الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الروزخون

سعدون محسن ضمد

2007 / 10 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في كتاب موسى والتوحيد لفرويد، يتجلى أمامنا نمط رائع من المثقفين (غير المنتمين)، ففرويد يفكك في الكتاب ركائز موروثه الديني، من أجل الوصول للحقائق التاريخية المتعلقة بهذا الدين وخاصَّة تلك التي تتعلق بشخصية موسى.
والمثير للاستغراب هو قفز هذا المثقف، بخفة بالغة، على مسلمات عقيدته، متجاوزاً تأثيراتها العاطفية. الأمر الذي مكنه من قراءة الموروث الذي ينتمي إليه قراءة فاحصة ودقيقة. المفاجأة المهمة التي يتضمنها الكتاب لم تكن فقط الخروج بموسى من جنسيته اليهودية إلى جنسيته المصرية، بل الربطة بين قصة إنتشاله من النهر، وبين التكرار غير المفهوم لعملية انتشال أبطال الأمم السالفة من الماء في الكثير من الأساطير، حتى أن فرويد يستشهد بنص يتحدث فيه الملك سرجون الأكدي عن نفسه قائلاً: "أنا سرجون الملك القوي... كانت أمي من عذارى الهيكل. لم أعرف أبي، بينما لبث أخو أبي في الجبل. وفي مدينة آزو بيراني، على ضفاف الفرات، حبلت أمي بي. ولدتني سراً، ووضعتني في سلة من الأسل وسدت فتحاتها بالجلبان وتركتني للتيار حيث لم أغرق. وحملني التيار حتى أكي، غراف الماء.. وانتشلني آكي، غراف الماء، الطيب القلب، ورباني آكي [...] وكأنني أبنه [....] وصرت بستاني آكي، وحين كنت بستانياً مال قلب عشتار إليّ فأصبحت ملكاً وحكمت طوال خمسة وأربعين عاماً". فرويد يعتبر أن تكرر هذه الأسطورة قبل التوارة بزمن طويل، مبرر كاف للشك بصحة القصة التي ينقلها الكتاب المقدس عن حياة موسى، ومن هنا ينطلق باتجاه ترتيب المفردات التي تدلل على أن موسى مصري الأصل.
المهم في هذا الموضوع هو تجرد المثقف عن المسلمات القبلية التي ورثها عن مجتمعه، ليستطيع محاكمة التراث بمستوى معقول من الموضوعية. هذا التجرد مهم في التعاطي الفكري، وخاصة المتعلق بتراث المثقف وطائفته وآيديولوجيته. فهنا المعالجة الفكرية تشبه لحد بعيد جلسة المحاكمة، في حاجتها لقاض يتبرأ من كل التأثيرات الجانبية التي تؤثر على قراره النهائي. كان يمكن لفرويد أن يتجنب الحديث عن العقيدة، وكان يمكن له أن يجامل أبناء جلدته بدراسة صغيرة ترضي حاجتهم للتأكيد على كونهم شعب الله المختار، لكنه تجنب ذلك إرضاء لمبادئه كمثقف.
طبعاً ليس هناك إنسان يستطيع أن يفكر بدون مسلمات قبلية. لكن تبقى درجة الوثوق بهذه المسلمات هي التي تميز مثقفاً عن آخر، فهناك فرق كبير بين من يؤمن بالدين وهو يعلم بأنه كموضوع للإدراك، لا يمكن التثبت من صحته علمياً، لكنه يصدق به منطلقاً من مقولة أن العلم لم يصل لجميع الحقائق. وبين من لا يميز بين الحقيقة العلمية والمسلمة الإيمانية. النوع الأول سيبقى قادراً على الاحتفاظ بإيمانه خارج جلسات المحاكم التي يعقدها للحكم على الآخرين. أما النوع الثاني فسيبقى يعاني من عدم انسجام في عمله العقلي، ما يدفعه لأن يستند في محاكمته للمختلف على مسلماته الذاتية غير العلمية. وهذا الخطأ هو الذي جر علينا مسلسلات القتل على الهوية.ليس هنالك مثقف يحترم نفسه وينطلق في نقده للمختلف من مسلماته هو. فهذه المسلمات ستشوه، بالضرورة، النتائج حتماً. على المثقف أن يجلس على عرش التفكير خاصته وليس فوقه شيء، كل الأفكار يجب أن تكون تحت (قدميه) وداخل مديات مراقبته وتأمله، حتى لا يتحول لدمية تحركها خيوط خفية.
قبل أيام شاهدت على شاشة الفضائية العراقية عميداً لاحدى كليات بغداد الإنسانية وهو يلقي محاضرة (دينية). ولا بأس طبعاً في أن يكون العميد متديناً، أو يتكلم عن الدين. لكن البأس كل البأس في أن يقفز من دوره باعتباره رجل دولة، إلى دوره باعتباره داعية لطائفة. بمعنى أنه يحاضر على الطريقة (الروزخونية). ففي هذه الحالة يرتدي العميد أو (رجل الدولة) أسمال الطائفة. قبل ذلك تصدى لمثل هذه الفعالية وزير أو وزيران، وقبلها رئيس حزب، إلى أن بدأت تتحول روزخونية (المثقف) لظاهرة عراقية بامتياز، مع ذلك تبقى ممارسة عميد الكلية تحديداً، لهذه الفعالية بمثابة ضربة قاضية للمثقف العراقي. فساعة البث التي استهلكها من وقت القناة ووقت المشاهد، كان لها أن تكون أكثر جدوى لو أنه استغلها بمجال اختصاصه، وزود المشاهد برؤية أكثر إغناء وفائدة، لكنه فضل على ذلك دور (الروزخون) وأعاد على مسامعنا قصصاً حفظناها عن ظهر قلب.
لست بمعرض المقارنة بين فرويد والسيد العميد، ولا بمعرض التذكير بمنجز يقدمه عميد كلية كطه حسين باعتباره مثقفاً لا ينتمي إلا لمبادئ البحث العلمي، وبين منجز يقدمه آخر باعتباره (روزخون). لكنني أريد التأكيد على أن الهياج الطائفي الذي يعربد بالبلد والمصير، لا يمكن التصدي له من خلال اللهاث وراء أسمال الطائفية البالية. كما أن البناء المؤسساتي مهدد بالفشل الذريع عندما يتصدى لقيادته أصحاب الآفاق الضيقة ومديات الرؤية المحدودة. هناك فرق بين رجل الطائفة (الروزخون) وبين رجل الدولة. فرجل الطائفة مكلف بالدعوة لطائفته، ومن حقه أن يفعل ذلك، خاصّة وأنه يعيش على هذا العمل. أما رجل الدولة، فهو الذي يتولى إدارة مؤسسة هي من حق جميع أطياف الشعب. وعليه يجب أن يمثل الجميع.
في النهاية لا بد من الإشارة لفارق مهم بين طرفي المعادلة، وهو أن الروزخون يأخذ أجوره من الطائفة، ويدعو للطائفة، أما رجل الدولة (الروزخون) فيأخذ أجوره من جميع الطوائف ويدعو لطائفة بعينها. الأول منسجم مع ذاته والآخر متناقض ولص.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المحكمة العليا الإسرائيلية تلزم اليهود المتدينين بأداء الخدم


.. عبد الباسط حمودة: ثورة 30 يونيو هدية من الله للخلاص من كابوس




.. اليهود المتشددون يشعلون إسرائيل ونتنياهو يهرب للجبهة الشمالي


.. بعد قرار المحكمة العليا تجنيد الحريديم .. يهودي متشدد: إذا س




.. غانتس يشيد بقرار المحكمة العليا بتجنيد طلاب المدارس الدينية