والعُدْوان... ).( المائدة / 2 )
ويشرح مبدأ التسخير بقوله :
( ... وَرَفَعْـنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجات لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّا ... ). ( الزّخرف / 32 )
ليوفِّر الوعي المدني والاجتماعي للإنسان ، فيفهم أنّ الحياة الجماعيّة حياة تكامليّة ، وأنّ اللِّياقات والقابليّات والجهود مختلفة .. وهي عندما تتفاعل وتتبادل يحصل التكامل .
فالحياة الاجتماعيّة والشكل المدني المتحضِّر للمجتمع هو عبارة عن وحدة متكاملة من الجهود والمواقف السلوكيّة ، يختار الانسان آليّات التنفيذ المناسِبة للظّروف والإمكان والمرحلة ومستوى الحياة الاجتماعيّة التي يحياها الانسان .

الآليّات والمبادئ
وينبغي أن نوضِّح أنّ منهج بناء الفرد والاُسرة والمجتمع والدولة يقوم على عنصرين أساسين هما :
1 ـ القيم والمبادئ : والمتكوِّنة من العقيدة القرآنية والقانون والأخلاق العمليّة ، وما استبطنت العبادات من آثار سلوكيّة في عالم الانسان . كدور الصّلاة في تقويم سلوك الانسان الّذي عبّر عنه القرآن بقوله : (إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) . وكآثار الصّوم في التربية الاجتماعية وتهذيب المشاعر الانسانيّة .
2 ـ آليّات تنفيذ القانون والسّلوكيّة التي تدعو إليها العقيدة والأخلاق والعبادات ... إلخ . وكما هو واضح فإنّ الآليّات والأساليب والوسائل الّتي ينفِّذ بها الانسان السلوكية المطلوبة في شتّى مجالاته ، الحقوقيّة والقضائيّة والسياسيّة والأمنيّة والثقافيّة والفكريّة والاقتصاديّة والخدميّة ... إلخ ، متطوِّرة ومتجدِّدة ـ حسب ظروف الانسان العلمية والتقنيّة ومستوى وعيه الحضاري والثقافي .. والاسلام يريد تحقيق المبادئ ، أمّا الآليّة واُسلوب التنفيذ ، فالإنسان هو الّذي يختار الآليّة والاسلوب المناسبين، شريطة أن لايدخل فيها مبدأ الغاية تُبرِّر الواسطة، فالواسطة والآليّة فعل وسلوك إنسانيّ يخضع بدوره للقيم والقانون .
وهكذا نجد المجتمع الّذي يريد الاسلام بناءه تثبت فيه القيم والمبادئ ، وتتغيّر الآليّات والأساليب . ولنضرب لذلك عدداً من الأمثلة :
دعا الاسلام إلى الشورى واحترام رأي الاُمّة . وأوجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، ولم يحدِّد آليّة معيّنة للتنفيذ ، بل ترك ذلك للمكلّف نفسه . وللمجتمع أن يختار المؤسّسات المناسبة للشّورى التي تُشارك من خلالها الاُمّة السّلطة في الرّأي وتمارس عمليّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في مجالها السياسي . فتؤسِّس (البرلمانات) كمؤسّسة سياسية لها صلاحيّات إبداء الرأي والنّقد والمشاركة في رسم السياسة العامّة للدولة والمحاسبة على أساس مبدأي الشورى والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والمسؤولية التضامنية العامّة التي صرّح بها الكتاب والسنّة المطهّرة ، قال تعالى :
( ... وَأَمْرُهُم شُورَى بَيْنَهُم ... ). ( الشّورى / 38 )
(والمُؤْمِنُون والمُؤْمِـنات بَعْـضُهُم أوْلياءُ بَعْض يأمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهُونَ عَنِ المُنْكَر ... ). ( التّوبة / 71 )
ورُوي عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله :
«أفضلُ الجهاد كلمةُ حَقٍّ عندَ سُلطان جائِر» .
«كُلّكم راع وكُلّكُم مَسْؤُولٌ عَن رَعِيَّتِه» .
ومن المبادئ الأساسيّة في التشريع الاسلامي ، إعطاء الاُمّة دوراً واسعاً في تنفيذ المبادئ والإصلاح الاجتماعي والاقتصادي ، ولم يحدِّد آليّة محدّدة للتنفيذ ، فاختار المسلمون لتنفيذ ذلك
مشروع اُسلوب الحسبة .. ومشروع الحسبة هو مؤسّسة اجتماعية شعبيّة تقوم بجانب من مهام الدولة ; كمراقبة الأسواق من حيث الأسعار والموازين وأخلاق السّوق والنظافة ، كما لها أن تُراقِب سلوك موظّفي الدولة . منطلقة من مبدأ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.. وبعد تطوّر ظروف المرحلة ، ينبغي أن يطوِّر نظام الحسبة كمؤسّسة مدنيّة ، تؤدِّي جانباً كبيراً من مهام الدولة ، وتعمل على تنفيذ المبادئ .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة المياه تهدد حياة اللاجئين السوريين في لبنان


.. حملة لمساعدة اللاجئين السودانيين في بنغازي




.. جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في ليبيا: هل -تخاذلت- الجن


.. كل يوم - أحمد الطاهري : موقف جوتيريش منذ بداية الأزمة يصنف ك




.. فشل حماية الأطفال على الإنترنت.. ميتا تخضع لتحقيقات أوروبية