الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اطارنا الفكري لا يصنع الحضارة

سعود عبدالله الجارح

2003 / 10 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يقوم الإطار الفكري للمسلمين على ركيزتين أساسيتين هما الدين والعادات والتقاليد. والإطار الفكري كما هو معلوم ليس إلا المنظار الذي ينظر به الشخص الى الأشياء من حوله فيحللها على ضوء العناصر التي يستند عليها.
مشكلة المسلمين ان إطارهم الفكري لم يتطور كما تطورت الدنيا بأسرها، فبقي إطاراً جامداً منغلقاً ساهم في قولبة العقل الإسلامي بشكل جعل منه لا يقبل التفاعل مع العالم من حوله، حتى أصبح المسلمون عالة على الحضارة الإنسانية، ومعولاً في هدم هذه الحضارة بدلاً من ان يكونوا أداة بناءها.
أحسن الساسة في استغلال الهشاشة التي يستند عليها المسلمون في التفاعل مع بيئتهم، فتجنيد رجال الدين مع تفادي الاصطدام بعادات وتقاليد المجتمع بشكل عنيف سيضمن لهم السيطرة على شعوبهم دون أدنى صعوبات.
يقال ان هولاكو بعد مجزرة بغداد الشهيرة جمع رجال الدين وسألهم عن حكم الإسلام في أفضلية ان يحكم المسلمين كافر عادل وكان يرمز بهذا لنفسه أو يحكمهم مسلم ظالم ويرمز بهذا للإمام العباسي، وهذا السؤال يجد جوابا له في كل المصنفات الفقهية التي جعلت من شرط الإسلام شرطا لا يقبل السقوط من شروط تولي الإمامة العظمى، ومع هذا فان هولاكو لم يعدم من بين الصفوف رجالا يقولون ان الإسلام يفضل حكم الكافر العادل على المسلم الظالم (1). ولا غرابة في هذا فالطبيعة البشرية يرهبها سيف السلطان ويجذبها ذهبه وماله، ومن هنا يتم تديين السياسة وتسييس الدين على حسب الحالة، وهل تاريخنا كله إلا تمازج بين مصالح الساسة وتبريرات الاسلامويين ؟
وإذا انتقلنا من هولاكو الى جنرال العصر نابليون بونابرت وحاولنا دراسة المنطلقات التي انطلق منها هذا الفاتح العظيم في ترسيخ استعماره لمصر، لوجدنا ان هذه المنطلقات تتناسب مع واقع الإطار الفكري للأغلبية المسلمة في مصر. فالخطاب الذي وجهه نابليون الى الشعب المصري قبل احتلاله للقاهرة (2)، تضمن فهماً كبيراً لنسق المصريين الفكري والمعرفي بالإضافة إلى فهم عميق لأثر سيف السلطان وذهبه على الناس أجمعين وذلك على النحو التالي :
1 – ادعى نابليون في خطابه انه وجيشه من المسلمين المخلصين. فقد قال في خطابه على سبيل المثال : (أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجبربجية وأعيان البلد قولوا لأمتكم : ان الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون).
لم يكتف نابليون بهذا في خطابه بل أحتج بالمفهوم الإسلامي للقضاء والقدر لترسيخ فكرة ان الله هو الذي "قدرَ" انتصاره على المماليك الظالمين. فقد قال في نفس الخطاب : (فأما رب العالمين القادر على كل شيء فأنه قد حكم على انقضاء دولتهم). وقال في خطاب آخر بعد قضائه على ثورة القاهرة الأولى(3) : (والعاقل يعرف ان ما فعلناه بتقدير الله تعالى وارادته وقضائه، ومن يشك في ذلك فهو أحمق وأعمى البصيرة، واعلموا أمتكم ان الله قدر في الأزل هلاك أعداء الإسلام وتكسير الصلبان على يدي، وقدر في الأزل أني أجيء من المغرب الى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها واجراء الأمر الذي أمرت به، ولا يشك العاقل ان هذا كله بتقدير الله وارادته وقضائه..) ويستمر نابليون في خطابه الديني المؤثر حتى يقول : (فلترجع أمتكم جميعا الى صفاء النية وإخلاص الطوية، فان منهم من يمتنع عن الغي وإظهار عداوتي خوفا من سلاحي وشدة سطوتي.. حتى قوله : والذي يفعل ذلك يكون معارضا لأحكام الله ومنافق..)!. كان نابليون بهذه الانتهازية يستحضر بشكل معاصر آنذاك خطاب معاوية بن أبي سفيان حين قال لجموع المسلمين: (انما قاتلتكم لأتآمر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وانتم كارهون) (4). انها ايديولوجية الجبر الأموية بعين ذاتها وان كانت قد تعطرت بنفحات من العطور الباريسية.
لم يكتف نابليون بهذا بل انه ـ أيضاً ـ وظف مفاهيم الجهاد وطاعة السلطان بشكل يساعده على تحقيق غرضه، ويتضح ذلك من قوله: (واثبات ذلك انهم (أي الفرنسيون) قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دائما يحث النصارى على محاربة الإسلام... ان الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين لحضرة السلطان العثماني وأعداء أعدائه أدام الله ملكه، ومع ذلك ان المماليك أمتنعوا عن طاعة السلطان غير ممتثلين لأمره).
2 – البس نابليون شعارات الثورة الفرنسية زياً اسلاميا يتناسب مع الثقافة المصرية، فالحرية والعدالة والمساواة عبر عنها بعبارات على غرار: (من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية) و (ان جميع الناس متساوون عند الله).
3 – كان لفهم نابليون للطبيعة البشرية - التي يرهبها السيف ويرغبها الذهب - بالاضافه لفهمه لواقع سيطرة العلماء الدينيين على الشارع المصري أثراً جليا في الخطاب، فقد غازل نابليون العلماء بخطابه المذكور غزلا جليا في قوله: (من الآن فصاعدا لا ييأس أحد من أهل مصر عن الدخول في المناصب السامية وعن اكتساب المراتب العالية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور).
وبعد ان دخل نابليون الى مصر قام بتشكيل مجلس للحكم مؤلف من علماء القاهرة وأصحاب الجاه فيها، ولا أدري ـ بالمناسبة ـ ان كانت القوات الأمريكية بعد إقرارها لمجلس الحكم الانتقالي في العراق قد أرادت تقليد الإمبراطور الفرنسي بقراره السابق أم ان المسألة لا تتعدى المصادفة البحتة.
لاننكر ان هناك من العلماء والأشراف من لم تنطلي عليهم حيلة الإمبراطور نابليون، خصوصا وان هناك قوى سياسية كبيرة كانت متضررة من الاحتلال الفرنسي لمصر، وكان من مصلحتها ان تدعم كل مناهض للاستعمار الفرنسي، ولكن تبقى الحقيقة ان فهم نابليون للعقلية المصرية لم يتجاوز الواقع في كثير من الأحيان.
وينقل الدكتور علي الوردي عن كرستفور هيرولد (ان نابليون قد اعترف في أواخر أيامه بأن خطابه للمصريين لم يكن إلا قطعة من الدجل ولكنه دجل من أعلى طراز)(5)، ويؤكد هذا ماقاله نابليون في مجلس الدولة الفرنسي: (ولم أستطع الاستقرار في مصر إلا بعد ان تظاهرت بأني مسلم تقي) (6). وهذا هو لب المسألة، لكي تحكم مجتمعا فلابد ان تفهم كيف يفكر أفراده. لقد سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم الجميع في تنويهه عن هذه المسألة حين قال : (كما تكونوا يولى عليكم)، ومن هنا فإذا كان المسلمون يرغبون حقا ببناء دولتهم الحديثة القائمة على تفاعل مؤسسات المجتمع المدني، فلا بد لهم من أن يغيروا من نسقهم الفكري بشكل يتوافق مع هذا الحلم المشروع، الذي لا يعدو ان يكون في الأساس مرحلة من مراحل التطور البشري التي لابد لكل مجتمع من بلوغها. ان المشكلة ليست في الوصول إلى هذه المرحلة فالوصول لها سيتم عاجلاً أم أجلا، ولكن المشكلة تتلخص في حجم الثمن الذي سندفعه والوقت الذي سنستغرقه لكي نفهم ان رجال الدين لا يتكلمون باسم الله، وإن القرآن حمال أوجه، وان القرآن لا ينطق وإنما تنطق به الرجال، وإن أوروبا لم تحقق نهضتها المعاصرة إلا بعد تحطيم أغلال الكنيسة وهدم صنم البابا، وان قواعد الفقهاء ليست قرآناً منزلا، وانهم ليسوا بالأنبياء المعصومين، ولا بالرسل المرسلين، وان هم إلا بشر مثلنا، لا وحي يوحى عليهم ولا الهام، وان : (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) ليست إلا اجتهادا قد ولى زمانه، وان قاعدة لا اجتهاد مع النص يخالفها منطق التاريخ وواقع الحال في عصر الخلفاء الراشدين، فهذا عمر قد ألغى سهم المؤلفة قلوبهم، وعطل حد السرقة في عام الرمادة، وهناك من الشواهد الكثيرة ما لا يكفيها المقال، ويغني عنها قراءة الحال، وان الدين لا يهدف إلا لتحقيق المصالح، فحيث ما كانت المصلحة فثم شرع الله، وان الإسلام لم يهدم أصناماً بنوها من حجارة كي نعبد بدلا عنها انساً ولا جان. وان العادات والتقاليد ليست إلا مفاهيم نسبية تتغير بتغير الزمان والمكان، واننا لن نصنع الحضارة متى ماكنا نستورد المنتج الغربي ولا نستورد الفكر الذي صنعه.
اننا مكبلون بالأغلال، فحطموا أغلالكم لعلكم تتحضرون.

 


هوامش :

(1) مجلة الموقف الأدبي - العدد 383 - آذار 2003

(2) لقراءة الخطاب كاملا راجع تاريخ الجبرتي – ج2 – ص 128 - دار الكتب العلمية - ط1 - 1997

(3) لقراءة الخطاب كاملا راجع لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث –ج2 - د.علي الوردي - ص 295 - المكتبة الحيدرية - 1378 - 1379 - ط2

(4) البداية والنهاية – ج8 – ابن كثير – ص 131 - مكتبة المعارف - بيروت

(5) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث –ج2 - د.علي الوردي - ص 272- المكتبة الحيدرية - 1378 - 1379 - ط2

(6) سيكولوجية الجماهير – غوستاف لوبون – ترجمة وتقديم : هاشم صالح – ص 88 - دار الساقي – ط2 – 1997

 

كاتب سعودي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حتة من الجنة شلالات ونوافير وورد اجمل كادرات تصوير في معرض


.. 180-Al-Baqarah




.. 183-Al-Baqarah


.. 184-Al-Baqarah




.. 186-Al-Baqarah