الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


باريس تحتفل والرياض تسمح

لطيفة الشعلان

2007 / 8 / 26
المجتمع المدني


احتفل الوسط الثقافي الفرنسي قبل أشهر ببلوغ مدام بوفاري مائة وخمسين سنة، وفي هذه الأيام يمكنك اقتناء أحدث طبعة كاملة للرواية قدم لها رحاب عكاوي وصدرت عن "دار الحرف العربي" من إحدى أشهر المكتبات التجارية في الرياض. أما الرابط بين العبارتين، أو بين الاحتفال بعيدها في باريس والسماح بها في الرياض، فهو لايحتاج إلى عصف ذهني لأن مقام الحديث هو المعايير الرقابية، أو بعبارة أخرى هو إيما بوفاري التي ساقت جوستاف فلوبير إلى المحاكمة بتهمة ( الإساءة إلى الأخلاق العامة والدينية في صورة شهوانية ممتزجة بالمقدس ) كما صاغها في ذلك الحين المدعي العام أرنست بينار. بالتالي فلاشيء أكثر تغيرا من قواعد المسموح والممنوع في الرقابة على الإبداع، من دون أن يغيب عن البال طبعا أن الجمع بين الرياض وباريس في هذا السياق يأتي على سبيل المجاز والتجوز الذي خلقته المصادفة أو المفارقة والذي لن يمنع المرء على أي حال من التفكير التهكمي في كيف يمكن للمفاهيم الرقابية المتصلة بالابداع التي اعتبرت في زمان ما مقدسة أن تتحول إلى مجرد وجهة نظر في زمان أو مكان آخر، فما بالك إذا كان هذا الزمان أوالمكان الآخر هو أحد أكثر الشواهد على قبضة الرقابة في العالم المعاصر بأسره.
وإن حصرنا الحديث في (هنا والآن) فلا يوجد ما هو أكثر إثارة من الحديث عن الرقابات العربية والاختلافات الشاسعة بين معاييرها أو بين مسموحها وممنوعها. تحفة العروس مثلا الذي يجب أن يطبع عليه (للراشدين فقط) تبيعه في الرياض بعض محلات البضائع المنزلية المخفضة التي تسمى (أبو ريالين) إذ تجده معروضا على الحامل وخلفه وأمامه الصحون والمكانس ولعب الأطفال. لكن تساهل الرقيب السعودي النسبي مع بعض التراث سيقابله الافراط في التشدد إذا تعلق الأمر بإجازة الابداع الحديث، فالذي يمنعه الرقيب في مصر كألف ليلة وفي الأردن كدعبل الخزاعي، يفسحه الرقيب في السعودية، الذي تجده يصادر من القصص والروايات والكتب الفكرية والدواوين الحديثة ما يباع في معظم الدول العربية، إلا أن الاستثناء كان السماح بشيفرة دافينشي هنا في حين منعت من لبنان حتى أن الواحد منا خالجته لأشهر طويلة مشاعر زهو قومية !
لا مراء أن التراث لو وضع تحت التصرف المطلق لأهواء الرقباء المعاصرين فستكون النتيجة حذف شطر عظيم من نظمه وسرده. فتهذيب النتاج التراثي لايكون محمودا أو مطلوبا إلا إن كنا بصدد تقديمه لمكتبات المدارس أو للناشئة، أما ما عدا ذلك فالعملية تصبح سفها. فمن وقفوا مثلا على ديوان أبي نواس يسقطون بيتا في إثر بيت واضعين مكانها نقاطا يتجاهلون شيئين: الأول: أن الشعر الحقيقي - أي شعر حقيقي - هو عبقرية فنية لا أخلاقية، وفي هذا السياق تحضرني مقالة بودلير وقد ارتجت عليه الأرض بسبب (أزهار الشر) : إني أعتبر الفن شيئا والأخلاق شيئا آخر ولا علاقة بينهما وبالتالي فيكفيني كشاعر جمال البناء والأسلوب.. والثاني: أن المؤثر من الشعر العربي القديم لم يبتعد عن عمامة الخليفة شبرا وقد طار به إلى مرتبة الانبياء والصديقين، إلا وقد وقع في قرقرة إبريق وخندريس لها شعاع، وجارية وغلام. فإن تم حظر هذا كله، ومعه النثر الذي طال أخبار النساء وأحاديث الجنس و(الدبيب)، فإن ما سيبقيه الرقيب الرسمي من شعر في الحماسة ووصف الطبيعة وحكايات التطفل والحمق لن تعبر عن روح الحضارة العربية التي زادتها التأثيرات الفارسية والتركية شبقا على شبق .
وإذا تركت الرقيب الرسمي إلى الرقابة التي يمثلها الجمهور في أحد التجليات التي يكون فيها النظام الرسمي أكثر تقدمية من المجتمع فستجد الحملة الشعبية التي شنت ذات زمن على القناطر الخيرية في مصر بعد تدشينها رسميا على اعتبار حرمة الوضوء منها لأنها مياة راكدة. !
ألا تجد مثل هذه القصة أكثر طرافة ورمزا من تقصي عشرات النماذج في طول العالم العربي وعرضه لفنون وآداب كانت تمنع أو تصادر من بعد إجازتها تحت ضغط العامة..؟
أما إن قبلت الحكمة من أفواه السينمائيين، فنادر جلال يفتخر بأنه بخلاف فيلم (امرأة من زجاج) الذي تطلبت إجازته عرضه على السادات شخصيا، فإنه طوال حياته المهنية لم يدخل في اشكالات رقابية، خاصة وحكمته المفضلة قالها يوما لصحيفة لندنية: ( نحن شعب فرعوني تعودنا عندما يموت الفرعون أن نمسح اسمه من على الجدران ونضع اسم الفرعون الاخر). وقبل أن تسيء الظن به وتضعه في كفة واحدة مع البحتري القائل عن اعتزاله كان هذا ديني في أيام الواثق ثم نزعت عنه في أيام المتوكل، تذكر أن كل ما أراده هو الإشارة الذكية إلى موضوع التحايل على اللوائح الرقابية المتغيرة من زعامة إلى أخرى وليس الارتزاق كما أراد ذاك الصفيق الذي يدين بدين سوء يدور مع الدول.
إن قول بودلير عن إنتفاء العلاقة بين الفن والأخلاق لاينفي بطبيعة الحال حق من أراد من خلال فنه أن يضرب أمثولة أو عبرة أخلاقية سواء كقناعة أيديولوجية أو مطلب تبشيري أو كرشوة صغيرة للرقيب الرسمي أو للقراء باعتبارهم ممثلين للرقابة العامة أو حتى للناقد الذي يجعل من كسر الصور والأخيلة للقواعد الأخلاقية معيارا فنيا، لكن المهم ألا يأتي ضرب الأمثولة بفجاجة مصطنعة أو مقحمة أو على شكل مصائر يقاد إليها الأبطال عملا بقاعدة الأقدار التي تمهل ولا تهمل.
لقد اقترفت كل من مدام بوفاري بطلة جوستاف فلوبير وتيريز راكان بطلة إميل زولا الخيانة، وانتهت كل منهما بالانتحار بفارق بسيط ومعقد في آن: انتحار الأولى بتناول الزرنيخ كان جزءا من مأساتها الشخصية فالروائي لم يأخذ بيدها إلى هذا المصير الفاجع حتى يعاقبها على خيانتها أو ليضرب للقراء أمثولة أخلاقية. أما تيريز راكان فقد كانت تمثيلا للمبدأ الفرويدي التوراتي في أصله الذي يربط بين اللذة وعقابها، فهي تلقت العقاب بشكل مباشر وصريح منذ وقعت مع لوران صريعة الكوابيس والأشباح المرعبة حتى لحظة انتحارها معه. وإن كان الفارق في المستوى الفني بين الروايتين قد جاء كبيرا لصالح مدام بوفاري، فإن لذلك أسبابا كثيرة ليس هذا مجال تفصيلها، لكن أحدها أن صوت فلوبير المؤنب أو رقيبه الداخلي لم يسمع مطلقا بعكس صوت زولا الذي كان يشق طبلة الأذن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لأول مرة منذ بدء الحرب.. الأونروا توزع الدقيق على سكان شمال


.. شهادة محرر بعد تعرضه للتعذيب خلال 60 يوم في سجون الاحتلال




.. تنامي الغضب من وجود اللاجئين السوريين في لبنان | الأخبار


.. بقيمة مليار يورو... «الأوروبي» يعتزم إبرام اتفاق مع لبنان لم




.. توطين اللاجئين السوريين في لبنان .. المال الأوروبي يتدفق | #