الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حمى الفتاوى وانتحار العقل

عمران الرشق

2007 / 9 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تنتشر حمى "الإفتاء" في مجتمعانا، بحيث تصبح شأنا عاما، لا يقوم به رجال الدين فقط، بل والعامة أيضا، الذين يكفي أحدهم التسلح بأية قرآنية أو حديث نبوي يبرران رأيه أو عمله، ليصبح نافذا لا يخالفه إلا "كافر" أو "ضعيف إيمان".

وإزاء هذه الظاهرة نكون أمام خطرين مترابطين، أولهما، غياب العقل عن المشهد برمته، فالتفكير المنطقي النابع من الظروف الموضوعية لا وزن له – في فكر هؤلاء- أمام ما يعتقدونه إلهيا مطلقا خارج عن المكان والزمان، لذا فحتى الوصول إلى حل وسط، يصبح بحاجة إلى الاستشهاد بأية قرآنية أخرى أو حديث أخر.

أما الخطر الثاني فهو أن تتحول "الشريعة" بل والتفسير الفردي لها، إلى قانون نافذ بالقوة الإلهية، وبالتالي فهو ليس فوق أي منطق أو قيمة مجتمعية قد تحد من غلواءه فحسب، بل أيضا فوق قوانين الدولة (وبحالتنا السلطة الفلسطينية) التي تصنف بالكافرة أو الجاهلية، ما دامت لا تتفق مع مصلحة مطلق الفتوى، أو المستقاة من نصوص الإسلام ما دامت تخدمه.

والأسباب لذلك كثيرة، أهمها تراجع وغياب المثقفين العلمانيين عن رسم قيم المجتمع المركزية، وتركهم المجال مفتوحا أمام الإسلاميين للانتشار وتقديم فكرهم بديلا ما لبث أن تسيد الساحة، مستفيدين من تقنيات العولمة - انترنت وفضائيات وسوق الكاسيت- التي باتت في متناولهم،، والمفارقة، أن مستهلكي التكنولوجيا الغربية المتطورة هؤلاء، هم أنفسهم الذين يحاربون الحضارة الغربية وعلومها الثقافية والقانونية، ويبحثون عن بديل عنها في "تاريخ مقدس" يبتدعونه خارج التاريخ.

فلا غرو إذن أن تتشبع الساحة بكم هائل من أسماء المفتيين والوعاظ، ومعظمهم غير حاصل على تخصص في أحد العلوم الإنسانية، ومنهم من لا يحوز شهادة علمية أصلا، ومعظمهم – إن لم يكن كلهم- يعكس فيما يقوله تخلفه وتخلف البيئة الاجتماعية التي ينطلق منها أو يدعو للحذو حذوها أكثر من أي شيء أخر، فالذي يبث هو إما نشر لقيم التخلف والرجعية مثل تحريم عمل المرأة وخروجها من المنزل دون "محرم"، وإما "إرهاب فكري" كله تهديد ووعيد من جهنم وعذابها الذي سيطال الجميع ما عدا الواعظ ويأتمر بأوامره، أو نشر للغيبيات مثل الحديث عن السحر وتلبس الجن، أو للامعقول مثل كرامات المؤمنين الأوائل والخلفاء الذين يوضعون في مصاف الملائكة لا البشر الذي يصيبون حينا ويخطئون حينا أخر.

والأخطر استخدام البعض "للفتاوى" لاستدخال وتشريع ممارسات إجرامية تحت غطاء الدين (وبالتالي تصبح في عيون الكثيرين أمرا واجب النفاذ لأن الدين أمر بها لا لأنها منطقية)، ومن ذلك دفاع "شيخ" في إحدى الإذاعات المحلية الدينية واسعة الانتشار عن ختان الفتيات، وهي الظاهرة غير الموجودة – ولله الحمد- في مجتمعنا الفلسطيني، وكأنه يدعو الآباء لتبنيها، إما كل الانتقاد والتحذير، بما في ذلك الطبي، لهذه العملية المقززة، فما هي – والكلام هنا للشيخ- إلا هجمة على الإسلام من الغرب المنافق الذي يبيد ألاف النساء المسلمات ويبكي لاجتثاث عضو صغير منهن، وكأن حظ المرأة المسلمة أن تقتل وأن تحرم من المتعة الجنسية في أن معا.

وما يسهل مهمة المفتين هؤلاء رغم كثرتهم، أن القرآن والأحاديث النبوية يحويان –شأنهما شأن النصوص الدينية المختلفة- كثير من الإشارات الغامضة والمبهمة، ناهيك عن عدم تطرقهما لكثير من مسائل العصر الحديث، لذا تكون مسألة تأويلها أكثر صعوبة لاسيما إن جرت في إطار حضاري متقدم. لذلك، لم يكن بمقدور طارق رمضان (حفيد حسن البنا مؤسس حركة "الإخوان المسلمين") المولود بسويسرا، في مواجهة تلفزيونية خاضها مع رئيس الوزراء الفرنسي ساركوزي- الذي كان يومها وزيرا للداخلية-، إلا التصريح بتعليق الحدود، إذ لا يعقل في أوروبا الغربية حيث الحريات العامة مصانة ومضمونة، أن يدعو أحد لقتل شخص ما رجما بالحجارة وعلى رؤوس الإشهاد لأنه مارس الجنس خارج إطار الزواج.

أما في مجتمعاتنا الذكورية - حيث هرطقات الديمقراطية وحقوق الإنسان غشاء رقيق يخفي تحته مئات السنين من الجهل والتحجر- فيتجرأ مطلقو الفتاوى، خاصة إذا ما كرست سيطرتهم على الفئات الأضعف في المجتمع خاصة المرأة، وما فتاوى الحجاب - وما يغطيه وما يتركه، ومن الذي يجوز للمرأة أن "تنكشف" المرأة أمامه ومن لا يجوز ولأي حد-، أو وجوب طاعة المرأة لزوجها طاعة عمياء، إلا جزء يسير مما يدور في خطب وكراريس ومواقع الانترنت الخاصة بهؤلاء الوعاظ.

وعلى الضد من هذا الانتشار الأفقي لظاهرة الإفتاء والمفتيين، لا تشهد مسألة فهم الإسلام وتاريخه أي اختراق عمودي، أي أية محاولة لإعمال العقل فيهما وإخضاعها لمناهج البحث العلمي والتاريخي، وبالتالي، تخليصها من قبضة الأرثوذكسية الإسلامية التي عطلت أي فعالية للعقل فيها منذ مئات السنين، سواء أأخذت هذه الأرثوذكسية شكل مفتيين تعينهم الدولة، أو حركات إسلام سياسي تحالف الدولة حينا وتعارضها حينا أخر، أو عامة الشعب الذين لم يعودوا يرون في غير الإسلام مخلصا من البؤس والفقر الذي يحيونه.

أما المحاولات النادرة في هذا المجال، فغالبا دون النتيجة المرجوة، إما كون العامة لا تقرأ هذه المؤلفات المتخصصة المعقدة بالغالب، ومن ذلك كتابات محمد أركون، أو لأن الأصولية الإسلامية تسارع إلى إشهار سلاح التكفير وربما الاغتيال أو التهديد ضد من يهددها بعقلانيته، والضحايا هنا كثر، لا يبدؤون بفرج فودة وحامد أبو زيد ولا ينتهون بسيد القمني.

كان الفيلسوف الألماني نيتشه يقول أن الحضارات تمرض، وأن المفكر هو طبيب حضارات، أما داؤنا فيبدو مستعصيا، خاصة وأن كثيرين منا يستمرون في إبادة الدواء "العقل"، معتقدين أنهم بذلك يعيدون لأنفسهم العافية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استقالة أول موظفة يهودية من إدارة بايدن -بسبب سياسة واشنطن م


.. المفكر د. يوسف زيدان: اجتماعاتنا في -تكوين- علنية وبيتم تصوي




.. المفكر د. يوسف زيدان: اتكلمنا عن أشكال التدين المغلوط .. وه


.. دار الإفتاء في طرابلس تدعو ل-قتال- القوات الروسية في البلاد




.. -حافظ البهرة على سرية طقوسهم الدينية عبر العصور بعد اضطهاد ا