الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سلطة الله وسلطة البشر

مهدي النجار

2007 / 8 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ليس من الصعب ان نصل الى نتيجة مفادها ان اهم ضربة موجعة وجهت للدين الاسلامي وكذلك لانسان المجتمعات الاسلامية هي خلط الحدود بين سلطة الله وسلطة البشر، بين ما لله وما للانسان. منذ تلك اللحظة التي بدأت الفئات الاجتماعية تُقنَّع نفسها بقناع الدين وتتكلم باسم الله ونيابة عنه لكي تُرهب خصومها وتتوصل الى اهدافها السلطوية بفعالية اكثر، تاركة خلفها الجوهري والانساني في لب الديانات ومغلبة بنشاط فعال الدنيوي على الروحي، والمادي على الرمزي ،والتكتيكي النفعي على الاخلاقي،ماخوذة بهوس الاستحواذ على السلطة والمحافظة عليها او اعادة اقتناصها ومن هنا قَََلبت المعادلة ولم تجد في الدين غير اداة للتوصل الى ماربها وتحقيق رغباتها وطموحاتها، هذا الامر لا ينطبق على اهل الاسلام وحدهم فالمحطات التاريخية الكبرى تشير الى ان اغلب المجتمعات مرت بمرحلة خلط الحدود بين ماهو الهي وماهو بشري من ناحية ممارسة السلطة، فقد عاشت المجتمعات الاوربية طيلة ثمانية عشر قرناً في التباس عنيف بين السلطتين تمخضت عنه تعصبات وانتهاكات دامية ومزرية وكانت قد تزايدت اجراءات وقوانين الاضطهاد بدخول العصور الوسطى، صار للحكام دور ديني الى جانب دورهم السياسي، مما ادى الى الصراع الحاد بين الباباوات والاباطرة، صراعاً كان يزايد فيه كل طرف في الاضطهاد لينال مزيداً من التاييد والرضى الشعبي و توج اخيرا هذا الاضطهاد بقرار اصدره الامبراطور فريدرش الثاني يقضي بموجبه احراق المتهمين بالهرطقة من المسيحيين، واحراق اهل الديانات الاخرى من المسلمين واليهود وقد ايد وبارك هذه القرارات مجمع الباباوات وقام بتنفيذها كما هو معروف "ديوان التفتيش" ابتداءً من اواخر القرن الثاني عشر. من كان يتصور ان ذلك النظام الديني باكراهاته القسرية التي كانت تضغط على المجتمع بصورة خانقة قد ينزاح عن وجهها لكي يحل محله النظام الجمهوري الحديث، و لزم فرنسا (على سبيل المثال) مدة مائتي عام من النضال العنيد والجهد المتواصل حتى استطاعت تشكيل مجتمع مدني يتجاوز الالتباس بين سلطة الله وسلطة البشر ويصدر عن الثورة الفرنسية(عام1789) الاعلان الشهير لحقوق الانسان والمواطن، الا ان الغريب في الامر بان الكنيسة لم تعترف بهذا الاعلان الا عام 1961 في عهد البابا يوحنا الثالث والعشرين، اي بعد مرور اكثر من مائة وسبعين عاماً على صدوره. يمكن ان نشير في التاريخ الاسلامي بان التوارث العائلي في الحكم الذي حدث ليستمر من سنة660 ميلادية وحتى سنة 1258 ، اي منذ نشوء الدولتين الاموية والعباسية لغاية انهيارهما هو تاريخ اضطراب العلاقة بين سلطة الله وسلطة البشر وتجيير الاولى لصالح الثانية، بمعنى ان السلطة الارضية باشكالها المختلفة اصبحت هي من يمثل السلطة السماوية وينوب عنها ويتحدث باسمها، من الان فصاعداً حل الحاكم محل الخالق واصبح ما يفعله او يامر به هو مشيئة الاهية تخضع للمعصومية وللقداسة وللاحتكار وقد نشط الفقه الرسمي الكلاسيكي في تكريس تلك المفاهيم وابدع في تضييع المعالم والاختلافات بين سلطة الرب وسلطة الحاكم العبد بحيث انمحت الفواصل والحدود، فالحاكم كما رب العزة [ لايُسال عما يفعل وهم يسالون] ورسخ الفقهاء في اذهان الجمهور حرمة كلا السلطتين وقداستهما فمن يخرج على اي منهما يخرج على الدين ويقام عليه الحد،ونستطيع ان نقرأ هذا المعنى في التاسيس النيابي ( نائب عن الله) الذي شرعه اول خليفة اموي معاوية بن ابي سفيان (ت 680 ميلادية) واعتبر (كما في المراسيم الملكية والجمهورية المعاصرة) السلطة هبة من الله. نقل عنه انه خاطب العراقيين، بعد تمكنه من الامر وبسط يده على الكوفة، بالقول: " يا اهل العراق اترونني قاتلتكم على الصيام والصلاة والزكاة، وانا اعلم انكم تقومون بها! وانما قاتلتكم على ان اتأمر عليكم، وقد أمَّرني الله عليكم ... انما انا خازن من خزان الله،اعطي من اعطاه الله، امنع مَنْ منعه الله" ( القاضي عبد الجبار/فصل الاعتزال) وقال مثل ذلك ثاني خليفة عباسي ابو جعفر المنصور (775 ميلادية) مخاطباً المسلمين في موسم الحج: "ايها الناس، انما انا سلطان الله في ارضه، اسوسكم بتوفيقه وتسديده، وتاييده وتبصيره، وخازنه على فيئه. اعمل فيه بمشيئته، واقسمه بارادته، واعطيه باذنه.قد جعلني عليه قفلاً، اذا شاء ان يفتحني لاعطائكم وقسم ارزاقكم فتحني، واذا شاء ان يقفلني عليها اقفلني..." (ابن قتيبة/عيون الاخبار).
كان احتجاج الجماهير الاسلامية ورد فعلها قوياً على ممارسة الحكام الجائرة واحتكارهم للسلطة وانتهاكهم لحقوق الله وحقوق الانسان فشرعت تنخرط في تيارات عنفية وتنظيمات دموية متطرفة ( الخوارج/ الزنج/ القرامطة/ ....) الا انها هي الاخرى زعمت باحقيتها في تمثيل سلطة الله على الارض وانها خير من يمثله وينطق باسمه ويحقق عدالته، واذا اختزلنا سريعاً تاريخ القرون الوسطى وانتقلنا الى المعاصرة فسنجد نفس الشعارات


والمفاهيم ترفعها وتنتهجها تنظيمات اصولية وحركات اسلاموية متطرفة زاعمة بانها هي وحدها من يمثل حكم الله وينطق باسمه وبهذا المعنى يقول سيد قطب : "ان هناك حزباً واحداً لله لا يتعدد واحزاب اخرى كلها للشيطان والطاغوت " (معالم في الطريق) . خلاصة ذلك ان فئات اجتماعية من داخل المجتمعات الاسلامية (سواء من العائلات الحاكمة او من الجماهير) تنظم نفسها في نشاط محموم لتصارع الله في انتزاع سلطته على البشر وتمنح لنفسها صلاحياته في حين نجد ان الفصل بين السلطتين (سلطة الله وسلطة البشر) قد توضح في القران، الكتاب التاسيسي للاسلام اوضح ما يكون من جميع الكتب السماوية، فهذه الاية الكريمة وحدها تضع الحد الفاصل بين السلطتين: [ فانما عليك البلاغ وعلينا الحساب] الرعد/40
فاذا كان الباري سبحانه وتعالى لم يخّول حتى نبيه العزيز صلاحية مساءلة الاخرين وحسابهم او معاقبتهم واتخاذ الاجراءات الرادعة ضدهم، فكيف يتسنى للاخرين الالتفاف حول هذا النص البين، المحكم وسحب صلاحيات الله ومنحها لانفسهم الا انه وكما يردد حسن حنفي دائماً : " دخل اللصوص فسرقوا النصوص "، ناهيك عن ان الكتاب الكريم ما برح بين حين واخر على طول صفحاته وعرضها يُذكر الناس من خلال تذكير النبي بحدود سلطاتهم الدنيوية/الارضية وفصلها عن سلطة الله الاخروية/ السماوية:
[ فانما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ] البقرة/20
[ قُل انما انا منذرٌ وما من اله الا الله الواحد القهار] ص/56
[ ما على الرسول الا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ] المائدة/99
[فان اعرضوا فما ارسلناك عليهم حفيظا ،ان عليك الا البلاغً ] الشورى/48
[ قُل لست عليهم بوكيل ] الانعام/66
[ افانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ] يونس/99
[ انما انت نذير والله على كل شئ وكيل ] هود/12
[ربكم اعلم بكم ان يشأ يرحمكم او ان يشأ يعذبكم وما ارسلناك عليهم وكيلاً ] الاسراء/45
[ وما انت عليهم بجبار ] ق/45
[ فذكر انما انت مذكرٌ. لست عليهم بمسيطر] الغاشية/21، 22




من المعلوم ان المناقشات حول سلطة الله وسلطة البشر كانت قد شغلت كل الفقه الاسلامي (الفقه الرسمي والفقه المعارض ) وحاول منذ تاسيسه ان يدمج بين سلطتين يصعب الدمج بينهما ومن هذا نقل مجال الصراع من معركة بين البشر والبشر الى معركة بين البشر والله ثم نتج عن ذلك الالتواء والشطط وظهرت الملل والفرق والمذاهب التي انغلقت كل واحدة منها داخل تفسيراتها وتجلياتها وفِهمها واعتبرت كل التاويلات والتفسيرات بمثابة الضلال او الانحراف. ما زالت المجتمعات الاسلامية في وقتنا الراهن تعاني من هذا الالتباس الحاد الذي تغذيه وتُنشطه جماعات رسمية واخرى معارضة ولانه يشكل عقبة كاداء في طريق تطور هذه المجتمعات وازدهارها من حيث ان التطور والخروج من فضاءات القرون الوسطى لن يحدث اذا لم تبحث سلطات هذه المجتمعات عن شرعية مدنية لحكمها تستحصلها من الناس انفسهم غير تلك الشرعية الزائفة التي تزعم حصولها من سبحانه وتعالى وان تسعى لتاسيس مجتمع مدني معاصر وحقيقي يتجاوز الصراعات الدينية و المذهبية ويخضع لاعلان حقوق الانسان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تأييد حكم حبس راشد الغنوشي زعيم الإخوان في تونس 3 سنوات


.. محل نقاش | محطات مهمة في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية.. تعرف ع




.. مقتل مسؤول الجماعية الإسلامية شرحبيل السيد في غارة إسرائيلية


.. دار الإفتاء الليبية يصدر فتوى -للجهاد ضد فاغنر- في ليبيا




.. 161-Al-Baqarah