الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكتابة عن الموت... الموت يركب خيوله

سعدون محسن ضمد

2007 / 9 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


عندما نعود إلى موضوع الجدل الذي يتأسس على صراع الحياة والموت داخل الوعي الحضاري الإنساني، نجد بأن الأسئلة الأولى التي سألها الإنسان تتعلق بهذا الجدل، على الأقل هذا ما يخبر به أقدم تراث تركه الإنسان، ملحمة كلكامش تدور حول رحلة الإنسان للبحث عن الخلود. الإهرامات ليست سوى حلم بالعودة إلى الحياة، سفينة نوح هي الأخرى محاولة (ناجحة) للعبور على تهديدات الموت، الزقورات، المعابد الأختام.. كلها تتحدث عن الموت ومع ذلك، أي مع أن عملية البحث عن حل للموت، أو إجابة على الأسئلة التي يثيرها قديمة غير أنها لم تقدم للإنسان شيئاً. ليس للإنسان منجز بخصوص الموت، كل منجزات الإنسان تتعلق بالحياة، لكن من جهة أخرى نستطيع أن نقول بأن منجزات الإنسان بخصوص الحياة لا تعدو أن تكون فعاليات لإدامتها، عليه فهي صيغة أخرى من صيغ النجاح على صعيد الموت، لكن من اللافت للنظر بأن الإنسان الذي نجح لأبعد حد بمحاصرة الموت، والالتفاف على حصاراته لم ينجح بفك ألغازه، فالموت بقي موتاً، سريعاً خاطفاً مباغتاً وفوضوياً.
نعم نجح الإنسان بتلافي مخاطر الفيضانات وأكثر الأوبئة وحشية، ونجح بالتخلص من خطر الحيوانات المفترسة والقضاء على وحشية الجوع، لكن الغريب أنه لم ينجح بتقليل حجم الخسائر التي يتكبدها بسبب الموت، وكأن الموت ينجح دائماً بخلق فرصة جديدة يلتهم من خلالها أعداداً هائلة من أرواح البشر. الحربان العالميتان دليل واضح، الأسلحة النووية، الأمراض الجديدة. حتى أنني وعندما أتذكر انفلونزا الطيور أشعر بأن المبادرة ستبقى بيد الموت وبشكل مخيف جداً. ففي أي لحظة يمكن له أن يركب أي فيروس عابر ليقضي من خلاله على الإنسان، أو ينفخ من تحت أي بركان قوي أو يضرب بيده على ساحل أحد المحيطات أو حتى يوقد ناراً كبيرة في أي من القطبين ويترك للماء عملية إنجاز وعده الذي قطعه على نفسه يوماً بأن لا يترك على وجه الأرض كائناً بشرياً حياً.
لكن، هل هنالك حقاً، وعد بهذا الخصوص؟
هل حقاً يخاف الإنسان من يوم يركب فيه الموت أصغر خيوله، وهو ينفخ في الهواء الذي يتنفسه ذلك الإنسان فيروساً مميتاً وسريعاً ولا يمكن علاجه، فيروس لا يمكن الإمساك بسرعته ولا خفته ولا مرونته وهو يزوغ من مختبرات الإنسان الواحد تلو الآخر.. عندها سيكون الإنسان بمواجهة الموت بشكل غير مألوف لديه، وفي آخر ملحمة بين الوجود ونفيه سينتصر النفي ويجهز العدم على هذا الكائن المشاكس.
أبحاث كثيرة تتحدث عن أن الحياة على الأرض شهدت نهايات وبدايات كثيرة، وكان بين كل بداية ونهاية ملايين السنين. وعندما أقرأ مثل تلك الأبحاث أسأل نفسي بمرارة: هل هي لعبة يلعبها الموت معنا؟ هل هي أحجية تدور في فراغ الأبد وتنتظر من ينجح بحلها أخيراً؟
إذن فرحلة كلكامش باتجاه نبتة الخلود لم تبدأ من أرض سومر، نعم ربما أرخ لها السومريون، رصعوا طينهم بمساميرها، لكنهم لم يبتكروها، إن ابتكار هذه الاسطورة جاء تعبيراً مباشراً عن حاجة الإنسان للبقاء وسعيه وراء إطالة أمده. أول إنسان أدرك معنى أن الموت نهاية ووقف منذ ذلك اليوم على حافّة العدم المحض، هو الذي بشر برحلة البحث عن نبتة الخلود. منذ ذلك الإنسان ورحلة البحث هذه مستمرة، وستستمر إلى أن يتوقف آخر نفس بشري، لن يتوقف الإنسان، كما أن الموت لن يتوقف، الأحجية غريبة وطلاسمها غير قابلة للحل، واللعبة مريعة وهي تستمر بلا هوادة.. الخاسر الوحيد هو الإنسان، ذلك الكائن الذي سُلب منه فناؤه وأقحم جراء ذلك بلعبة (كريهة) أسمها الحياة.
كلما دخلت مقبرة ممتدة، كمقبرة النجف، المترامية الأطراف بشواهدها العالية وصفير ريحها المخيف، وسراديبها التي تنفخ رائحة الموت من دون تعب، كلما وقفت هناك، على حافة الوجود، أرى شبحاً بعيداً، مهيباً وواثقاً وجريئاً ومتواصلاً، أجده دائماً يسرج خيولاً بلا عدد ويختار من بينها فرسا مخيفة يسميها الفناء الأخير.
كلما وقفت هناك عند حافَّة العدم تخيلت لحظة بريئة ومتواصلة ومباغتة، لحظة تشبه الغفلة من الزمن التي انبثق منها تسونامي. فذلك الموج الهادر أيضاً أتخيله وكأنه عبارة عن حصان جامح يحمل فوق سرجه فارساً أسمه (الوعد النافذ والأخير). كلما وقفت هناك عند حافَّة العدم التفت إليَّ ذلك (الشبح الفارس) ليبتسم ابتسامته الماكرة، تلك الابتسامة التي لا تعلن شيئاً يستحق الاحترام أكثر من الإصرار على تنفيذ المهمة الأخيرة.
هل يستطيع احد أن لا يخاف من فارس يتهيأ لمعركته الأخيرة منذ الأبد وإلى الآن، أية معركة تستحق كل هذا الإعداد، أي فارس هذا الذي يربت على ظهر جواده الدهر كله.. إنه الموت، ذلك الانطفاء الذي لم نتعامل معه إلا بخوفنا منه، إلا بجبننا عن مواجهته كمصير لا بد منه، وكحل مناسب لأحجية الحياة. خاصَّة عندما تترهل بشكل لا يطاق. الموت حكمة مجسدة بفعل أزلي.. الموت إرادة لا تختلف عن إرادة الحياة ولا تتخلف عنها. الموت يستحق منا أكثر من الخوف. الموت فارس لا يقل شأناً عن ذلك الفارس الذي يمنح الحياة.
إذن ثمة فارسان، أحدهما يوقد والآخر يُطفئ، والحرب بينهما سجال. وكانت خيانتنا الوحيدة أننا وقفنا بصف أحدهما من دون الآخر، من دون مبرر يستحق. نعم كانت خيانة حقيقية. فعلى الرغم من أن الإنسان جرب بؤس الحياة ولم يجرب بؤس الموت، وعلى الرغم من أنه ذاق مرارة أن يوجد ولم يتحسس مرارة أن يُعدم، على الرغم من ذلك إلا أنه يصر وبشكل يضحك الثكلى على أن يقف بصف مأساته الوحيدة.
كلما دخلت مقبرة ممتدة كمقبرة النجف أدرك خواء الإنسان وهو يصر على تكذيب الموت.. نعم وإلا فماذا يمكن لنا أن نسمي كل تلك الشواهد، فتلك الأحجار لا تشهد على غير إرادة البقاء، جسد الميت الذي يتفسخ ويذهب هباء بيد الموت لا يمكن الإبقاء عليه، لذلك يهرع الإنسان لجسد بديل يثبت من خلاله لنفسه، لخوفه، لبلاهته، أن الموت لم يحصل بعد، لكن مع ذلك فهذا الجسد البديل يرفض الإصغاء لغير حديث العدم، ولا يخبر بغير خبر الموت. أراد الإنسان أن يقيم مدينة للأموات، أرض يتخيل أنها فضاء أخضر يمرح فيه أمواته والغبطة تملاءهم، هناك حيث لا يحجبهم عنه إلا غشاء رقيق سرعان ما يتمزق ليعود الشمل ليلتئم من جديد... أراد الإنسان أن يبني مدينة الأموات لتنقذه من هاجس الفناء، فإذا بها ترفض أن تحدثه إلا بحديث الموت. وهو نفسه الحديث الذي سمعته وأسمعه كلما دخلت مقبرة النجف، أكبر مدينة أموات في العالم.
ومع ذلك.. مع أن ثقافة الحياة لدى الإنسان جعلته (يبني مدينة للأموات) ويحاول أن يملأها بالشواهد المحملة بالأسماء والصور والتواريخ، مع أنها مصرة على أن تقلب الموت إلى حياة، غير أنني ودائماً أهمل حديثها وأرهف السمع لصهيل بعيد وغابر، تحمله ريح الأبد ويتحدث بأحاديث الامتداد الموحش والبعيد، عند ذاك سرعان ما ينفرج الأفق البعيد عن ابتسامة ماكرة جداً، وخبيثة إلى أبعد الحدود، وعند ذلك فقط أعلن للوعد البعيد والصادق والأكيد كل إيماني وأمنحه كامل ولائي وفرحي.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المحكمة العليا الإسرائيلية تلزم اليهود المتدينين بأداء الخدم


.. عبد الباسط حمودة: ثورة 30 يونيو هدية من الله للخلاص من كابوس




.. اليهود المتشددون يشعلون إسرائيل ونتنياهو يهرب للجبهة الشمالي


.. بعد قرار المحكمة العليا تجنيد الحريديم .. يهودي متشدد: إذا س




.. غانتس يشيد بقرار المحكمة العليا بتجنيد طلاب المدارس الدينية