الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكتابة عن الموت.. الحنين إلى الرحم الأول والملاذ الأخير

سعدون محسن ضمد

2007 / 8 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كلما قرأت في علم الإنسان أكثر اكتشفت سلطة الثقافة الإنسانية وهيمنتها أكثر. فلهذه الثقافة سلطة على كل شيء، بدءا من نفس الإنسان ووصولاً إلى الأشياء الطبيعية، التي لم تخلص حتى من سلطة الثقافة الإنسانية. القمر مثلاً، بالنسبة لهذه الثقافة لم يعد مجرد كتلة صخرية سابحة في الفضاء، بل تحول لإله يُعْبَد، أو لرمز خاص بالجمال، أو لساعة يتم ضبط الزمن وفق حركتها الشهرية.
الموت هو الآخر كان ولا يزال موضوعاً لسلطة الثقافة وتشويهاتها، وهو بالتالي ضحية من ضحايا الإنسان، وخاصَّة ثقافته البدائية أو الأولية، تلك الثقافة التي كانت وليدة التجربة الإنسانية في زمن كان الوعي فيه يسبح على بحر هائل من الخيالات والأوهام والأساطير والمخاوف. فتلك الثقافة سلَّطت على الموت مخاوفها حدَّ أنها خلقت منه بوابة سوداء ووحشاً هائلاً وممراً مظلماً مليئاً بكل ما هو مخيف وبشع ولا يطاق.
لكن هل يمكن للموت أن لا يكون كذلك؟
مبدئياً لا بد من الإنطلاق من حقيقة أن الموت ممارسة أو فعالية طبيعية لا تختلف عن بقية الفعاليات الأخرى.. فالولادة وبوصفها فعالية طبيعية حتمية كما الموت، تجري على كل الموجودات كما يفعل هو، كل شيء يولد بصورة ما وبشكل اضطراري ودون خيارات. النملة، الذبابة، الحمار، الإنسان، الجبال، البحار، المجرات... الولادة فعل طبيعي أزلي.. النمو والتطور أيضاً فعّاليتان حتميتان وطبيعيتان. التحول الذي يجري على الكثير من موجودات الطبيعة أيضاً فعالية، تحول الماء إلى جليد أو بخار أو إنـحلاله إلى هواء أو تفكك التربة إلى عناصرها الأولية كذلك. كل هذه الفعاليات طبيعية حالها حال الموت، فلماذا كان الموت هو الفعّالية الوحيدة الموحشة من بينها كلها.
موت الذبابة ليس له وجه مخيف بالنسبة لنا، وحتى بالنسبة لها أغلب الظن، والفراغ الذي يتركه غيابها هو الآخر غير موحش، فلماذا موتنا يكون كذلك؟ ثم ومن جهة أخرى لماذا كلما كان الكائن أقرب إلى الإنسان كان موته بشعاً أكثر؟ فموت حيوان الحقل أكثر إيلاماً للفلاح من موت الحيوانات التي لا تهمه، كما أن موت الحيوانات التي تضره يسبب له الفرح.
إذن فبشاعة الموت نسبية ومرتبطة بالإنسان، والإنسان هو المتحكم ببشاعة الموت والمتسبب الوحيد لها. وهذا التحكم وتلك النسبية لها مصدر واحد هو ثقافة الإنسان فأغلب الظن أن الإنسان القديم والذي كان ينتقل على شكل قطيع لم يكن يُقيم طقوس الدفن بالشكل الذي فعلناه بالعصور المتأخرة ونفعله الآن.. ربما لأنه لم يكن يحفل بالموت أصلاً.
الموت (البشع) حقيقة إنسانية ثقافية لا وجد لها في الواقع. والذي يحدث في الواقع هو فقط حادث الموت أو فعّاليته الطبيعية، والتي يتساوى فيها الإنسان مع الذئب مع البعوضة مع الذبابة مع الفايروس فكل هؤلاء يموتون في نهاية المطاف، وإذا أردنا أن نكون موضوعيين فعلينا أن نتعامل مع موت الإنسان بنفس كيفية تعاملنا مع موت الذبابة، بمعنى: أننا إذا اعتبرنا بأن موت الذبابة لا يعني بالضرورة عبورها لعالم آخر فعلينا أن نـحكم على موت الإنسان بنفس الحكم.. والعكس صحيح. وإذا كان موت الفايروس والذئب بلا مقدمات ولا امتدادات في الزمان والمكان فعلى موت الإنسان أن يكون بلا وعود هو الآخر.إذ لا فرق جوهري بين الموتين.
موت البعوضة بلا ضجيج.. هادئ.. ساكن.. ومفعم بالإطمئنان وموت الإنسان بخلاف ذلك تماماً.. البعوضة تموت سحقاً بعجلات السيارات وبالحرائق، وتموت موتاً (طبيعياً)، الإنسان كذلك، والفرق أن موت الأولى لا يكون موحشاً بالمقدار الذي يكون عليه موت الثاني..
الموت بحد ذاته كائن هادئ إذا لم يكن جميلاً وسعيداً.. هو على أقل تقدير جاد كما أن فعل الولادة جاد ومباشر وكما أن عمليات التغيير والتحول والتطور جادة.. الموت غير معني بمشاعر الإنسان.. فهو قانون أو حالة أو فعالية. لكننا نـحن الذين خلقنا منه وحشاً كريها.. والسؤال المهم هو: هل أحسنا صنعاً بفعلتنا هذه أم لا؟
متى بدأ الإنسان يخاف من الموت؟ سؤال لا يمكن الإجابة عليه بسهولة. لكن وبالإستناد إلى المقدمة أعلاه وخصوصاً موضوع النسبة وارتباطها بالثقافة الإنسانية نستطيع أن نقول بأن الموت بدأ يتحول لكائن كريه عندما بدأ الإنسان يعيه أو يترقبه أو يحكم عليه. قبل ذلك لم يكن الموت كريهاً إلى هذه الدرجة. فلم تكن هناك قبور ولا مقابر موحشة ولم تكن هنالك نيران مستعرة ولا أفاعي هائلة ولا ملائكة غضب من نار ولا سياط من لهب ولا مقامع من حديد.. كان الموت خالياً من كل هذه الأوجه البشعة وهو لا يزال بريئاً منها..
لكن متى تحول الموت من شكله الأصلي إلى الشكل الآخر (المشوه)؟.. قلنا سابقاً بأن ذلك حصل عندما أدرك الإنسان الموت.
بصورة عامة فإن الوعي بالمفردات الحياتية نسبي؛ بمعنى أن الإنسان لا يعي أو يدرك الأشياء بنفس التركيز والدقة. فهو لا يولي ـ خلال عملية الإدراك ـ التراب والجنس نفس الأهمية، فهو يدرك الجنس بصورة مركزة أكثر، خاصَّة وأن إدراكه له يكون مصحوباً عادة بتجارب شعورية وخبرات جسدية وذكريات وووووو الخ. أما إدراك التراب فمختلف إذ يكون إدراكاً جافاً. بالإستناد لهذه النتيجة نستطيع أن نقول بأن قيمة المُدْرك تأتي من مقدار فائدته أو لذته أو ألمه أو خسارته.
الولادة كسب كبير وهي مصدر من مصادر الّلذة، وإن كان إدراك هذه اللذة يأتي متأخراً، لكن الإنسان عندما يمر بلحظة فرح سيكون ممتناً حتماً إلى الَّحظة التي وُلِد فيها وانطلق من خلالها باتجاه ممارسة الّلذائذ.
بشاعة الموت على هذا الأساس أمر مرتبط بمقدار الخسائر التي يتسبب بها. ومن هذه النقطة نستطيع أن نتفهم سبب إقبال البعض على الموت أو طلبهم له، فالمنتحرون أيضاً يتعاملون مع الموت بنفس منطقنا، أي بمنطق الخسائر والأرباح عليه يكون الموت بالنسبة لهم أقل خسائراً بكثير من حياة مريضة أو قلقة أو مثيرة للآلام.
وبهذه الفلسفة نستطيع أن نفهم أو حتى نتفهم الكائنات الانتحارية، وسواءاً أكانت هذه الكائنات بشراً أم حيتان أم بغالاً. فكل من هذه الكائنات يمارس عملية الانتحار أي (طلب الموت) بأسلوب مختلف يتناسب مع حاجته لتقليل الخسائر.
الموت حل بالنسبة للكائنات الانتحارية فلماذا لا يكون كذلك بالنسبة لغيرهم؟
الجواب طبعاً مرتبط بالثقافة التي تتعامل مع الموت، الثقافة التي تترجم الموت لمجموعة مصالح أو مفاسد.. ومن هنا نستطيع أن نفهم ونتفهم أيضاً ثقافة العقاب الآخروي، فإنتاج صورة للموت بهذا المقدار من البشاعة تجعل الكائن البشري يتعلق بالحياة ويهرب من الموت لحد بعيد، ما يعني أن هذه الثقافة عبارة عن فعالية تهدف لحماية الجنس البشري من الفناء من خلال دفعه للهرب من الموت. من جهة، ومن جهة أخرى لدفعه باتجاه عملية الصراع مع الطبيعة. لكن هل تكون هذه الثقافة مفيدة.. وكيف يجب أن نتعامل معها حال ترهلها وذهابها في عملية التخويف من الموت لأبعد من مرحلة تحقيق الهدف، وذلك عنما بدأت تتحول لسبب بإبادة الإنسان بدل الحفاظ على بقائه.
وصلنا الآن لنقطة جوهرية ومفصلية بالنسبة لموضوع الموت استطعنا من خلالها تحييده أو على الأقل تجريده من التشويه الذي لحق به بسبب الثقافة الإنسانية. الموت بحسب النتيجة التي وصلنا لها الآن بريء من كل مفردات الثقافة المتعلقة به، بريء من اللون الأسود ومن شواهد القبور وما توحي به، وبريء من خراب المقبرة وكل الحزن والخوف الذي يبعثه مساؤها الموحش، الموت بريء أيضاً من كل الحكايات التي تتعلق بالقبر وما يمتلئ به من ديدان وأفاع ونيران وملائكة وووو الخ. الموت ليس سبباً مباشراً للقبر، فبعض الثقافات تحرق الجثث ما يخلِّص الإنسان من التفكير بمصير كتلة اللحم التي يخلفها الموت وراءه، ذلك أن بقاء الجثة تحت التراب يشكل هاجساً لدى الإنسان ويرسم في كوابيسه علامة استفهام كبيرة ومخيفة.أخيراً نستطيع أن نقول: بأن أهم صفة من صفات الموت هي سكوته وكتمانه لأسراره، الموت لم يتحدث لأحد، وهو لا يترك وراءه آثار تصلح لتعقب مسيرة الراحلين خلاله. وهذا يعني بأنه غير مسؤول عن حكاياتنا وخيالاتنا وكل أساطيرنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أول مناظرة في فرنسا بين الكتل الانتخابية الرئيسية في خضم حمل


.. وساطة إماراتية تنجح بتبادل 180 أسيرا بين موسكو وكييف




.. استطلاع: ارتفاع نسبة تأييد بايدن إلى 37% | #أميركا_اليوم


.. ترامب يطرح خطة سلام لأوكرانيا في حال فوزه بالانتخابات | #أمي




.. -أنت ترتكب إبادة-.. داعمون لغزة يطوقون مقر إقامة وزير الدفاع