الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متاهات الحب

محمد نبيل

2007 / 9 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لا شيء يحمينا من الموت،
سوى المرأة ...و الكتابة...
نزار قباني

عندما قررت الباحثة فاطمة المرنيسي إصدار كتابها القيم حول الحب ،سنوات الثمانينات (1) ،كانت تعرف تمام المعرفة ،أنها تدخل قارة مظلمة تستدعي التبحر و سبر أغوار الكثير من المجالات ،من أجل فهم ماهية الحب ومنعرجاته الإشكالية . فليس من السهل أن ندخل مملكة الحب، فهي المليئة بالمقالب و المتاهات والمنزلقات التي لا حصر لها. فالحب يتجلى في إحدى أركان ماهيته، في منزلة بين المنزلتين، أي بين حالة و أخرى مغايرة، ولا يمكن الوصل بينهما إلا تجاوزا أو مغامرة إجرائية أو حبا في التبسيط. فابن حزم يقول عن الحب في كتابة الجميل و الشيق "طوق الحمامة في الألفة والألاف ، "الحب - أعزك الله - أوله هزل وآخره جد. دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل". وبين الهزل و الجد تكمن روح الحب و مقاطع شطحا ته المفتوحة على أكثر من تأويل.

وللحب معجم و علامات و كلمات متشابكة المعاني . فلغته الإشكالية تنكشف بمجرد بحثنا في تاريخ العرب مثلا ، لنصل إلى إبداعاتهم اللغوية المحكومة بثنائية الدلالات و المدلولات. فقد ابتكروا أكثر من ستين كلمة من أجل قول عبارة " أحبك «. فها هي فاطمة المرنيسي تركب صهوة ابن قيم الجوزية (2) الذي يقول في روضة المحبين ونزهة المشتاقين، "إن اللغة العربية تضم ستين كلمة للتعبير عن حالات الحب . و يعلق ابن قيم على هذا الغنى الدلالي، بكون هذا التعدد المرتبط بالمسمى في لغة معينة، يبرهن على أن الرغبة في الفهم كانت جد قوية. فبغية الاتصال و الوصول إلى كنه حالات الحب عند العرب، تم إفراز هذا الزخم من الكلمات التي نورد أهمها. فجوهر معنى الحب يتحقق بالمرور عبر معاني عديدة كالمحبة ، العلاقة، الهوى، الغرام، الوجد، الشوق، ، الإكتئاب، الحزن ، الأرق، الإستكانة، الجنون، الهيام، الولع ...الخ. فلو توقفنا عند كلمة واحدة من حجم العشق، لما غرقنا في بحر من المعاني. وفي إحدى دلالات هذه الكلمة ، يقول الجنيد ، بأن معنى العشق هو قمة الجبل ، و لذلك ،لا يمكن أن نستعمل كلمة عشق في حياتنا اليومية إلا إذا تطور الإحساس في علاقتنا بالمحبوب ،و تحقق بسرعة (3).

وللحب متاهاته الإشكالية، فهو غير واضح المعالم، إن روحه زئبقية. يقول ابن حزم في هذا السياق، "لقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع". أما علامات الحب فهي لا تخرج عن هذا العالم المبهم. فلو جرب الإنسان مرة واحدة أن يقبض بناصية إحساس حبيبه ،لتوصل إلى حقيقة مفادها ،أن الجنون أو الولع أو أي اضطراب يسببه داء الحب الجميل ،هو سر يقف وراء سلوكات نقول عنها ملموسة و محسوسة . فأهم الأشياء لا تراها العين المجردة ،كما يقول أنطوان دي سانت ايكسوبيري. إن علامات الحب بادية في ظواهرها ،خفية في جوهرها . فإذا كان العقل عاجز عن فهم النومين (الشيء في ذاته ) بلغة الفيلسوف الألماني كنط ،فإن الحب يستعصي علينا فهم جوهره عن طريق العقل.

الحب و أنواعه يدعونا إلى التوقف مرة أخرى، و لا يتركنا رهن لحظات شرودنا. فهناك أنواع كثيرة، حب عذري يستوقفنا مثلا، وقد عرفه العرب في الشعر، باعتبار أن هذا الأخير ديوانهم الأول. فالمرأة التي تكون موضوع الحب العذري كما تقول المرنيسي ،هي تلك المرأة المتزوجة بزوج ،ليس ككل الأزواج، بل هو ذلك الرجل الثري . العذرية هي أن نحب امرأة ترتبط برجل آخر، والشاعر العذري حسب تصور عالم الاجتماع التونسي طاهر لبيب جديدي ، كانت له ميولات مازوشية ،أي أن ما يثيره هو رفض المرأة المحبوبة (4) .

وإذا استمرت مغامرتنا داخل ملكة الحب و المحبين، سنتوصل إلى نوع مغاير من الحب. والأمر يتعلق بالحب الإلهي الذي له مكانة في تاريخ الإنسان. ولعل أبرز مثال نجده مع المتصوفة الذين عبروا عن هذا النوع من الحب. فالقطب الصوفيّ محي الدين بن عربيّ يقول:
أدينُ بدينِ الحبّ أنّى توجهتْ
ركائبُهُ، فالحبُّ ديني وإيماني

أما رابعة العدوية فصرختها و عشقها الإلهي ما زال حاضرا ،و كأنها نحتت بحروف من ذهب تلك الأشعار التي تقول فيها :

أحبك حبين ،حب الهوى
وحبًّا لأنك أهلٌ لذاكا
فأمَّا الذي هو حبُّ الهوى
فشُغلِي بذكرك عمَّن سواكا
وأمَّا الذي أنت أهلٌ له
فكشفُك لي الحُجبَ حتَّى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
ورابعة العدوية خاطبت الذات الإلهية قائلة:
عرفت الهوى مذ عرفت هواك
وأغلقت قلبي عمن عداك
وقمت أناجيك يا من ترى
خفايا القلوب ولسنا نراك

وإذا تطرقنا إلى لعبة المزج بين أنوع الحب، فنستشف أنها حاضرة بقوة في تاريخ الممارسة اليومية. فالفصل بين لغة تهدف إلى وصف الجسد، وإحساس يتوخى الإمساك بقبضة الروح يظل صعبا. فالتداخل وارد و يشكل نقطة أساسية في سلم درجات الحب. فالوجه المشرق كالصبح، والمشية المثيرة، والشعر الأسود الفاحم كالليل، والجبين الناصع كالبدر، والعينين الواسعتين الكحيلتين، والجيد الذي يضاهي جيد الغزالة، والصدر الناهد النافر وكلّ رعشة من رعشات الشفتين المكتنزتَين،كلها لا ينفصل فيها الجسدي عن كل من الرمزي و الروحي . ولعل ما قاله لنا أمير الشعراء في العصر الجاهلي، امرؤ القيس، يعكس بجلاء صورة حية عن الحب في دلالاته المختلفة . ففي معلقته الشهيرة يرد امرؤ القيس:
ومثلـكِ حُبلى قد طرقتُ ومُرضعٍ
فألهيتُها عن ذي تمائمَ محولِ
إذا ما بكى من خلفها انصرفت لهُ
بشِـقٍّ وتحتي شقُّها لم يُحوَّلِ


وبين حب الجسد الذي يدقق فيه الحبيب في مفاتن و محاسن المرأة الجسدية ،وحب الذات الإلهية مرورا بدرجات و أبعاد الحب اللامتناهية، يكمن سر وجود لغة الحب ،القابع وراء الكلمات و الصور و الممارسة التي يطوقها اليومي بانكساراته و آهاته الواقعية.

يسبب الحب في الكثير من الزوابع، حيث تظهر عدة حالات بشرية متنوّعة، من شوق واستعطاف، وغضب، وغِيرة، وحنان وغيرها من الهواجس والأحاسيس العابرة، التي لا تُقاوم لعنة الزمن بأي حال من الأحوال. إنها تنحل لتقوم مقامها زوابع أخرى إلى أن ينتهي سفر الحياة.

أن نتطرق إلى مفهوم الحب ومتاهاته ،معناه ولوج عالم الإثارة . السؤال هو: هل الإثارة فطرية طبيعية أم مكتسبة ؟ سؤال حاولت الباحثة فاطمة المرنيسي الإجابة عنه . فهي تقول:" إن معنى الإثارة -بناء على تجربتها الشخصية - هو الانتباه إلى الآخر "(5). فالإثارة تنقسم إلى ما هو بيولوجي ، نفسي و سوسيولوجي ، إلا أنها تناثر بثقافة المجتمع و شروطه و خطوطه الحمراء . فحسب ابن خلدون، لا يجب علينا أن ننسى دور المناخ في تحديد مكانة وطبيعة الإثارة في مجتمع من المجتمعات. فما يثير الإنسان الصحراوي لا يمكن أن يثير من يعيش في شمال القارة الأوروبية. وفهم الإثارة يستدعي حسب المرنيسي البحث في جذوره . فالإثارة في رأي الباحثة بمثابة لعبة تشبه تلك اللعبة التي تربط الحياة و الموت مع الرغبة .

الحب و الجمال
الحب و الجمال يشبهان الأختين الرضيعتين. فعلاقتهما كانت في صلب اهتمام الكتاب و الفلاسفة منذ زمن بعيد. فتطور علم الجمال منذ عهد الإغريق حتى اليوم ،بدأ في اللغات الأوروبية" Esthetic"(استيك ) و هي مشتقة من الكلمة اليونانية "asthesis " و تعني الشعور أو الحس .و يعد علم الجمال من أقدم العلوم التي تطرق لها الفلاسفة و المهتمون بشؤون الفن و الفكر و الأدب. ولذلك، لا مناص من استحضار أحد ركائز الكلام الفلسفي عن الجمال و الحب. و اقصد بذلك ، الفيلسوف اليوناني أفلاطون من خلال محاورة المأدبة أو "في الحب"(6): فهو يبيِّن في هذا المحاورة ، التي جرى تأليفها في العام 384 ق م، كيف أن الوصول إلى الحقيقة يمكن أن يتحقق بطرق أخرى غير العقل، لأن هناك الـقلب، الذي يسمح لنا بالانتقال من مفهوم الجمال الحسِّي إلى مفهوم الجمال الكامل للمثال الجلي.

والمحاورة تختزل في قصة الشاعر أغاثون الذي أقام في منزله مأدبة للاحتفال بنجاح أول عمل مسرحي له. وفي هذه المأدبة قام سقراط ، بمحاولة لتحديد طبيعة الحب، متحاشيا الوقوع في شرك الجدال ، متمسِّكًا فقط بالحقيقة. فيستعيد كلمات ديوتيما، كاهنة مانتيني، للتأكيد على أن الحب هو عبارة عن "شيطان" وسيط بين البشر وبين الآلهة. فالحبُّ الأرضي يقودنا إلى الحبِّ السماوي. وهذا هو معنى ما سمِّيَ فيما بعد بـالحب الأفلاطوني، الذي هو الحب الحقيقي.

فإذا كانت محاورة المأدبة تعلمنا كيف نرتقي من حبِّ الجسد إلى حبِّ النفوس الجميلة، فإن الفيلسوف الألماني فريديريش هيجل يضع الفن ومن خلاله الجمال في صف واحد مع الدين و الفلسفة، و يصبح الفن بذلك أحد الطرق لمعرفة حقائق الروح الكلية . فهو يعتبر أن الجمال الذي نبدعه بوعي منا كأعلى أشكال المطلق أو الروح ،و لهذا فإنه يضع جمال الطبيعة خارج إطار جمالياته: يقول هيجل، "إننا محقون في افتراضاتنا أن جمال الفن هو أعلى من الطبيعة ،فجمال الفن جمال مبدع، مولود جديد للعقل، و بمقدار ما يبدوا الروح و نتاجه أعلى من الطبيعة و ظواهرها، كذلك يبدوا الفن أعلى من جمال الطبيعة ".

معايير ومقاييس الجمال ترتبط باختلاف البيئة و الثقافات و المحيط العائلي. فالجميل في مجتمع ما يعد قبيحا في بيئة مغايرة . و بالتالي، يسقط البعد الجمالي في نزعات ذاتية لا يمكن أن توحدها قواعد معينة. أما علاقة الرجل بالمرأة فتظل بؤرة أساسية ،لكنها مطوقة بخصائص اليومي ورهاناته المتعددة . أما ما يتجاوز ذلك، فهو في ارتباط بالجميل في ذاته أو الجمال الطبيعي الذي لا يخرج عن منطق الموضوعية النسبية أو الذاتية المطلقة. لقد حاول الفلاسفة طرح السؤال حول ما إذا كان الشيء جميلاً لأنّه يتوفَّر على خصائص الجمال وصفاته فيراه كلُّ إنسان جميلاً، أم أنّ الحكم على الجمال ذاتيّ يختلف من فرد إلى آخر طبقاً لخلفيّاته وميوله وذوقه؟ تتعدد الإجابات مما يفتح أمامنا نافذة فلسفية و اجتماعية ،تؤسس لمقدمات تدور حول البحث والتنقيب في خفايا الجمال و علاقته بمتاهات الحب.

خلاصة أولية:

إذا كان للحب متاهاته المختلفة، ولممارساته الاجتماعية خصائصها الزئبقية التي تظل نصا مفتوحا على القراءة و البحث، فإن لعبة المغامرة لفهم ما لا يفهم في الحب، تظل رهينة الرغبة في الإمساك بالمجرد، ورهان على الحقيقة، حقيقة الحب المفقود.

هوامش:
1- Fatima Mernissi, L’amour dans les pays musulmans, éditions Magrébines, 1986, Casablanca, Maroc.
2ـ ورد في كتاب فاطمة المرنيسي ، مذكور سابقا ، ص 23
3ـ فاطمة المرنيسي ، مذكور سابقا ، ص 25
4ـ فاطمة المرنيسي ، مذكور سابقا ، ص 37
5ـ فاطمة المرنيسي ، مذكور سابقا ، ص 45
6ـ الموسوعة الحرة وكيبيديا.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الناخبون في تشاد يدلون بأصواتهم لاختيار رئيس للبلاد


.. مقتل 4 جنود إسرائيليين بقصف لحماس والجيش الإسرائيلي يبدأ قصف




.. الانتخابات الأوروبية: أكثر من نصف الفرنسيين غير مهتمين بها!!


.. تمهيدا لاجتياحها،الجيش الإسرائيلي يقصف رفح.. تفاصيل -عملية ا




.. تهديد الحوثي يطول «المتوسط».. خبراء يشرحون آلية التنفيذ والت