الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافتنا العربية أمام خيارين التحول أو التلاشي

مهدي بندق

2007 / 8 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يؤكد كتاب كثرُ من أصحاب الثقافة غير العلمية على ضرورة التمسك بالثوابت، في عصر أميز ما فيه تلك السيولة الكونية التي تعصف بكل ما هو كلاسيكي، ونيو كلاسيكي، بما في ذلك مفاهيم الحداثة الأوروبية ذاتها. الفلسفات التأملية لم تعد السبيل لبلوغ الحكمة (ماركس) ونتائج العلوم أقرت بأنها لا تكون علمية إلا بقدر قابليتها للتخطئة والتجاوز (كارل بوبر) والمحكيات الكبرى كالليبرالية والاشتراكية صارت محض ألعاب لغة، فدُفع بها داخل كتب التاريخ (فرانسوا ليوتار) وحتى الطبيعة الإنسانية تعرضت للتغيير والتبديل الكثيف جراء اكتشاف خريطة الجينوم H. Genome، ونجاح عمليات الاستنساخ.
والحق أن القول بطبيعة إنسانية ثابتة لا تتغير إنما هو قول يجافي الواقع التاريخي والبيولوجي، أولاً باعتبار النوع الإنساني مجرد فرع على غصن الثدييات العليا في شجرة الحياة، وثانياً لأن أفراد هذا النوع الإنساني جرت على طبائعهم عديد من التعديلات عبر مليون من السنين، بما لا يسمح بوضع أشباه الإنسان، وقبائل نياندرتال وجاوة وبكين داخل نفس الدائرة التي تضم الإنسان البدائي Homo Sapiens، وإنسان الحضارات القديمة، وإنسان القرون الوسطى، وإنسان العصر الحديث، وحتى هؤلاء فالتمايز بينهم ملحوظ بالأقل في المستوى الثقافي قل في الميمات الثقافية المورثة Cultural Memes، فالقدماء مثلاً لم يكن يجدون غضاضة في استرقاق بعضهم بعضاً، وأناس القرون الوسطى –باختلاف أقوامهم وعقائدهم وديانتهم- لم يجدوا خطأ في احتلال أراضي الغير بالقوة، وإجبار هذا الغير المهزوم على سداد الجزية، فضلاً عن التفرقة القانونية بين الذكور والإناث. أما رجال ونساء العصر الحديث فينطلقون من مبادئ ميثاق حقوق الإنسان التي تساوي بين الجميع أمام القانون، وتجرم الرق، وتحرم ضم أراضي الدول التي تخرج من الحروب مهزومة.
وهكذا يمكن القول بان ما يسمى بالطبيعة البشرية إنما هو تعبير مثالي فضفاض ليس له مدلول في الواقع التاريخي، وربما كان الأفضل القول بأن الإنسان هو أقرب الكائنات إلى تمثيل التبدل في الطبيعة.
وبالتوازي فإن الزعم الفلسفي التأملي القديم بأن "الحقيقة" موجودة فيما وراء المظاهر، وما علينا إلا "التفكير" لكي نصل إليها؛ هذا الزعم عكرت عليه، بل ومحته تقريباً مكتشفات الفيزياء الحديثة، تلك التي أرغمت الفلسفة على التنازل عن عرش "الحكمة"قناعة منها بدور التابع المفسر لمعارف العلم المُتسمة بالتراكم، والمراجعة، والحذف، والإضافة .. الخ.
ربما يقول البعض: ولكن ثمة جوهر لا يتغير في البشر، يتبدى في استغلال السادة للعبيد، والإقطاعيين للأقنان، والرأسماليين للأجراء.
وهي عبارة صحيحة شريطة أن نحذف منها كلمة "الجوهر الذي لا يتغير" فالتغير واضح في العبارة ذاتها، بتغير المستغـِلين (بالكسر) والمستغـَلين (بالفتح) الأمر الذي يرشح نفسه لإمكانية التغيير بنفي هذه الثنائية الشريرة في مستقبل قريب أو بعيد. والحاصل أن التاريخ البشري قد عرض علينا حتى الآن تمظهرات لعلاقات القوة بين البشر قامت على ما أسماه هيجل بنزعة تكريم الذات Thymos وطورها ماركس إلى حب الملكية، وليس فيما جرى ما يدعونا إلى التيقن من استمرار هذا الانقسام الحاد بين الأنا والآخر؛ وإلا لسقطنا في هوة الإيمان الغيبي بجبرية مطلقة Pre-Destination يكذبها مبدأ التشتت الفيزيائي Entropy الذي لا يبقي ولا يذر. وهذا يعني أن على البشر البحث عن وسائل للعيش معاً في تعاون وسلام قبل أن تحل ساعة الانقراض لهم ولكوكبهم، ولكونهم الحالي بأسره، ربما تمهيداً لميلاد أكوان أخرى ذات "طبيعة" مغايرة.
ذلك محتمل بالنسبة للإنسانية بوجه عام. وسؤالنا الأشد تواضعاً في هذا المقام إنما ينصرف إلى مصير ثقافتنا العربية، تلك التي يتمسك البعض بما يتصورون أنه من ثوابتها. وهنا لابد لنا من الوقوف بحزم أمام خيارين لا ثالث لهما.
الأول : أن نظل ثابتين جامدين عند مرحلة تاريخية كان المجد فيها للفتوحات العسكرية، والاقتصاد مؤسساً على الخراج، والحياة الاجتماعية تفاضل بين الذكور والإناث، وبين السادة والعبيد، وبين الحرائر والجواري، والحياة السياسية حكرا ً على الخلفاء والسلاطين والولادة وقادة الجيوش،بينما الشعب في مواقع الرعية.
الثاني : أن نأخذ بأسباب التحول إلى ثقافة عصرية، تقوم على مبدأ الإنتاج، باعتبار أن مصدر الثروة هو العمل على الأرض، وليس انتظار الرزق من السماء، وتقوم كذلك على مساواة الناس أمام القانون، لا فرق بين رجل وامرأة، مسلم أو مسيحي أو يهودي، ثقافة تنهض وتؤسس على مبادئ الديموقراطية التي تجع الشعب مصدراً لكل سلطة ولكل تشريع، تفصل ما بين الدين (الذي هو مجلى إيماني للأفراد والجماعات) وبين الدولة (التي هي شخص اعتباري محايد وغير منحاز بالضرورة) فذلك هو السبيل الوحيد للانخراط الحي في المجتمع الدولي أخذاً وعطاءاً، تأثراً وتأثيراً.
أما اختيار السبيل الآخر فلا ريب مؤد إلى الاختفاء والانقراض، ولنراجع معاً مؤرخنا العظيم عبد الرحمن بن خلدون، بله بول كينيدي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكثر من 1000 وفاة في الحج .. والسعودية تؤكد أنها لم تقصر • ف


.. الحوثي يكشف عن سلاح جديد.. والقوة الأوروبية في البحر الأحمر




.. النووي الروسي.. سلاح بوتين ضد الغرب | #التاسعة


.. مخاوف من انزلاق المنطقة إلى صراع إقليمي يمتد بين البحرين الأ




.. نشرة إيجاز - استقالة أعلى مسؤول أمريكي مكلف بملف غزة