الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاسلام والديمقراطية

نبيل ياسين

2007 / 10 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



سيكون البحث في الاسلام والديمقراطية معقدا،من الناحية الموضوعية،اذا وضع الاسلام برمته امام الديمقراطية.اولا لان الاسلام اصلا معتقد سماوي من المجازفة مقارنته بآليات سياسية وحقوقية وضعية متحركة. وثانيا لان الديمقراطية اسلوب لنظام يقوم على سياسية ومؤسسات فصلت الدين عن الدولة وبالتالي فان الديمقراطية لاتنظر الى التشريع عبر البرلمان الا بديلا عن التشريع الكنسي الذي ساد لقرون طويلة.
فضلا عن ذلك فان الديمقراطية تقوم على تكامل مؤسساتي مدني لادخل للدين فيه الا بقدر كون الدين مؤسسة ملتزمة بالقانون الذي يحافظ على حقها في ممارسة دينية مقابل ممارسة جميع المؤسسات الاخرى لحقوقها،بما فيها المؤسسات المتعارضة مع الدين، وبضمنها تلك التي تعتنق فكرة الالحاد.
هكذا سيتعارض الاسلام مع الديمقراطية منذ نقطة الانطلاق. وستكون فكرة الشورى مطروحة كبديل عن الديمقراطية.غير ان الاسلام من ناحية اخرى مجموعة من المؤسسات هو الآخر. والمؤسسة السياسية،من خلال قراءة موضوعية للتاريخ والتجربة التاريخية، ليست بالضرورة مطابقة للايمان والقرآن والسنة النبوية. وهذا يعني ان الشورى ليست بالضرورة تجربة تاريخية ارتبطت بالممارسة السياسية للخلافة الاسلامية.والاصح ان غياب الشورى كان طابعا بارزا للنظام السياسي للخلافتين الاموية والعباسية اللتين حكمتا باسم الاسلام واستمدتا شرعيتهما في الحكم بادعاء تطبيقه .
تبدو الوصايا الالهية للانبياء والمرسلين التي وردت في القرآن مرتكزة على بناء اخلاقي اجتماعي اكثر منه سياسي .وابرز فكرة وردت في هذه الوصايا هي الايمان بالله . اي ان المنطلق الاسلامي يقوم على الدعوة لوحدانية الله والايمان به. وتتوزع عن هذه الدعوة نظم اخلاقية واجتماعية متعددة وردت في قصص الانبياء مثل هود ولوط وصالح وابراهيم ترتبط بالايمان بوحدانية الله .وهذه المنظومة الاخلاقية والاجتماعية المرتبطة بالايمان بالله يمكن ان تكون نظاما مدنيا للجماعة التي تعيش في ظله يلتزمون به طوعيا كونه التزاما اخلاقيا للجماعة . هكذا هي حال الانظمة الديمقراطية التي شكلت عقدا يتم احترامه والالتزام به طوعيا.
من هذه النقطة المشتركة بين الاسلام والديمقراطية يمكن الانطلاق.واذا توخينا المقاربة بين السماويات والوثنيات من الناحية الاخلاقية والاجتماعية سنجد وصايا وتعاليم مشتركة من الناحية المدنية.وما يفصل الوثنيات عن السماويات يقوم على الواحدية والتعددية بالنسبة للاله او الآلهة والتجسيد في الوثنيات لعدة آلهة.فالنظام الاخلاقي للمجتمع يقوم على توافق في تحريم او تحليل الافعال.فالسرقة محرمة في السماويات والوثنيات كما هو القتل والظلم والزنا مثلا.وهي محرمة خارج الفترات الزمنية لوضعها.اي انها محرمة ازلية سواء في الماضي او الحاضر وسواء في الشرق او الغرب، وسواء في الامبراطوريات الكبرى او في المشاعات القروية الصغيرة المعزولة. هذا يعني ان النظام الاخلاقي الاجتماعي لايشكل افتراقا بين السماويات والوضعيات المعاصرة .
ان اختراق النظام الاخلاقي شكل محرما في القانون والفقه. غير ان الاختلاف في تنفيذ العقوبة كان مثار اختلافات في زمكان الفعل . وبالتالي فانه في الانظمة الاوربية المعاصرة، سواء كانت ديمقراطية ليبرالية ام اشتراكية شمولية, شهد تطورا في موقعه الاجتماعي بالنسبة الى الفعل كفعل محرم.فالزنا مثلا تختلف عقوبته من دولة الى اخرى حسب الموقف الاجتماعي منه.انه مايزال قانونيا فعلا غير سوي.ورؤية الزنا في بلدان اوربا لاتفرض اقامة حد عام وتترك الى الشخص المعني مباشرة. وغالبا مايكون الطلاق او الافتراق بين الزوجين هو العقوبة وليس الرجم.اي ان العقوبة في الانظمة الديمقراطية في الزنا لم تعد حقا عاما وانما مسألة شخصية.غير ان السرقة مثلا بقيت حقا عاما يطالها القنون الجنائي وكذلك القتل والاختلاس والتزوير وغيرها من الخروقات الاخلاقية .
هذا يعني ان ماكان عقوبة دينية اصبح مختلفا في موقعه في المجتمع بقدر موقع الدين في المجتمع وعلاقته بقانون السلطة السياسية وليس بقانون الدين .
غير ان الاسلام يختلف في هذه النقطة.فالمؤمنون،خاصة مشايعي الحركات الاسلامية ،يصرون على انه دين يشمل جميع الجوانب الشخصية للفرد والجماعية للمجتمع .وهو يتجاوز حق الفرد وعمله الطوعي.وهذا العمل الطوعي كان ينطوي تحت الاعتراف بالوهية الله ونبوة النبي محمد.والانسان الفرد نفسه يراقب تنفيذ هذا الاعتراف دون تدخل مباشر من قبل السلطة الدينية. فالسلطة الدينية هي الناس الذين يعترفون بالاسلام دينا وليس الحاكم.وهذه التجربة كانت تجربة الرسول والخلفاء الراشدين عدا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي تدخل في تنفيذ هذا الاعتراف بالله وبالنبوة في بعض ممارساته التي اتسمت بالصرامة.اما من حيث الاجراءات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فلم يكن تدخله ينم عن صرامة كالتي اتسم بها تدخله في امور الصلاة مثلا.واكثر من ذلك فانه كان يستشير عددا من الصحابة خاصة الامام علي بن ابي طالب في عدد من الاجراءات الاقتصادية والسياسية،مما يعني ان الافق مفتوح في هذا الجانب وان هناك انفصالا يمكن ان يقوم مابين واجبات الايمان بالله والنبوة والاجراءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
وهذه ايضا نقطة التقاء مابين الديمقراطية والاسلام .
واذا كانت الديمقراطية نظاما سياسيا لادارة العلاقة بين الدولة والمجتمع من جهة ، وادارة الصراعات الاجتماعية بصورة سلمية من جهة اخرى، فان الاسلام ليس نظاما سياسيا . انه دين سماوي يقوم على الاعتراف بواحدانية الله وممارسة مجموعة من الشعائر التي تؤكد هذا الاعتراف. وفي هذا السياق فان الدولة ليست صيغة دينية . اي انها ليست جوهرا ومضمونا للدين . انها الوعاء او الشكل الذي ينظم العلاقات الاجتماعية بين المؤمنين وليس علاقة المؤمن بالله . ولا يرد شكل الدولة في القرآن او الاحاديث النبوية بقدر مايرد تنظيم العلاقة بين الله والمؤمن ، وبين المؤمنين كمجموع باعتبارهم متوحدين بوحدانية الخالق . وفي هذا الاطار اختلف شكل وتنظيم الدولة في الاسلام كما اختلفت طبيعتها .
فضلا عن ذلك فان الديمقراطية نظام يحد من سيطرة الدولة على جميع المرافق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع . اي ان الديمقراطية تقوم على تعددية لمؤسسات مدنية تقوم بالحد من تحول الدولة الى دكتاتورية فردية او حزبية او دكتاتورية طغمة او عائلة او جماعة . انها بتعبير سئ : تقمع تحول الدولة الى مؤسسة بيد دكتاتورية الفرد او الحزب او العائلة او الطغمة .
هنا ايضا يمكن ان نعثر على نقطة التقاء كون الاسلام دين يعطي الجماعة قوة الضغط على السلطة كي لاتتحول الى ملك عضوض او كي لايساء استخدام السلطة من قبل فرد او عائلة او طغمة . وبالطبع نحن هنا لانتحدث عن التاريخ وانما عن الاساس النظري للعلاقة بين السلطة والفرد في الاسلام كدين . هذا يعني ان الجماعة تملك حق الاختيار والنقض كما تملك حق المراقبة وليس العكس . اي ان الجماعة هي التي تملك حق مراقبة السلطة وليس العكس .
غير اننا اذا عالجنا الدولة و الدين في الاسلام من وجهة نظر سياسية معاصرة فاننا سنجد عدة اسئلة مطروحة حول مفهوم الدولة الاسلامية ومجتمعية الدين . ويمكن النظر الى مفهوم الدولة في الاسلام فيما اذا هي نص ام واقع ؟ كما يمكن طرح اسئلة عن التاريخ الاجتماعي للدولة في الاسلام وهل هي دولة قامت على المبررات الدنيوية ام المبررات الدينية ؟لان ذلك سيقودنا الى معرفة اليات عمل السلطة في الاسلام وما اذا كانت هذه الآليات تشبه آلاليات الديمقراطية في الغرب ام لا ؟
الاسئلة حول مفهوم الدولة الاسلامية لم تعد مطروحة على الاسلاميين وحدهم فقد اصبحت مطروحة على غير الاسلاميين من العلمانيين الذين تقوم علمانيتهم على اساس سياسي يستند على الفصل بين المهمات الدينية والمهمات السياسية.
ان المشكلة الاساسية يواجهها مفهوم الدولة نفسه.فالدولة لاتقوم على مضمون وانما على «شكل».وهذا الشكل بالذات يخضع الى «مفاهيم» اكثر مما يخضع لوقائع. وسبق لي ان عالجت مشكلة المفهوم حتى بالنسبة للدولة الاسلامية في مقالة سابقة في احدى الصحف اللندنية (٭).فالمفهوم هو نتاج الوقائع التي تصوغه على شكلها في اول مرة،لكن المفهوم سرعان مايثبت ليقوم بقياس الوقائع الجديدة التي يطالبها بمطابقته دون ادنى تقدير للتطور الذي يحصل على الوقائع.وهنا تتجلى المشكلة المفهومية في جميع الافكار السياسية والاجتماعية وتلعب دورا اساسيا في الصراع الايديولوجي الذي يقوم على المفاهيم ولايحيد قيد انملة عن دوغمائياته التي تعارض الحياة.ومن الواضح ان الصراع الايديولوجي في العالم العربي منذ الخمسينات حتى اليوم،هو صراع مفاهيم لا صراع وقائع.ومعنى ذلك ان المفهوم لايتخلى للحقيقة عن دوره.ويصبح التطور والتنمية،مثلا، مجرد مفهومين في الايديولوجيا السياسية العربية،ومفهومين دعائيين يدخلان في جملة ادوات الصراع السياسي والاجتماعي والايديولوجي.
والمشكلة الثانية ان اعادة انتاج الوقائع على ضوء المفاهيم لاتعيد انتاج المفاهيم نفسها. واذا طبقنا هذا على الدولة القومية والدولة الاشتراكية والدولة الدينية سنجد ان مفاهيمها ثابتة في تصور نظري ثابت يضحى بالوقائع لاجل البرهنة على صحة المفهوم .
هل الدولة الاسلامية دولة ايمان ، ام منافع ؟ وهل الدولة الاسلامية دولة الامامة ام دولة الخلافة ؟ دولة الشريعة ام دولة السياسة ؟ دولة الامة ام دولة الفرد والعائلة ؟
انها اسئلة لن يجد الاسلاميون عليها اجوبة نافعة لهم في التاريخ والوقائع الاسلامية . لكن من الممكن الاجابة عنها بسهولة في المفاهيم المتداولة عن الدولة الاسلامية نفسها بين الاسلاميين .بيد ان ذلك لن يحل المشكلة بل يزيدها تعقيدا ويجعلها على تناقض مع نفسها لان « المفاهيم » هي التي ستجيب وليست الوقائع .
اسئلة الدولة الاسلامية كما قلت مطروحة من قبل الاسلاميين والسياسيين المدنيين لانها مشروع سياسي قائم ضمن ماهو قائم من مشاريع سياسية ، لكن صواب طرحه لايعتمد على التاريخ وحده . ولا على المنطلقات المفهومية النظرية وحدها .
لقد فشلت مشاريع الدولة القومية العسكرية والمدنية ، كما فشلت مشاريع الدولة الاشتراكية ، والدولة الثورية التي كانت الغطاء لهذين الشكلين من اشكال الدولة . اذن مايطلق عليه « الاسباب الموجبة » لاصدار هذا الحكم قائمة ، واكثر من ذلك فان اطروحة ان مثل هذه الدولة ستعيد الوجه الحضاري للعرب والمسلمين بتمسكهم بدينهم ، لن تكون دعامة فقهية او مادية لتبرير الدعوة الى الدولة الاسلامية ، اذ عادة ماتكون هذه الديباجة المعتادة امنية ينقصها البرهان على صحة وقائعها التاريخية في التاريخ العربي الاسلامي نفسه الذي لن ينجد دعاة الدولة الاسلامية كثيرا . فالعوامل التي صنعت الوجه الحضاري للعرب المسلمين لم تكن بالضرورة عوامل دينية بحتة ولم تنطلق من الشريعة والفقه بالدرجة الاولى .لكن دعونا نرى الفرق الهائل ، حتى في تاريخ الاسلام ، بين استخدام الدولة لتحقيق ذلك ، واستخدام الوسائل الدعائية او الدعوتية لانجاز هذا الهدف . فالاسلام لم يصبح دينا لمسلمي مكة ، وحتى مسلمي الجزيرة باستخدام الدولة ، لانه ببساطة لم تكن هذه الدولة قائمة اثناء ظهور الاسلام . بل لم يكن لدى النبي وسائل اغراء او اكراه مادية مما تستخدمه السلطة او الدولة عادة سواء منها ما هو قرار حكومي ملزم بالاكراه او اجراء شمولي ضد المجتمع . وبالتالي فالدولة غير ملزمة بتطبيق الاسلام من وجهة النظر هذه .
عادة ما ينزع كل فكر الى تكوين اطاره السياسي ليعبر عن نفسه من خلال اداة الدولة او التنظيم.والفكر الاسلامي (وليس الاسلام نفسه) ينزع كذلك الى مثل هذا الاطار. لكن المشكلة هي هنا بالضبط قدر تعلق الامر بالاسلام وبمفهوم الدولة معا . المشكلة في البحث عن «شكل »و«طريقة »تطبيق هذا الاطار . ولما كان هذا الاطار عادة ذا طابع سياسي او شكل سياسي فان الاسلام السياسي هو الوسيلة الوحيدة للمطالبة بهذا الاطار .وهنا حصلنا على امرين سوية هماالاسلام كدين والدولة كوعاء للسلطة التي تحكم.اذن الدولة ليست بالضرورة ملازمة للاسلام،ولكنها شكل يمكن ان يتجلى فيه. وتاريخ الاسلام نفسه ، يدلنا على دول اموية وعباسية وفاطمية وعلوية وعثمانية وبويهية وسلجوقية وتترية ومملوكية وغزية وغيرها تجلى فيها الصراع على السلطة بعيدا عن اي وازع او هدف ديني، سوى ان هذا الاخير كان راية خاضت تحتها جميع الاطراف المتصارعة صراعها ضد بعضها البعض مستخدمة الاسلام باعتبار ان قدسية حربها وصراعها مستمدة من السالام الذي يحارب بعضه البعض الآخر.اما الاسلام ،الدين ، فقد كان خارج ذلك تماما،ممثلا في مسالك الفقهاء والمثقفين المسلمين والقضاة والزهاد ورجال الحديث من الصحابة والتابعين وغيرهم الكثير في تاريخ الاسلام ممن تجنبوا لعبة الدولة لصالح التمسك بالدين.والامثلة على ذلك اكثر من ان تحصى من ابي ذر وعمار بن ياسر والحسن البصري وواصل بن عطاء حتى ابي حنيفة وسفيان الثوري ومالك بن دينار واحمد بن حنبل والفضيل بن عياض وعمر بن عبيد وغيرهم ممن كانوا يتجنبون الدخول في الدولة .بل ان الخليفة عمر بن عبد العزيز عد الخلافة بلاء ، وبذلك عبر عن تجسيد موقف الفقهاء والمثقفين المسلمين،كما اعتبرها سلفه الخليفة عمر بن الخطاب وزرا حين رفض توريثها لابنه عبد الله بن عمر قائلا «يكفي آل الخطاب ان حمل وزرها واحد منهم ».او كان ممثلا بالمجموع العام للمؤمنين الذين بلعوا غصة التناقض بين ايمانهم وبين سلوك واجراءات الحكام المسلمين من امراء المؤمنين الامويين والعباسيين والعثمانيين.ان جمهور الامة المتوزع في ارجاء الامبراطورية الاسلامية يواصل اسلامه دون امر ديني من الدولة ودون ان ينخرط في صراعها مع الاتجاهات الاسلامية الاخرى المتصارعة لا على اسلامية الدولة بل على الدولة نفسها . فهل من اللازم ان يرتبط الايمان بالدولة ؟
لو اخذنا بشكل اكاديمي وحيادي ، صور الخلافة الراشدة الاربعة ، اي الطريقة التي تم بها استخلاف كل من ابي بكر وعمر وعثمان وعلى، وعرضناها على استاذ في العلوم السياسية لاخلفية لديه عن هذه الصور ، وطلبنا منه تصنيفها في«نظام حكم» او في طرق الوصول الى «السلطة »او«الدولة» كما يؤمن البعض فكيف يصنفها ؟
من المؤكد انه سيجد اربع طرق تختلف الواحدة عن الاخرى اختلافا واضحا.فمجئ ابي بكر الى الخلافة يختلف عن مجئ عمر اليها كما يختلف مجئ ابي بكر وعمر عن مجئ عثمان، مثلما يختلف مجئ عثمان عن مجئ عمراو مجئ ابي بكر كلا على حدة، مثلما يختلف مجئ على بن ابي طالب الى الخلافة عن كل من الخلفاء الثلاثة منفردين او مجتمعين .
فضلا عن ذلك سنذهب الى رؤية الطريقة التي انتجت خلافة ابي بكر دون ان تضع قواعد لخلافة عمر وعثمان وعلي ومن بعدهم .
ففي سقيفة بني ساعدة كان الصراع على اشده بين المهاجرين والانصار الذين كادوا ان يخطفوا الخلافة فطرح عمر بن الخطاب مجموعة من المبررات التي ظهرت في سياق الصراع ولم تكن جاهزة من قبل.فلكي يبعد الانصار عن الخلافة حصرها بالمهاجرين. وكانت هذه خطوة موفقة اولى لغلق الباب امام الانصار وتضييق ميدان الصراع على الخلافة.لكن الباب انفتح هذه المرة امام قوى عديدة في المهاجرين انفسهم ، شخصيات وقبائل، فجاءت الخطوة الثانية لاخراج هذه القوى من الحلبة، فقصر الخلافة على قريش. هنا ضيق من مساحة الصراع على الخلافة لمزيد من التحكم بادارة هذا الصراع،الذي سرعان مافتح ابوابا اخرى. فالهاشميون كانوا ،بمنطق حصر الخلافة بالمهاجرين وقريش، اقرب الى هذا المنطق الذي اعتمد عليه عمر، لأن النبوة فيهم . ومن هنا بالضبط سينفتح الصراع ، لان الاسس التي صاغها عمر كمبررات لخلافة ابي بكر ستكون مبررات للهاشميين بنفس منطق تضييق الصراع من القريب الى الاقرب ومن الفاضل او المفضول للافضل
ولو كان الشكل الراشدي قياسا دينيا او فقهيا بشكل ادق لوجب عدم اتباع التوريث من قبل معاوية وما بعده، لان هذا العهد لم يورث ، حتى ان عمر بن الخطاب رفض نصيحة بترشيح ابنه عبدالله بن عمر للخلافة . وقياسا على ذلك يصبح توريث معاوية ليزيد وما جرى بعد ذلك من توريث باطلا لايتناسب مع الموروث الاسلامي .
اذن نحن امام اشكال متعددة ومفاهيم مختلفة للحكم في الاسلام ، كما اننا امام اسئلة عميقة عن طبيعة هذا الحكم نفسه ومدى وصوله الى الممارسة السياسية ، وهل ان هذه الممارسة من حروب ومعاهدات واجراءات كانت دينية اصلا ام استمرارا لماقبل الاسلام ، لكن بقوة مركزية شاملة . وهل ان الخليفة منصب ديني ام سياسي ام الاثنين معا؟ وفي هذه الحالة ماهو دور المؤسسة الدينية التي ظهرت فيما بعد بواجبات دينية لا صلاحية سياسية مباشرة لها ، بحيث كرست الفصل بين الدين والدولة ، فليس من واجب الفقيه ورجل الدين ادارة المجتمع او الدولة ، وانما من واجب السلطة السياسية الممثلة بالخليفة ، الذي رغم صفته الدينية ، كان لايبت بالقضايا الدينية دون العودة الى رجل الدين الذي اقتصر على الافتاء وتوضيح الامور الفقهية لاغير .
كل هذه الامور تعيدنا الى الاقرار بعدم حسم قضية الدولة الدينية حسما اخيرا . وعلينا ، قدر تعلق الامر بالدولة في الاسلام ، العودة الى ماحدث في سقيفة بني ساعدة ، لنرى حقا ، طبيعة العلاقة بين الدولة والاسلام وطبيعة السلطة السياسية فيه . فمن هذا المكان انطلق الصراع لا على الخلافة فحسب ، بل على الطريقة التي يتم فيها تعيين او اختبار الخليفة ، والمهمات التي يمارسها وطبيعتها الدينية او السياسية.
هذا يعني ان الحديث عن الاسلام والديمقراطية مرتبط قبل كل شئ بطبيعة الدولة في الاسلام وبالطريقة التي تدار فيها العلاقة بين الحاكم والمسلمين .
في هذه السقيفة لم يكن احد ،لا ابوبكر،ولا عمر، ولا سعد بن عبادة يدرك بالضبط ، لا نظام الادارة ولا ادارة السلطة، سواء السياسية او الدينية. اكثر من هذا لم يكن احد منهم يدرك على وجه الدقة ماذا ينبغي ان يكون النظام او الحكم القادم. فالقضية كانت تستند برمتها على استمرار الاسلام كدين. فابوبكر يستخدم كلمة «الامر» كما قال سعد بن عبادة يحث الانصار« فشدوا ايديكم بهذا الامر» وقال الحباب « فيذهبوا بنصيبكم من هذا الامر» وهكذا نرى ان الموضوع ملتبس اساسا على المسلمين بعد وفاة النبي.فالنبوة الت انتهت لم تترك وراءها شكلا آخر من اشكال السلطة.فالسلطة لم يكن لها شكل محدد لا عند المهاجرين ولا عند الانصار ، كما ان طبيعة ومضمون هذه السلطة لم يكن واضحا. ولم يكن واضحا ما اذا كانت سلطة ام لا . واشتداد النزاع بين المهاجرين والانصار لم تكن له شرعية دينية ولكن كانت له مبررات سياسية وقبلية واجتماعية . وعلى الرغم من اعتماد الطرفين على عناصر دعم دينية مثل «اول من اسلم» للمهاجرين و «اول من نصر» للانصار الا ان هذه كلها كانت مبررات وليست مبادئ اساسية لتوصيف السلطة .فتقاليد الحكم لم تكن قائمة حتى في السقيفة ، كما لم تقم في مكة والمدينة .
لقد حاول العباس مبايعة على بن ابي طالب، وحاول الانصار مبايعة سعد بن عبادة،وحاول عمر وابو عبيدة مبايعة ابي بكر،حتى ان مؤلف كتاب «الامامة والسياسة» يقول «فاتى الخبر (اي خبر مبايعة الانصار لسعد بن عبادة )الى ابي بكر ، ففزع اشد الفزع ) ولا يمكن تفسير هذا الفزع دينيا اطلاقا.فليس هناك ادنى شك في ان الانصار مسلمون، وان اختيارهم لسعد يعبر عن ارادتهم رغم انهم ليسوا كل المسلمين . وكان يمكن اعتبار ذلك ترشيحا منهم لزعيم انصاري لذلك «الامر» الذي لم يتضح بعد ما هو : هل هو ديني ام دنيوي؟ثم ان اتهام ابي بكر للانصار بالظلم اذا لم يؤيدوا مطالبه يعتبر اتهاما سالفا غير مبرر ولايقوم على اسس دينية،انما على ذرائعية واضحة ، فهو يقول عن نفسه «انهم احق الناس بالامر لاينازعهم فيه الا ظالم» ولايوجد نص لا في القرآن ولا في الحديث النبوي يتهم من ينازع المهاجرين على الخلافة بانه ظالم لكي يكون مبررا لابي بكر يستند عليه في دفاعه من اجل الخلافة. كما ان الذي حسم موضوع «الامر» لابي بكر هو التنافس القبلي بين الاوس والخزرج وليس المبررات الدينية التي ساقها ، لان المبررات الدينية تنطبق على علي بن ابي طالب اكثر مما تنطبق على اي شخص آخر، لان هذه المبررات ستكون عونا لعلي بن ابي طالب في مطالبته بالخلافة وفق الافضليات التي عددها ابو بكر مثل «اول الناس اسلاما» و «نحن عشرة رسول الله» وقد اعطى ابو بكر نوعا من العصبية القبلية في مبررات الخلافة في قوله«نحن اوسط العرب انسابا» في حين ان الاسلام لم يؤكد على مثل هذا النسب كافضلية. كما ان الشورى لاتستند على النظام القبلي والحسب والنسب، وقد كرر عمر مثل هذه الاطروحة في رده على الانصار قائلا «لا يرضى العرب ان تؤمركم ونبيها من غيركم،ولكن العرب لا ينبغي ان تولي هذا الامر الا من كانت النبوة فيهم واولو الامر منهم.لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين،لا ينازعنا سلطان محمد وميراثه (وكلمة ميراث تناقض هنا الحديث الذي اثار المشكلة بين فاطمة وابي بكر حول فدك )ونحن اولياؤه وعشيرته الا مدل بباطل او متجانف لاثم او متورط في هلكة» .
نحن هنا اذن امام مبررات لا نص دينيا فيها لا من القرآن ولا من السنة.انما حجج ساقها عمر في سياق النزاع،وهي حجج ومبررات تستند على وجهة نظر عمر ومنطقه في سياق تدعيم موقف ابي بكر لوراثة «سلطان وميراث محمد» ، في حين ان النبوة لم تكن سلطانا ولاميراثا، كما ان احالة من يختلف مع ابي بكر وعمر في حقهما بهذا«السلطان والميراث» الى الباطل والاثم سابقة لم يشهدها الاسلام في عهد الرسول الذي لم يمارس هذا النوع من الاكراه الديني والتأثيم الاعتباطي. بينما لم يرد مثل هذا التكفير من الانصار وخطبائهم خاصة الحباب بن المنذر الذي تصدى لعمر. فضلا عن ان اطروحة ابي عبيدة مخاطبا الانصار«انتم اول من نصر وآوى فلا تكونوا اول من يبدل ويغير» اطروحة لاتستند على تقليد او عرف او نص ، فماذا يغير ويبدل الانصار ولم يسبق ان كان هناك تقليد لحكم او خلافة.فنحن اذن امام حجج وقتية ساقها ظرف الدفاع عن الموقف الآني الملح ، رغم افتراض ابي بكر ان ذلك « الامر » هو « خير ساقه الله اليهم » اي الى ابي بكر وعمر اللذين تكلما باسم المهاجرين . وليس هناك من نص قرآني او في السنة يؤكد ان هذا الخير ساقه الله للمهاجرين من دون المسلمين الآخرين . وعلى العكس من ذلك فقد اعتبر النبي الولاية والامارة شرا حين سأله عمه العباس ولاية فلم يوله .
واذا كان ابو بكر قد حصر الخلافة فيمن كانت النبوة فيهم فهذا يعني ان تكون الخلافة في بني هاشم حصرا حسب منطق ابي بكر الذي يشابه منطق عمر في حصر الخلافة بالعلاقة بالنبوة وهو حصر يعطي الحق بالخلافة لعلي بن ابي طالب دون غيره حسب منطق عمر وابي بكر .
من كل ذلك يتضح ان موضوع الحكم الاسلامي موضوع دنيوي لا علاقة لمفرداته السياسية والادارية والاقتصادية بمفردات الدولة ، واكثر من ذلك لم يكن « الخليفة » متفرغا للخلافة حيث ان ابا بكر لم يكن يقبض راتبا ولم يكن له مورد من ( الدولة ) التي يفترضها عدد من الاسلاميين حتى انه كان يبيع القماش وهو خليفة وكذلك عمر بن الخطاب وعثمان علي ، كما لم يكن هناك « تعيين » محدد لواجباتهم وصلاحياتهم واسلوب ادارتهم وطريقة تعيين ولاتهم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان


.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_




.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال


.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس




.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال