الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكتابة عن الموت.. بكاء المقبرة الموحش

سعدون محسن ضمد

2007 / 10 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لذة الوجود غزيرة ورائعة وخصبة، وتشتد غزارة هذه الَّلذة عندما تعمل على استدعاء الرغبة بالبقاء، لكن الرغبة بالبقاء ومع كل ما تثيرة في الإنسان من قابلية على الصراع والمقاومة لا تستطيع أن تقف بوجه حتمية الموت.. فالموت لا سبيل إلى الخلاص منه.
وعند هذه النقطة تتقاطع الطبيعة مع إرادة الإنسان.. إذ تقف خيارات الإنسان عاجزة عند جدار الطبيعة القوي.
الموت حتم لا بد منه، ولأنه كذلك يخلق من خلال تقاطعه مع إرادة البقاء أهم محركات الجدل الذي يحرك حضارة الإنسان. ويصنع لنا التاريخ بكل ما يمتلئ به من ملائكة وشياطين وأنبياء وسحرة ودجالين وتكنولوجيا وثقافات... الخ.
الإنسان يجد نفسه دائماً بين حدَّين، حدُّ للولادة وحدُّ للموت، وبما أن حدَّ الولادة ربح وغُنْم فهو غير لافت للنظر، فالإنسان لا يلتفت إلا للغُرم.. أو للخسائر، إذ الشعور بالغبن يجرح مشاعر الإنسان جرحاً يرافقه لزمن طويل، وكثيراً ما يتحول لعقدة أو يترك عاهة نفسية تعرقل حياته الطبيعية، وهكذا يشعر الإنسان إزاء الموت بخسارته الفادحة، كل ما هو جميل في حياة هذا الكائن مهدد من قبل الموت، وربما أن التهديد الوحيد الذي يهدم الجدوى من وراء الحياة والفعل والبناء والإبداع هو الموت والموت فقط. تعلَّم الإنسان أن ينظر بإحدى عينيه لأشيائه الجميلة وبالأخرى لما اعتاد أن يسميه بـ(سالب اللذّات ومفرق الجماعات)، ازدواجية المشاعر هذه هي التي أقلقت حياة الإنسان وجعلته يبحث عن المنقذ من الموت ويسأل أسئلة المصير التي ولدت الفلسفة وأنتجت التراث الفكري عبر تاريخ الإنسان. لكن هذه الازدواجية ومن جهة أخرى لم تترك للإنسان سبيلاً للحياة الهانئة أو السعيدة، فدائما هنالك محطة يقف فيها الإنسان عند أزمة محزنة يتسبب بها الموت، أو يلعب لعبتها الكبرى.
الموت استوقف الإنسان إذاً، هدَّده بالفناء والعدم، أخافه من المجهول وأغاضه وهو يُفقده خلّانه وأبناءه وكل أحبائه.. ما هو الموت، وكيف السبيل للخلاص منه؟ هل يمكن أن يكون الموت حافَّة يقف عنده الامتداد ولا يكون بعدها (بعد)؟ هذه هي الأسئلة التي واجه بها الإنسان نفسه يوماً ما، وفشل بالإجابة عليها.
مع الموت خاض الإنسان معركته التي ما انفكت تذيقه الهزائم. مع الموت لم ينتصر الإنسان أبداً.. لذلك فقد قرر أن يحول هزيمته لانتصار من نوع آخر؛ وذلك عندما عمل على محاور عدَّة، كان من أبرزها محور الخيال والأسطورة، محور الواقع البديل . فقرر الإنسان، أن الموت بقاء من نوع آخر؛ تخيَّل ذلك. فقط ليتخطى الخوف من العدم، أو الشعور بالغبن الذي يجلبه اليقين بأن ما بعد الموت هو العدم ليس إلا.
لا يستطيع الإنسان أن يبني حضارته وهو موقن بأن العدم سيلتهمها بأية لحظة وإلى الأبد.
ليس هناك مجتمع أو ثقافة ـ بحدود علمي ـ يؤمنان بالعدم بعد الموت، الأديان كلها، السماوية و(الأرضية) كلها تؤمن بالحياة بعد الموت، أي أنها تحاول أن تُؤمِّن للإنسان طموحه بحياة أبدية خالدة.
لكن اللافت للنظر أن المجتمعات في إيمانها هذا لا تستند لمعطيات موضوعية، بل ذاتية، التاريخ لا يخبرنا بأن الإنسان اختبر يوماً ما، الموت، أو أنه تخطّاه، أو فعل أي شيء يثبت له حقيقة ما يفضي إليه هذا المسمى (موتاً). لكنّه مع ذلك موقن بأنه يفضي للبقاء الأكثر ديمومة، للوجود الحق، فكيف تأكد من هذه الحقيقة الخطرة؟
تسالم الحضارات على هذه الحقيقة يعني أنها كعقيدة ليست من نبت البحث والتقصي أو التأمل، بل هي من نبت أرض أخرى. أرض مشتركة بين كل هذه الحضارات. وهذه الأرض هي الخوف من العدم المتضمن بالموت، هذا الخوف الذي دفع الإنسان تجاه خلق حياة ما بعد الموت، منطلقاً من الوجود والرغبة والخوف، فكان الموت كذلك واهباً للوجود، ومانـحاً لجميع أنواع الرغبات.
ومع أن الموت وبما يتضمنه من نفي للبقاء أمر مخيف جداً، إلا أنني لم أعايش الخوف من الموت كثيراً، مرات قليلة تملكتني تلك الرعشة المخيفة من الموت، في إحدى تلك المرات كنت في رحلة لمدينة النجف لأدفن عجوزا قريبة لي، وسوى أن عملية الدفن حدثت بعد حلول الظلام، لم يتخلل الرحلة ما يثير الحفيظة. فمن المعروف أن مقبرة النجف الكبيرة والواسعة جداً تكون مخيفة في مثل تلك الأوقات. انشغال الحفارين بحفر القبر دفع بأقاربي للدخول بجدل حادّ حول مواقع قبور العائلة، ولأنني دائماً أهمل الجغرافية والتاريخ فقد أعرضت عنهم وقررت أن أنشغل بقراءة القرآن وأنا أراقب جسد العجوز الملفوف بالأبيض والمسجى أمامي. انشغلت بالقراءة وغرق الآخرون بجدل حادّ.
كانت تلاوتي للقرآن تبتعد بي عن لغطهم، وبدت لحظات السكون التي كانت تتخلل الآيات التي أقرأها هادئة، لكن شيئاً فشيئاً أخذ هذا الهدوء ينسحب بخفة، أو أن سكون المقبرة، أخذ يوقظ بداخلي الأسئلة المتعلقة بالموت والتي يبدو أنني كنت أهرب منها بقراءة القرآن. بدأت أصغي السمع، وأبحث بين ركام الأصوات من حولي عن صوت ما.. صوت بدا بأنني مقبل على سماعه، أصغيت، وأصغيت، وشيئاً فشيئاً تناهى لسمعي نـحيب غريب جداً، نـحيب مخيف إلى أبعد الحدود.. بكاء مر، أو ربما مُرَوَع، نشيج خائف ومرعوب ومحاصر. ليست هناك أوصاف يمكن لها أن تعبِّر عمّا شعرت به من رهبة خلال تلك اللحظات.
يا إلهي توقفت عن التلاوة، فلم ينقطع الصوت، نهضت واقفاً فاستمر، جلت ببصري ناحيته فلم أستطع أن أتبين شيئاً، الظلام حالك ولا يمكن أن تكون هناك إمرأة مجنونة تغامر بالبقاء بين القبور. انتبهت بعد ذلك بأن لا أحد غيري يسمع الصوت أو ينتبه له، بعد ذلك بدقائق أخذ البكاء يختفي تدريجياً واختفى معه كل الخوف الذي انبعث معه، ولم يبق غير رعشة خفيفة بقيت تهز جسدي، حتى خلال رحلة العودة إلى البيت.
لحظات الاستغراق بالذاتية التي مررت بها في تلك التجربة، هي البوابة التي دخل من خلالها الإنسان عالم الخيال (السماوي) لم تكن هنالك امرأة حتماً، فلم أكن وحدي من يمتلك أذنين، ولو كان الصوت حقيقياً لسمعه الحفارون أو بقية أقاربي. الصوت لم يكن حقيقياً، بل الظروف كلها التي كانت تحيط بي لم تكن حقيقية، لقد أدخلت نفسي ومنذ لحظة شروعي بقراءة القرآن داخل مكان ذاتي وليس موضوعيا، وعليه كان من الطبيعي أن تستيقظ داخل نفسي مشاعر وأحاسيس ومخاوف يمكنها أن تخلق حتى امتداداً حسياً. فالحواس بنهاية المطاف ممر للوعي، الحاسّة لا تكون فعالة ما لم يكن الوعي فعّالاً ليقوم بترجمة معطياتها وفهمها والتفاعل معها، أي أن الوعي هوالذي يتحسس وإذا أصاب الوعي خلل ما فإن هذا الخلل ينعكس على ترجمة الرسالة المنقولة له من قبل الحواس، وعقاقير الهلوسة التي تؤثر على العلاقة بين الوعي والحواس خير دليل على ذلك، فكما هو معروف هناك عقاقير تجعل الوعي يتوهم رسائل حسية غير واقعية.
عموماً، في بعض الأحيان وعندما يكون الوعي فعّالاً أكثر مما ينبغي فإنه يستطيع أن يخلق تفاعلات غير مرتبطة بالحواس، فتكون هناك انفعالات سمعية أو بصرية لا ترتبط بالواقع مع أنها توحي للمتلقي أو المتفاعل أنها كذلك، وهذا بالضبط ما يحصل في تجارب التصوف وكل تجارب الوهم التي تبدو وكأنها حسّية.
والسؤال المهم في هذا الإطار هو: هل صنع خيال الإنسان في يوم من الأيام تجارب حسية صورت له امتدادات ما بعد الموت؟









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المحكمة العليا الإسرائيلية تلزم اليهود المتدينين بأداء الخدم


.. عبد الباسط حمودة: ثورة 30 يونيو هدية من الله للخلاص من كابوس




.. اليهود المتشددون يشعلون إسرائيل ونتنياهو يهرب للجبهة الشمالي


.. بعد قرار المحكمة العليا تجنيد الحريديم .. يهودي متشدد: إذا س




.. غانتس يشيد بقرار المحكمة العليا بتجنيد طلاب المدارس الدينية