الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثنائية المزيفة: إما حكم الأغلبية...وإما حكم الأقلية

فهد راشد المطيري

2007 / 8 / 25
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ضمن المغالطات المنطقية في علم المنطق، هناك مغالطة تعرف باسم «الثنائية المزيفة» أو false dichotomy، والسبب في زيف هذه الثنائية هو أنها تجبرنا على الاختيار بين خيارين اثنين فقط، مع تجاهل وجود خيارات أخرى محتملة. مثلا، عندما وجّه الرئيس الأميركي الحالي خطابه إلى العالم بأسره قائلا «إما أن تكونوا معنا، وإما أن تكونوا ضدنا»، تجاهل الرئيس وجود خيارات أخرى، مثل خيار التزام الحياد، أو حتى خيار عدم الاكتراث بأحداث الحادي عشر من سبتمبر برمتها، وبدلاً من أن ينبه «بن لادن» الرئيسَ الأميركي لهذا الخلل المنطقي، راح يحذو حذوه مرتكباً الخطأ نفسه من خلال ثنائية «فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان»! أريد من خلال هذا المقال التطرق إلى إحدى الثنائيات المزيفة، وهي ثنائية تجبرنا على الاختيار بين اثنتين: إما الديموقراطية (حكم الأغلبية) وإما الأوتوقراطية (حكم الأقلية).

لو نظرنا إلى الصراع الدائر منذ عقود من الزمن بين تيارات الإسلام السياسي وبعض الأنظمة الشمولية، نجد أن كلا الطرفين يحتكم إلى ثنائية مزيفة تختلف صيغتها باختلاف المصدر، فبالنسبة إلى الجماعات الإسلامية، تتخذ هذه الثنائية الشكل التالي «إما الحرية، وإما العبودية»، أما في حالة الأنظمة الشمولية، فإن الثنائية تكون على النحو التالي «إما الشدة، وإما الفوضى»! لو عقدنا مقارنة سطحية بين هاتين الصيغتين، لأصبح في إمكاننا القول إن الخلاف بين الطرفين لا يعدو أن يكون اختلافاً في المفاهيم، فالحرية والعبودية بالنسبة الى طرف ليستا سوى فوضى وشدة بالنسبة الى طرف آخر! ما سبب هذا الاختلاف في المفاهيم؟ يشترك كلا الطرفين في هدف الاستيلاء على السلطة، لكن خطاب كل منهما موجه إلى جهة مغايرة، فمن خلال شعار «إما الحرية وإما العبودية» تهدف التيارات الإسلامية إلى استمالة الشعوب العربية لمصلحتها، وعن طريق شعار «إما الشدة وإما الفوضى» تحرص الأنظمة الشمولية على إقناع المجتمع الدولي بأهمية بقائها على رأس السلطة! لو صرفنا النظر عن طموح كلا الطرفين في الوصول أو البقاء في السلطة، لوجدنا أن كلا الشعارين السابقين ينتميان إلى نفس الأصل، وهو أصل يشير إلى الثنائية المزيفة التالية «إما حكم الأغلبية، وإما حكم الأقلية». لكن هل نحن فعلا أمام خيارين لا ثالث لهما؟

كي نجيب عن هذا السؤال بطريقة موضوعية، دعنا أولا نختبر حجة كل طرف في الترويج لشكل الحكم المرغوب فيه، ولنبدأ بحرص التيارات الإسلامية على التمسك بالديموقراطية والاحتكام إلى رأي الأغلبية. لا يُخفي الكتّاب والباحثون الإسلاميون إعجابهم بالديموقراطية الغربية، فالانتخابات النزيهة والتداول السلمي للسلطة ومحاسبة السلطة التنفيذية هي من بين الأمور التي يرغب الإسلاميون في تطبيقها في بلادهم، ومنهم من يتواضع فيعترف بالأصل الغربي لهذا النموذج السياسي، ومنهم من يكابر فيبحث عن جذور له في التراث الإسلامي!

لكن هناك أمر مهم غفل عنه الإسلاميون في بلادنا، فعلى الرغم من أن الديموقراطية تعتبر شرطاً ضرورياً في نجاح النموذج السياسي الغربي، فإنها لا تعد شرطاً كافياً لهذا النجاح. لقد وصل «هتلر» إلى رأس السلطة عن طريق صناديق الاقتراع من خلال انتخابات نزيهة وضمن إطار ديموقراطي لا غبار عليه، وكلنا يعلم حجم الدمار الذي لحق بالعالم بأكمله بعد تسلم الحزب النازي السلطة في ألمانيا. بوسعنا أن نصف «هتلر» بكل الأوصاف الشنيعة، لكننا لا نستطيع أن ننكر أنه كان نتاجا للديموقراطية! بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، تعلم الأوروبيون الدرس، ولقد كان درساً قاسياً سبقهم الأميركيون في تعلمه بقرنين من الزمن، وهو أنك لا تستطيع أن تفصل الحقوق السياسية عن الحقوق المدنية، فكلاهما مكمل للآخر، فالنظام الديموقراطي لابد أن يرتكز على ليبرالية دستورية تضمن حق الأفراد في الحياة والتعبير عن الرأي والمعتقد، فمن دون هذه الضمانات لاشيء يستطيع كبح جماح الأغلبية وتعديها على حقوق الأقلية باسم الديموقراطية!

من الضروري التفريق بين الديموقراطية والليبرالية الدستورية من حيث وظيفة كل منهما، فبينما تكتفي الديموقراطية بتحديد هوية مَن يحكم، تختص الليبرالية الدستورية بوضع قيود على آلية الحكم، وهي قيود تهدف إلى حماية الحقوق الأولية للفرد بصرف النظر عن هوية من يمسك بزمام السلطة. المشكلة الأساسية في وصول حزب إسلامي إلى السلطة تكمن في أن أيديولوجية هذا التيار تتعارض مع أبسط مبادئ الليبرالية الدستورية، مثل حريات التعبير والاعتقاد والملكية والمساواة أمام القانون وفصل الدين عن السياسة. هذا يعني أن وصول حزب إسلامي إلى السلطة لايشكل خرقاً للديموقراطية، بل انتهاكاً لمبادئ الليبرالية الدستورية. حرص التيارات الدينية على الاحتكام إلى رأي الأغلبية يتضمن دعوة مشروعة إلى ضمان حقوق الفرد السياسية، ولكنها دعوة تصرف النظر عن حقوقه المدنية. من هنا نستنتج أن «حكم الأغلبية» لا يعد الخيار الوحيد في مقابل خيار «حكم الأقلية»، فهناك حكم للأغلبية مشروط بضمانات المحافظة على حقوق الفرد المدنية، وهناك حكم للأغلبية لايعترف بهذه الضمانات!

نأتي الآن إلى الطرف الآخر من الثنائية المزيفة، وهو «حكم الأقلية». تستمد الأنظمة الشمولية مشروعيتها في البقاء على رأس السلطة من خلال رسالة بسيطة المضمون وموجهة إلى المجتمع الدولي، وفحوى هذه الرسالة هي أن «البديل الديموقراطي» سيؤدي إلى نتائج أكثر خطورة! منطقياً، هذه الحجة تقدم تفسيراً لغياب الحريات السياسية، ولكنها لاتفسر السبب وراء غياب الحريات المدنية، ذلك أن الضرورة، في أي أوتوقراطية (حكم الأقلية)، تتعلق فقط بغياب الديموقراطية، ولاترتبط بمسألة وجود أو عدم وجود ليبرالية دستورية. هناك بلدان غير ديموقراطية يتمتع سكانها بحريات مدنية تفوق بكثير مستوى الحريات في دول أخرى ديموقراطية، ولعل «هونغ كونع» هي المثال الأبرز لهذا النوع من البلدان. من هنا نستنتج أن «حكم الأقلية» لايعد الخيار الوحيد في مقابل خيار «حكم الأغلبية»، فهناك حكم لأقلية تنتهك الحقوق السياسية للفرد من دون الإضرار بحقوقه المدنية، وهناك حكم لأقلية لاتتورع عن انتهاك كلا النوعين من الحقوق!

على ضوء ما تقدم، يصبح من المنطقي القول إن ثنائية «إما حكم الأغلبية وإما حكم الأقلية» تشير إلى ثنائية مزيفة، والسبب في زيف هذه الثنائية يكمن في استبعادها لإمكان وجود ليبرالية دستورية كأساس لنظام ديموقراطي أو حتى أوتوقراطي. إن قبول الفرد هذه الثنائية المزيفة يعني بكل بساطة التنازل عن حقوقه المدنية، فهذه الثنائية بشقيها لاتتضمن هذا النوع من الحقوق! يبقى هناك سؤال مهم: ما السبب في طغيان هذه الثنائية المزيفة وانتشارها في المحيط السياسي العربي على وجه الخصوص؟

هناك علاقة تصادم بين الأنظمة العربية الشمولية وتيارات الإسلام السياسي، ولعل أبرز ما يميز هذه العلاقة بين الطرفين هو الحقيقة التالية: كلما زاد مقدار القوة عند طرف، زادت مشروعية الطرف الآخر! قسوة الدكتاتور العربي على الجماعات الإسلامية تزيد من مقدار التعاطف الشعبي مع هذه الجماعات، وبروز شوكة التيارات الإسلامية يوفر الأرضية المناسبة التي تستمد من خلالها الأنظمة الشمولية مشروعيتها الدولية. إن حيوية هذه العلاقة المتبادلة بين التيارات القومية والتيارات الإسلامية، رغم مرور أكثر من نصف قرن على نشوئها، تقف في وجه كل مشروع إصلاحي حقيقي يهدف إلى بناء مجتمع مدني على الخارطة العربية، ويبدو أننا مازلنا ندفع ضريبة استبدال حكومة «الطرابيش» بحكومة «البزات العسكرية»!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي


.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ




.. المسيحيون الأرثوذوكس يحيون عيد الفصح وسط احتفالات طغت عليها


.. فتوى تثير الجدل حول استخدام بصمة المتوفى لفتح هاتفه النقال




.. المسيحيون الأرثوذكس يحتفلون بعيد الفصح في غزة