الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن الحارة .. هل كان حقاً جميلاً ؟

محمود الباتع

2007 / 10 / 22
المجتمع المدني


لابد لأي إبداع أو عمل فني مهما كان من أن يصاغ ضمن قالب معين يتناسب وذلك العمل من حيث إبراز جمالياته وتقديم مضمونه بشكل يضفي على العمل جمالية أخرى تضاف الى جماله الأصلي، أو تعوض أحياناً عن غياب أو نقص بعض الجماليات عن العمل الأصلي، فكثيراً ما نجد أغنية جميلة بلحنها أو بصوت من يؤديها أو بكليهما معاً في حين ان كلماتها وهي الأساس ليست على نفس القدر من الجاذبية ولا ترقى الى نفس المستوى من الجمال الذي تمتعت به الأغنية التي اضفاها عليها القالب اللحني، لتظهر على ذلك الشكل الجميل الذي ظهرت عليه، ومن غرائب الفنون ان ترى لوحة متواضعة المحتوى الجمالي يزينها اطار يفوق بكثير كل ما افتقرت إليه تلك اللوحة لتصبح متعة النظر آتية من الإطار ذاته دون ما يضمه ذلك الاطار، وهذا بالضبط هو ما حدث مع المسلسل الممتع «باب الحارة».

«باب الحارة» هو أحدث حلقة من سلسلة الأعمال السياحية التي دأبت ماكينة الدراما السورية على انتاجها من آن لآخر، وقد أطل علينا في شهر رمضان الحالي بجزئه الثاني استكمالاً للجزء الأول الذي عرض في رمضان الماضي بنفس الشخوص والبناء الدرامي الذي احتواه الجزء الأول، وقد كان من نصيبه الرواج والشعبية الطاغية بين جموع المشاهدين، ليس في سوريا وحدها ولكن في كثير من البلاد العربية، خصوصاً تلك التي لها بناء اجتماعي مشابه في بعض اوجهه للبنية الاجتماعية السورية والدمشقية تحديداً التي يقدم بها هذا العمل السوري الى مشاهديه فلم يكن غريباً ان يحرص المشاهدون العرب وبشغف كبير في كل من الأردن وفلسطين وتونس والجزائر واليمن وكافة بلاد المهجر في الشرق والغرب شديد الحرص على متابعة احداث حلقاته يوماً بيوم ودقيقة بدقيقة، حتى ان الأخبار أفادت من بعض تلك البلاد بإقفار شوارعها وأسواقها من الباعة والمرتادين على حد سواء، بل ان البعض كان يضبط موعد صلوات التراويح وعدد ركعاتها على مواعيد عرض هذا المسلسل لكي يستمتع بمشاهدة المنازل الدمشقية العتيقة بكل ما فيها من أفنية واسعة تتوسطها عادة برك المياه بنوافيرها المتلألئة بما ينبثق عنها من ماء بارد زلال تحيط بها اشجار الليمون والنارنج والورد الجوري وغصون الياسمين المدلاة على الجدران ومستحضراً ربما كل ما تبعثه تلك الأجواء من طيوب الروائح وبرودة النسائم التي لا ينقصها على الاطلاق لكي يكتمل سحر المشهد ما يحيط هذا كله من حميمية الترابط الأسري ودفء المشاعر العائلية التي تتجلى اكثر ما تتجلى عليه عند اجتماع الأسرة على موائد الغذاء والعشاء التي عادة ما تزخر بصنوف الأطعمة الشامية التي مازالت تشتهر بها مدينة دمشق كالكبة والشاكرية والصفيحة وما إليها من أطايب عرفتها البيوت الشامية كابراً عن كابر، ولاتزال تمثل سمة مهمة من سمات المائدة الدمشقية حتى اليوم، ناهيك عن اجواء الحارة العربية القديمة التي تنفرد حارات دمشق من بينها بخصائص تميزها عن غيرها، فها هو الحمام العام الذي يعرف حتى الآن في دمشق باسم «حمام السوق» والذي لايزال يشكل وجهة اساسية لزوار هذه المدينة الضاربة في القدم من أفواج السياح العرب وغير العرب، اضافة الى ما عرضه المسلسل من تشكيلة الأزياء المحلية التي كانت رائجة هناك حتى فترة قريبة من الزمن ولم تعد ترى إلا نادراً هذه الأيام، بالاضافة الى ما للهجة الشامية العتيقة بلوازمها المميزة من جاذبية وقدرة على امتاع اولئك غير الناطقين بها، اجتمع كل هذا في باب الحارة ليشكل ذلك الاطار الجذاب بجدارة والذي استطاع ان يسحب المشاهدين من اشغالهم وأعمالهم بل وحتى طقوسهم الدينية الموسمية ليرصهم صفوفا في مواجهة صندوق الدنيا العجيب ولمدة ساعة كاملة هي عمر الحلقة الواحدة من حلقاته لتسري في الجميع حالة من الخدر الممتع واللذيذ تستمر على طول الحلقة وتتجدد كل يوم مع كل عرض جديد.

لقد أدى هذا القالب الشيق دوره الترويجي السياحي بتألق شديد وانشغل الناس به أيما انشغال وخصوصا فئة الشباب من سن المراهقة وحتى الثلاثين والذين ادهشتهم شخصية القبضاي الشهم والتي جسدها العقيد ابوشهاب لتدخل على المفردات المتداولة بين المراهقين مفردة جديدة حيث صارت عبارة «أهلين عقيد» عنوانا لتبادل التحية بين كثير من المراهقين.

عند هذا الحد وتتوقف جماليات العمل وفيما عدا ذلك فليس للمسلسل أية جمالية تذكر لا في السياق ولا في المضمون، وليست هذه محاولة للنقد الفني من قبل من ليس أهلا له ولكنها مجرد قراءة تحاول تحري الجدية والانصاف من مشاهد شغف بالمسلسل كغيره وربما اكثر قليلا من الملايين التي تابعته، فقد سارت الاحداث بوتيرة نمطية على خلفية الصراع الأزلي بين الخيرالمطلق والشر المطلق وان جاء هذا الطرح سطحيا وساذجا الى حد بعيد حيث كانت المسائل اليومية العادية التي تحدث في كل البيوت تشكل نهاية العالم لدى شخصيات العمل وكانت تجري قولبتها بشكل كرتوني مضحك فكان يكفي ان تتوعد امرأة جارتها بالعمل على طلاقها من زوجها الحكيم لنجد نفس الرجل الحكيم والمشهود له برجاحة العقل يثور ويفقد صوابه ويقدم على هدم بيته الذي عمر لثلاثين عاما عند أول هفوة أو زلة لسان تأتي من زوجته التي يحبها فهو أمر ايضا يستعصي على الفهم، وقس على ذلك المسارات العاطفية التقليدية التي يمكن رؤية ملامح نهايتها من بداياتها الاولى، جاء هذا الطرح بهذا الشكل ليضفي على المسلسل طابع الحدوتة أو الحكاية التي قد تثير شيئاً من الحماس والعاطفة دون ان يكون لها من المنطقية نصيب يذكر.

ربما يظلم هذا العمل اذا ما اعتبر تدوينا ولو مبسطا وسطحيا لتلك الفترة المهمة من تاريخ تلك البلاد، والتي حيكت فيها اخطر المؤامرات على العرب جميعا ولم يكن إقحام موضوع المقاومة ضد المحتل الفرنسي ودعمه للمقاومة على أرض فلسطين إلا مرورا عابرا واسقاطا غير مبرر على الواقع الحالي لم يكن القصد من ورائه إلا اثارة العواطف الجماهيرية في اتجاه ذلك المسار، وقد نجح في ذلك الى حد بعيد وذلك انما يرجع الى طبيعة الانسان العربي العاطفية عموما فهو يعشق كل ما من شأنه اثارة العواطف ودغدغة نوستالجيا الحنين الى الماضي باعتباره زمنا جميلا على الرغم من اعتراف العمل الدراسي بسياقه، ووقائعه بأنه لم يكن جميلا على الاطلاق.

لقد كانت تلك الحقبة البائدة من تاريخ المدن العربية عنوانا لكثير من السلبيات المخجلة التي لا يجدي فيها إلباسها ذلك الثوب الرومانسي الجميل الذي لا وجود له إلا في أخيلتنا، والحقيقة ان تلك السلبيات لاتزال حية ترزق بيننا رغم تبدل شخوصها واختلاف ثيابها فها هو الرجل الذي يتفجر رجولة في بيته ووسط زوجته وابنائه بشاربيه المفتولين وحنجرته الجهورية الرنانة يتحول الى مجرد شخص عادي أو اقل عندما يسير في ازقة حارته أو يجلس على المقهى أو حتى يتعاطى مع الناس، فعلى الرغم من عاديته المفرطة تلك يأبى إلا أن يكابر امام اهل بيته من الحريم مرغما إياهم على البصم له بالعشرين بأنه «سيد الرجال» في واقع أليم يكون مقياس الرجولة مرهونا باتساع العقيرة وانتصاب الشاربين وطول اليد على الحريم، نعم لقد كانت النساء في ذلك العصر عبارة عن جواري وخادمات ليس غير فالفتاة تقوم على خدمة أبيها واخواتها الذكور إلى أن يأذن لها نصيبها بالزواج لتتحول إلى خدمة الزوج ولعق التراب عن قدميه صاغرة حامدة شاكرة، ثم لا تلبث أن تتحول بعد ذلك إلى خدمة ابنائها الذكور حيث لا تجد عزاء لها في استرداد بعض من سيادتها التي لم تتعرف اليها قط عندما تمارسها بتعسف وإذلال على زوجة ابنها وعلى بناتها اللواتي يتهيأن ليكن خادمات «مستورات» لازواجهن في المستقبل، كان هذا واقع الاسرة العربية ولايزال موجودا الى حد بعيد في كثير من البيوت وضمن كثير من اسرارها الدفينة.

لم يكن الواقع المهين أسرياً أو عائلياً وحسب ولكنه كان ولايزال سياسيا واجتماعيا على السواء، وقد نجح المسلسل في إلقاء بعض الضوء على الفساد والجهل الذي اعترى رموز السلطة السياسية التي مثلتها شخصية الانتهازي رئيس المخفر ومعاونه الذين دأبا على ابتزاز المواطنين ومص دمائهم من خلال تلفيق التهم والدعاوي عليهم وفرص الاتاوات المالية والعينية التي تثقل كاهلهم لم ينج منها شريف أو وضيع عندما يقلب رئيس المخفر موقفه من اقصى اليمين إلى اقصى اليسار في مقابل قطعة من ذهب أو حفنة من المال، وقد كانت ذروة السوداوية عندما كان العساكر يفطرون في رمضان على وجبات جاءتهم على اطباق الرضوخ من بيوت الحارة على اختلاف مستوياتها.

أما الجهل فقد كان سيد الموقف بلا منازع وليس أدل عليه من شخصية "الشيخ عبد العليم" زوج الاثنتين والذي من المفترض أنه رجل "عالم" فيبدو أن الشيخ لم يسمع أن في الشرع الإسلامي اختراعاً اسمه فترة العدة للمطلقة التي يحق فيها للزوج أن يرد زوجته إلى عصمته بدون حاجة إلى شيخ أو قاض أو عقد نكاح ما شابه، فتراه يهرع إلى حل أي نزاع زوجي أوقع طلاقاً ليعقد على الزوجين اللذين لم ينفصل نكاحهما بعد لعدم انقضاء العدة، فأي جهل هذا الذي كان يعتري علماء ذلك الزمان ..؟

بقي أن النجاح الجماهيري لهذا العمل يأتي من كونه قد عكس بشكل أو بآخر بعض الوقائع السلبية التي لازالت قائمة في حياتنا وقد لبى حاجة الجمهور العربي إلى أن يعني بالسطح دون الاعماق يتعلق بالقالب دون القلب وبالقشرة دون الجوهر وبالشكل دون المضمون،
وتقبلوا مودتي!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السلطات التونسية تنقل المهاجرين إلى خارج العاصمة.. وأزمة متو


.. ضجة في المغرب بعد اختطاف وتعذيب 150 مغربيا في تايلاند | #منص




.. آثار تعذيب الاحتلال على جسد أسير محرر في غزة


.. تراجع الاحتجاجات في عدد من الجامعات الأميركية.. واعتقال أكثر




.. كم بلغ عدد الموقوفين في شبكة الإتجار بالبشر وهل من امتداداتٍ