الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التصورات حول العالم والإنسان في الديانات والمعتقدات القديمة

حميد باجو

2007 / 11 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


فصل من كتاب قيد التهيء تحت عنوان:
"من أجل رؤية مغايرة للعالم والإنسان"

مقدمة نظرية مؤقتة
يمثل هذا الفصل جزءا من كتاب سيصدر لاحقا، يهدف إلى تقديم نظرة مغايرة عن العالم والإنسان، اعتمدنا في تهيئه على كل ما اطلعنا عليه من اكتشافات علمية جديدة، في مجالات كالفيزياء والبيولوجيا والأنتربولوجيا والتاريخ والابستمولوجيا والذكاء الاصطناعي .... ألخ. وقد سعينا عبر القيام بمحاولة تركيبية، إلى توظيف عدد من النظريات الحديثة من مجالات مختلفة، نكتفي في هذه المقدمة المؤقتة بعرض مقتصر لأبرزها، في انتظار أن نعود إليها بالتفصيل في فصل لاحق عندما تكتمل صورة الكتاب ككل.
وإننا لننبه القارئ أننا لسنا هنا بصدد تأليف أكاديمي يعتمد الدقة في التحليل وفي الإحالة على المراجع. والأفكار التي سنعرضها لن تبدو على الأقل في ظاهرها، أنها خاضعة لمنهجية مضبوطة على النمط التقليدي في البحث العلمي، وذلك لأسباب متعددة.
فأنا لست متخصصا في ميدان علمي محدد من الميادين التي سأتطرق إليها، وما يشغلني ليس التعمق في مجال علمي بعينه، ولكن القيام بقراءة عرضية تخترق عدة مجالات في نفس الوقت أو ما يعرف بالقراءة "البينتخصصية interdisciplinarité، التي قد تهتم بالعلاقات أو الحدود بين هذه التخصصات أكثر منها القيام ببحوث متخصصة. ومن المعروف أن البحث العلمي قد يتبع منهجين مختلفين:
منهج استنباطي تحليلي analytico-déductif ينطلق من حقيقة مسلم بها، ليقوم بعد ذلك بتعميمها وتوسيع تطبيقاتها أوالبحث في تفاصيلها. وفي هذه الحالة يكفي أن تأتي بمثال واحد يناقض المسلمة الأولى حتى تنهار النظرية كلها.
ثم منهج استقرائي تركيبي ينطلق من وقائع مختلفة لا رابط فيما بينها في البداية، ليحاول القيام بتركيب أو استخلاص نظرية جديدة قد تصلح لتفسير ظواهر وقفت التخصصات العلمية الموجودة لحد الآن عاجزة أمامها. غير أن هذا النوع من النظريات قد لا تخرج مكتملة منذ البداية، ولكنها قد تأتي في شكل فرضيات أو موجهات للبحث يفترض تعريضها للمساءلة والتجريب قصد اكتشاف جوانب النقص فيها. وفي هذه الحالة نكون أمام نموذج للتحليل modèle d’analyse أكثر منه أمام نظرية مكتملة البناء، وأنه في حالة اكتشاف مثال مناقض، لا يعني بالضرورة أن نلغي النموذج من أصله، ولكن يكفي ربما أن ندخل تعديلات عليه أو نصححه حتى يصير قادرا على استيعاب هذا المثال.
هذا المنهج الأخير هو الذي اتبعناه في بحثنا، عبر تتبعنا لمختلف التصورات التي بلورها الانسان عبر العصور، لتفسير العالم وموقع الإنسان داخله. وهدفنا أن نخلص في النهاية إلى تقديم نموذج تفسيري شامل يأخذ بعين الاعتبار كل هذه التصورات، بالاعتماد بطبيعة الحال، على مختلف الاكتشافات العلمية التي اطلعنا عليها لحد الآن.
في هذا الفصل الأول سنعرض لأهم التصورات في الموضوع التي صاغتها الحضارات والشعوب القديمة إلى حدود ظهور الحضارة الاسلامية في القرن السابع ميلادي. ستكون البداية بطبيعة الحال، مع معتقدات الشعوب "الأسيانية" asianiques التي كانت أول من أقام حضارة زراعية في منطقة الشرق الأوسط منذ ما قبل 5 ألاف سنة تقريبا. نمر بعد ذلك إلى معتقدات شعوب بلاد الرافدين من سومريين وأكاديين وبابليين، ثم حضارة الفراعنة في بلاد النيل، فمعتقدات شعوب بلاد الشام من حيثيين وحوريين وكنعانيين وفينيقيين. بعدها ننتقل إلى حضارة جزيرة كريت ومعتقدات الإغريق القدامى. تأتي بعد ذلك معتقدات الفرس القديمة من زرادشتية ومجوسية أو مزدكية، ثم معتقدات شعوب الهند من براهمانية وجاينية وبوذية، تتبعها معتقدات الصينيين من كونفوشية وطاوية. نعود بعد ذلك إلى معتقدات العبرانيين اليهود، ثم نقف بشكل أكثر تدقيقا عند الفلسفة الإغريقية ومختلف مدارسها. وبمقارعة هذه الأخيرة مع معتقدات اليهود سيظهر لنا كيف تبلور المعتقد المسيحي والحيثيات التي صاحبته، وذلك منذ أن غزا الإسكندر المقدوني منطقة فلسطين في القرن الثالث قبل الميلاد، إلى أن انفصلت الكنيسة الأرثوذوكسية عن الكنيسة الكاثوليكية حوالي ثمانية قرون بعد ذلك.
وهذا العرض الأخير هو الذي سيكون منطلقنا في الفصول القادمة من الكتاب لمعرفة معتقدات المسلمين، ثم مختلف النظريات الفلسفية والدينية التي ستظهر لاحقا في أوروبا، لنختم كل ذلك بأهم التصورات حول العالم والإنسان التي يروج لها حاليا. ومن تم ستكون عناصر نموذجنا التفسيري قد اكتملت كلها.
وبطبيعة الحال سيسائلنا القارئ عن المراجع التي اعتمدناها في هذا البحث والتي لم نشر إليها، فنؤكد أن كل المعلومات المذكورة هنا هي متوفرة على شبكة الأنترنيت، ويكفي إدخال أي اسم أو تاريخ أو حادثة نوردها في بحثنا، لتظهر لك عشرات المراجع على الشاشة. ويكفي أن نشير إلى مرجع واحد اعتمدنا عليه أكثر من غيره، هو الموسوعة الرقمية المفتوحة على الشبكة، " ويكيبيديا" Wikipidia خاصة باللغتين الفرنسية والإنجليزية.

و لقد ارتأينا قبل المرور إلى صلب الموضوع ، أن نشير ولو بشكل مقتضب إلى أهم النظريات العلمية الحديثة التي اعتمدناها كمرشد لنا في البحث حتى نشرك القارئ منذ البداية، فيما يشغلنا على المستوى النظري، وفي معرفة الهدف المبتغى من خلال ما سنعرضه في هذا الفصل الأول.

1- النظرية العامة للأنظمة المعقدة المتكيفة
La Théorie générale des systèmes complexes adaptatifs

تؤكد هذه النظرية أن كل شيئ، ظاهرة أو جسم، طبيعي كان أو ذهني أو اجتماعي أو ثقافي ...، إنما هو نظام Système مركب من عدد من الأنظمة الفرعية أو الصغرى Sous-systèmes، تحكمها نفس الآليات والقوانين الخاصة بهذا النظام. وهذا الأخير هو في نفس الوقت نظام فرعي من نظام أكبر يضمه إلى جانب أنظمة فرعية أخرى تشبهه. فإذا أخذنا كمثال جماعة بشرية معينة كالمدينة، نجدها تتكون من عدد من الأنظمة الفرعية، هي الأحياء السكنية مثلا، كما أنها تنتمي في نفس الوقت، إلى نظام أكبر هي الدولة. وكما أن هذه الأخيرة ليست هي بنفسها سوى نظام فرعي لنظام أكبر هو العالم، كذلك فإن النظام الفرعي الذي يمثله الحي السكني، هو نفسه نظام أعلى لأنظمة فرعية تتمثل في العائلات التي تقطنه. وهكذا يمكن تتبع هذه السلسلة من الأنظمة الفرعية أو الأنظمة الكبرى إلى ما لا نهاية، سواء في اتجاه الأسفل أو اتجاه الأعلى.
أما النظام بشكل عام، فيمكن تعريفه ببعض الخصائص الأساسية التالية:
أنه أولا يمتلك حدودا أو "غشاءا" يميزه ويفصله عن العالم الخارجي. وهو إذا ما افتقد هذه الحدود، يفتقد أوتوماتيكيا استقلاليته فيذوب في محيطه الخارجي، وبالتالي لا يبقى نظاما. لكن بين الانغلاق التام للنظام على نفسه، وبين تلاشيه، هناك درجات متفاوتة من الانفتاح أو الانغلاق. فإذا أخذنا مثلا جماعة من الأفراد يربطون علاقات ما فيما بينهم، فطالما أن هذه الأخيرة لا زالت غير مرسمة أو مهيكلة كعلاقة الصداقة مثلا، فإننا نبقى في مستوى أقل من النظام ونتحدث فقط عن شبكة العلاقات Réseau، ولكن إذا ما اتفق هؤلاء الأفراد على تكوين ناد أو جمعية فيما بينهم، يتحول الأمر إلى نظام يضع لنفسه حدودا واضحة تتمثل في القوانين الخاصة بالجمعية، تفصل أفراد الخارج أو غير المنتمين، عن أفراد الداخل المنتمين. وهذه الحدود أو الغشاء الذي يحيط بالنظام هو الذي ينظم العلاقة مع الخارج. فللجسم الحيواني مثلا حدود هي الجلد المحيط به، وعن طريق هذا الأخير تنتظم العلاقة مع المحيط الخارجي، عن طريق الحواس مثلا لتلقي وتبادل المعلومات، أو عن طريق الفتحات الجسمية الأخرى لتبادل الأشياء المادية.
والنظام هو بالضرورة في تحول أو تطور مستمر، حتى وإن اختلفت الوتيرة من حالة إلى أخرى، وذلك راجع إلى ضغط العوامل الخارجية والداخلية على السواء، التي تدفعه إلى الأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الجديدة التي تطرأ في كل لحظة. وهذا ما يسمى في لغة النظرية العامة للأنظمة، بالتكيف adaptation، أو بالبحث الدائم عن "اللياقة" fitness. فإذا أخذنا المقاولة التجارية كمثال على نظام يتطور باستمرار، فذلك لأن المنافسة الخارجية كما العلاقات الداخلية بين مكونات المقاولة، تفرض عليها ذلك، وإلا هي معرضة للتلاشي أو الانفجار.
لكن هذا التطور المستمر لا يمكن إلا أن يؤدي إلى مزيد من التنويع والتعدد diversité في المكونات الداخلية للنظام، أو في تشابك العلاقات التي يقيمها مع محيطه، وهو ما يسمى بالتعقيد complexité. وحسب النظرية أعلاه، أن التعقيد قد يأخذ ثلاثة أشكال مختلفة:
- تعقيد بنيوي، ويظهر في شكل تعدد وتكاثر أفقي للمكونات الداخلية للنظام. فالجينات مثلا داخل خلية حية، تدفع هذه الأخيرة إلى الإنقسام والتكاثر حتى تضمن لنفسها أكثر الفرص للاستمرار في الوجود.
- تعقيد وظيفي، وهو كما في حالة هذه الجينات، حتى تزيد من فرص نجاحها، تدفع إلى التخصص حسب وظائف معينة، فتظهر بسبب ذلك خلايا مخية وأخرى دموية وثالثة جلدية ....
- تعقيد تراتبي أو "سلمي" d’échelle، وذلك حين تزداد المستويات أوالدرجات التي يتكون منها النظام داخليا. ففي حالة المقاولة مثلا، قد لا تضم هذه الأخيرة إلا درجين في البداية: المدير في القمة والمستخدمين في القاعدة، ولكن التعقيد يفرض إدخال درجات أخرى بين المدير ومستخدميه كأن يعين رؤساء أقسام أو رؤساء مكاتب أو مصالح تكون واسطة بين قمة المقاولة وقاعدتها.
وهذا التطور الذي تخضع له كل الأنظمة، خاصة الحية منها، غالبا ما يتم بطريقتين أو يمر بمرحلتين، وهو ما حاولت النظرية التطورية الداروينية بعد أن تم تحيينها، توضيحه. ففي المرحلة الأولى، قد يعمد الكائن البيولوجي مثلا أو النظام الحي، إلى التكاثر والتعددية ، حتى يضاعف من فرص نجاحه، ولكن ظروف المحيط الخارجي قد تخضع في المرحلة الثانية، هذا الكائن لعملية انتقاء sélection، بحيث لا يبقى إلا من استطاع التأقلم مع متغيرات المحيط، أو اكتسب اللياقة الضرورية. وهو ما عبر عنه داروين بالبقاء للأصلح.
وإذا ما طبقنا هذه النظرية على عالم الأفكار مثلا، نجد أن كل فكرة جديدة، كما أنها نتيجة لتركيب بين عدد من الأفكار السابقة، لا بد أن تتفرع عنها بدورها أفكار جديدة، أي تخضع لقانون التكاثر والتعددية. غير أن الظروف التي يمر منها المجتمع في مرحلة معينة، تفرض بالضرورة عملية انتقاء ما بين الأفكار، فلا يبقى منها غير الفكرة التي تكون ملائمة لتلك الظروف ، بينما تموت الأفكار الأخرى، أو تضطر للتقوقع والإنغلاق على نفسها في انتظار ظروف أخرى قد تكون ملاءمة. وهذا نفسه ما تقوم به بذرة النبات مثلا، التي قد تبقى في حالة كمون لمدة طويلة إلى أن تتوفر لها الرطوبة والتربة المناسبة للإنبات. وفي حالة الأفكار، أن ما حاول القيام به ميشيل فوكو مثلا في نظريته حول جينيالوجية المعرفة، لا يعدو أن يكون بحثا عن مصير تلك الأفكار التي لم تحظ بالإنتقاء وتم تهميشها أو اقصاءها من الفضاء الاجتماعي كما في حالة فكرتي الجنون والشذوذ الجنسي اللتين قام بدراستهما. وأن ما ذهب إليه ديريدا وغيره من فلاسفة الاختلاف، في الدفاع عن الاختلاف أو التعددية في الأفكار لا يمكن أن يستقيم إلى ما لا نهاية، لأنه لا بد بعد مرحلة الاختلاف، أن يتدخل قانون الانتقاء، ليمنح الأفضلية لفكرة معينة ويقصي الأفكار الأخرى. أما ما يذهب إليه البعض الآخر، من أن كل الأنساق الفكرية الكبرى كالليبرالية أو الماركسية أو البنيوية ..ألخ، قد انتهى زمانها وما عاد ممكنا غير البحث فيما هو فرعي أوجزئي أواختلافي أو خصوصي، فذلك لا يعدو من وجهة النظرية العامة للأنظمة، سوى التوقف عند المرحلة الأولى من تطور النظام أي مرحلة التنويع والتكاثر، وبالتالي تجاهل المرحلة الثانية التي تقوم على الإنتقاء وإبراز أنساق جديدة إلى الواجهة. أو من الناحية الإبستمولوجية، الوقوف عند مرحلة التفكيك وتجاهل مرحلة التركيب.
وهذه النظرية قد نستلهم منها أيضا مجموعة أخرى من المبادئ أو الأفكار التي قد تساعدنا في فهم آليات التطور نذكر منها مثلا:
- مبدأ التعميل factorisation والتكثيف condensation
وقد ظهرت أهمية هذا المبدأ أولا في علم المعلوميات والذكاء الإصطناعي. ففي بداية هذا العلم، كان القيام بعملية معينة على الحاسوب يتطلب إنجاز عدد كبير من العمليات البسيطة المكررة implémentation، لكن بفضل تطور البرمجة، أصبح من الممكن تجميع كل هذه العمليات المملة في عملية واحدة أو في نقرة واحدة على لوحة المفاتيح، هي عبارة عن اختزال أو تكثيف لكل تلك العمليات البسيطة، وهذا ما سمي بالتعميل. هذا المبدأ تأكد وجوده أيضا عند كل الكائنات الحية. فإذا حللنا عملية عادية يقوم بها حيوان عند مهاجمة الفريسة، سنلاحظ أن ذلك يتطلب منه عددا لا يحصى من القرارات التي يتخذها في ظرف وجيز جدا، كتحديد مكان الفريسة ونوعيتها والمحيط الذي توجد فيه ونوعية الحركة التي يجب القيام بها وكيفية تحريك القدم الأمامية ثم القدم الخلفية في كل لحظة، واختيار الزاوية التي يمكن منها مهاجمة الفريسة .... وكل هذا القرارات يختزلها أو يكثفها الحيوان أو يقوم بتعميلها في قرار واحد. وهذا نفسه قد نطبقه على العادات والسلوكات الاجتماعية وعلى الأفكار. فللوصول إلى فكرة الله المتعالي أوالمطلق مثلا كما سنرى في الفصل اللاحق، تطلب ذلك من البشرية المرور بآلاف السنوات وآلاف التجارب، ونحن الآن حين نمر مباشرة إلى الإيمان بالله، فإننا نقوم باختزال أو تكثيف أو تعميل كل هذه التجارب التي مرت منها البشرية لحد الآن دفعة واحدة. ويمكن أن نعطي مثالا آخرا من تطور التاريخ. فحينما تسأل أحد عن إمكانية تطور المغرب في المستقبل، قد يجيبك بأن أوروبا قد قضت لأجل ذلك أكثر من قرنين، وبالتالي على المغرب أن ينتظر مثل ذلك. غير أن مثل هذا الجواب يتجاهل مبدأ التعميل، الذي قد يسمح لتجربة دامت قرنين أن يتم تكثيفها في عدد أقل من السنوات. وهذا بالفعل ما حصل، فاليابان كثفت تلك التجربة إلى أقل من قرن، وكوريا الجنوبية قلصتها إلى أقل من خمسين سنة، وربما تستطيع دول أخرى أن تحققا إنجازا أحسن من ذلك.
- مبدأ الإزاحة نحو الهامش
لنأخذ مثالا من شجرة النخيل، فالسعفة الجديدة عندما تنبت تكون في الوسط أو في مركز الشجرة، ولكن مع المدة تظهر سعفة أخرى فتزيح الأولى جزئيا عن المركز. وكلما توالى توالد السعفات الجديدة، ازداد إنزياح السعفة الأولى نحو الهامش حتى لا يبقى لها مكان في الشجرة فيتم قطعها أو تندثر بشكل طبيعي. ولنطبق هذا المثال على الظواهر الثقافية أو الإجتماعية. فظاهرة الهيب هوب الشبابية مثلا، أول ما ظهرت، كان ذلك في أواخر الثمانينات من القرن الماضي في مركز العالم، أي في نيويورك وبالضبط في حي هارلم. ولم تمر إلا سنوات قليلة حتى انزاحت الظاهرة نحو أوروبا ومنها باريس، ثم ما فتئ ذلك أن وصل إلينا في مدينة الدار البيضاء حيث سمع بها المغاربة لأول مرة مع حادثة ما عرف بالشيطانيين les sataniques، لتنتشر الظاهرة بعد ذلك إلى كل المدن المغربية. وقد سبق أن حدث نفس الشيئ مع ظاهرة الهيبي في بداية السبعينات، ويجب أن ننتظر أن يتكرر ذلك في المستقبل مع ظواهر أخرى جديدة. وأهمية هذا المبدأ في التحليل، أنه يساعدنا على دراسة ظاهرة ما، حين ظهورها لأول مرة رغم مرور مدة زمنية عليها، وذلك بالبحث عن طريقة تجليها في اللحظة الراهنة في منطقة جغرافية بعيدة أو توجد على الهامش. فالإثنوغرافيون مثلا حين يدرسون بعض المجتمعات البدائية الموجودة على هامش الحضارة، فإنما يسعون من خلال ذلك إلى معرفة كيف تطورت مجتمعاتنا المتحضرة نفسها حين مرورها هي أيضا من تلك المرحلة قبل آلاف السنين من الآن.
- مبدأ التفاوت في التطور développement inégal
ليس هذا المبدأ جديدا، وقد سبق أن كتب عنه لينين مثلا منذ بداية القرن الماضي. ومفاد ذلك أن الأنظمة الفرعية لمنتمية لنظام معين، وإن كانت تخضع لنفس القوانين والآليات التي تحكم هذا الأخير، فإن وتيرة تفاعلها أو تأثرها بهذه الأخيرة تتفاوت من الناحية التاريخية من نظام فرعي إلى آخر. و مناسبة التذكير بهذا المبدأ هنا، أن الكثيرين حينما تطلب منهم مقارنة ما يجري في المغرب مع الدول الأخرى، يلاحظون الفروق الكثيرة الموجودة، فيخلصون إلى أن المغرب له خصوصيات معينة ولا يمكن مقارنته بالدول الأخرى. ولكن الخطأ الذي يسقط فيه هؤلاء، أنهم يقارنون واقع المغرب الحالي بالواقع الحالي أيضا لدول أخرى، فيتناسوا أن وتيرة التطور أو المستوى الذي وصل إليه هذا التطور في اللحظة ذاتها، ليس نفسه بين كل الدول. وبالتالي فإن المقارنة الصحيحة التي يمكن القيام بها هي ما بين المستوى الذي وصله المغرب حاليا مع نفس المستوى الذي وصلت إليه دولة معينة في لحظة سابقة. وقد ظهر مثلا من خلال المقارنة التي قمنا بها بين المغرب وبعض دول أمريكا اللاتينية، بناءا على مجموعة من المؤشرات، أن هذه الأخيرة غالبا ما تسبق المغرب في مجموعة من الظواهر لمدة تتراوح ما بين عقد وعقدين من الزمن. أو بعبارة أخرى أنه إذا أردنا أن نعرف كيف سيكون عليه حال المغرب بعد عشر أو خمسة عشر سنة، فلننظر ماذا يحدث حاليا في أمريكا اللاتينية.
2- نظرية الإنبثاق théorie d’émergence وإمكانيات التنبؤ بالمستقبل
ربما أقرب تعبير عن هذه النظرية، هو حين نقول أن الحاصل من جمع عدد من الأجزاء يكون دائما أكبر من مجموع هذه الأجزاء نفسها، أي أن 2+2 مثلا لا تساوي 4 وإنما أكثر من ذلك. وقد يعبر عن ذلك أيضا بتعبير "عامل التجميع" effet de synergie . ومفاد هذه النظرية، أنه من خلال التقاء أو اندماج بين عدد من العناصر البسيطة، قد يحدث في الغالب ظهور أو انبثاق لعنصر جديد هو أكثر من مجرد تجميع عددي أو ميكانيكي لهذه العناصر الأخيرة . ولأن ما ينتج عن هذا الانبثاق، يكون متجاوزا لمجموع العناصر التي نتوفر عليها في البداية، فإنه سيكون من المستحيل علينا أن نعرف قبليا، طبيعة ذلك الشيئ الذي سينبثق. وهذا يعني أنه لا يمكن الاكتفاء إلى ما لا نهاية، بالمعرفة العددية أو الإحصائية للظواهر التي تحيط بنا، وأنه لابد من توقع أن تحدث في أية لحظة، تحولات نوعية في هذه الظواهر، لا يمكن التنبؤ بها، من خلال المعطيات المتوفرة لنا حاليا فقط. وبناءا عليه، فإن هذه النظرية هي التي تفرض علينا أن ننظر إلى التطور ليس كمجرد خط مستقيم تصاعدي أو يحدث بشكل ميكانيكي، ولكن كمجموعة من الطفرات النوعية التي قد تفاجئنا بين الفينة وأخرى. وأن الطريقة التي يفكر بها المهندس مثلا أو الرياضي التقليدي أو التقنوقراطي، قد تكون صالحة فقط في ظرف زمني محدد، بعدها تحدث متغيرات جديدة غالبا ما لا تكون في الحسبان، تجعل النماذج الحسابية التي يضعها هؤلاء متجاوزة أو بدون جدوى.
وقد أثبتت كل معطيات التاريخ، كيف أن هذا الأخير يتطور أو يتعرض لطفرات من حيث لا يكون أحد يتوقع ذلك. وأنه في كل مرة تحدث طفرات أو ثورات أو تحولات اجتماعية تقلب جل الحقائق التي تكون متداولة في لحظة ما. ولذلك فنحن لا نستطيع أبدا التنبؤ بدقة بما سيحدث في المستقبل، وكل ما نملكه في هذا المجال هو مجرد بضع مؤشرات ، قد تنفع في معرفة الخط العام الذي سيتبعه التاريخ، لكن بشكل جد تقريبي وعلى أمد قريب أومتوسط فقط.
غير أن بعض المؤشرات التي قد تسجل لمعطيات أو تحولات عميقة في التاريخ قد تكون أفيد على المدى البعيد منها على المدين المتوسط والقريب. و كنموذج على ذلك مثلا، أنه قبل انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينات من القرن الماضي، لم يكن أحد، انطلاقا من كل المؤشرات السياسية والاقتصادية والعسكرية والإيديولوجية المتوفرة آنذاك، يتوقع أو يتنبأ بذلك الانهيار. غير أن هناك عالم واحد فقط في مجال الديمغرافيا هو الفرنسي إيمانويل طود، نشر بحثا في السبعينات، أشار فيه وانطلاقا من مؤشرات التطور الديمغرافي في هذا البلد، إلى احتمال أن لا يصمد النموذج السوفياتي طويلا. ورغم ذلك فقد تفاجأ هذا الباحث نفسه من سرعة حدوث هذا الانهيار بأسرع مما توقعه.
والآن يحاول عدد من المختصين في هذا المجال الأخير، وضع سيناريوهات لاحتمالات تطور العالم في العقود القادمة، بناءا على مؤشرات التطور الديمغرافي للبشر والتحولات النوعية التي تحدث في هذا المجال، من قبيل نسبة الزيادة الديمغرافية مثلا، أو الأمل في الحياة espérence de vie أو عدد الولادات لكل امرأة، أو تركيبة الهرم الديمغرافي ..... وللطرافة أنه لغياب أي أمثلة سابقة أو ظروف مشابهة في تاريخ البشرية، يمكن مقارنة هذه التحولات الديمغرافية بها وبالتالي استنتاج ما يمكن أن ينتج أو ينبثق عن ذلك، لم يجدوا أفضل من مقارنة المجتمع البشري بمجتمع حيواني من الثدييات، يعيش في ظل ظروف ديمغرافية مشابهة. فقد قاموا بمراقبة مجتمع من الفئران داخل مختبر، وحاولوا معرفة كيف ستتصرف هذه الأخيرة، في حالة تزايد ديمغرافي سريع أو نقص حاد في الأكل أو في تقلص الفضاءات المخصصة لكل فرد أو عائلة…. ومن الخلاصات المثيرة التي خرجوا بها من هذه المراقبة، أن الفئران بعد مرحلة من العنف والحروب فيما بينها، بدأت تسير بشكل تلقائي نحو التحديد من النسل، وحل المشاكل فيما بينها بأقل ما يمكن من العنف، أو ما نسميه بالتدبير الحضاري للحياة المشتركة. والطريف أكثر أنه كلما ازداد تقدم مجتمع الفئران "حضاريا"، كلما تطور دور الإناث وصار لها حضورا أوسع في الحياة العامة. أليس هذا بالضبط ما وصلت إليه البشرية أخيرا أو هي تحاول ذلك، وأليس ذلك إحدى مؤشرات التطور في العقود القادمة؟
غير أنه إذا كانت المؤشرات الديمغرافية قد تفيد في معرفة احتمالات التطور على مدى بضعة عقود قادمة، فهل توجد مؤشرات أكثر عمقا منها، ستساعد في وضع تنبؤات لتطور البشرية على مدى أبعد من ذلك؟ على هذا المستوى نكون قد دخلنا في مجال سينما الخيال، حيث لا يوجد ربما أي مؤشر له حد أدنى من الموضوعية يمكن أن يساعدنا. وربما ما يتبقى لنا في هذا المستوى، أن نعود إلى الظواهر الانبثاقية الكبرى التي حدثت ليس في تاريخ البشرية فقط، ولكن في كل مراحل تطور الحياة على الأرض. ونذكر منها هنا ، بضع نماذج لهذه الانبثاقات. الأولى حينما انبثقت الحياة نفسها على الأرض وظهرت الخلية الأولى وهو ما لم يستطع العلم أن يعرف عنه لحد الآن شيئا، والثانية حين ظهور الكائن الحيواني المتعدد الخلايا أو ذي الجسم المعقد بنيويا وسلميا، والثالثة حين ظهور المجتمع الحيواني الأحادي الفاعل
uni-agent كمجتمع النمل مثلا كما سنرى لاحقا، والرابعة ما سميناه بانبثاق نظام المجتمع الحيواني المتعدد الفاعلين multi-agents كما هو الحال عند الثدييات، ثم خامسا حين ظهور "المجتمع الحيواني المثقف" أو المجتمع الإنساني حيث تمتلك الفكرة أو المعلومة استقلاليتها النسبية عن الجسم الذي يحملها. وربما انطلاقا من معاينة هذه التحولات الكبرى في تاريخ الكائن الحي، قد نعثر على مؤشر ما، يدلنا على ما يمكن أن يصيره الإنسان لاحقا، خاصة في علاقته مع الروبوات أو الكائنات الاصطناعية الذكية التي بدأ البعض منذ الآن يتخوف من أن تستعبدنا في المستقبل.

3- نظرية اللايقين l’incertain
تمدنا الفيزياء الحديثة بعدد من النظريات التي قد تساعدنا على فهم ظواهر العالم، أو على العكس تظهر محدودية قدراتنا على الفهم. ومن ذلك نظرية اللايقين التي اقترحها هيزنبرج في العشرينات من القرن الماضي. فهذا الأخير بعد أن لاحظ الصعوبة التي اعترضت علماء الفيزياء في قياس سرعة الأيونات أو الجسيمات الصغيرة ما تحت الذرية، وتحديد موضعها في نفس الوقت، توصل إلى ما مفاده أن المشكل ليس في العلماء أنفسهم ولا في الأدوات التي يستعملونها، ولكن أنه يستحيل ببساطة تحقيق مثل هذا الانجاز حتى ولو تضاعفت عبقرية وذكاء العلماء، أو طوروا أدوات فائقة الدقة. فالمشكل أن هذه الأدوات المستعملة في القياس، هي نفسها مكونة من جسيمات مشابهة لما يريدون قياسه، وأن أية محاولة للاقتراب من هذه الأخيرة تؤدي إما إلى التأثير على سرعتها أو إلى تحريف مسارها. وبناءا على هذا فقد أصبح من المسلم به علميا، أنه لا يمكن اكتشاف الحقيقة النهائية، ليس في الفيزياء وحدها، ولكن في كل المستويات الأخرى المكونة للعالم والكون. وأن كل ما يمكن التوصل إليه هو معرفة تقريبية أو معرفة احتمالية، تقوم على حساب الاحتمالات calcul des probabilités ووضع السيناريوهات.
هذه الاستحالة في الوصول إلى الحقيقة النهائية، تؤكدها أيضا النظرية العامة للأنظمة، التي تستبعد مطلقا إمكانية الوصول يوما إلى معرفة تامة بالكون الذي نعيش فيه. والسبب في ذلك بسيط، إذ لأن الانسان هو نفسه ليس سوى جزء من هذا الكون، فكيف سيتسنى للجزء أن يتعرف على الكل وهو داخله، اللهم إذا وقف هذا الانسان في نقطة خارج الكون ليراقبه من بعيد، وهذا من باب المستحيلات. وفي هذه الحالة لا يبقى أمام هذا الأخير سوى وضع فرضيات بالنسبة للظواهر التي لا زال يجهلها، قد تساعده فقط في توسيع مداركه دون أن يصل أبدا إلى المعرفة التامة أو الحقيقة النهائية. فالإنسان كما لا يمكن أبدا أن يصل إلى استكشاف كل ما يتعلق بالجسيمات المتناهية في الصغر، ولا يمكن أن يعرف أيضا حقيقة الأجسام المتناهية في الكبر، لا يستطيع أيضا معرفة أصل هذا الكون ولا المصير الذي ينتظره. ولذلك هو يكتفي بوضع تصورات حول هذه المواضيع لا تقوم على العلم، ولكن فقط على معتقدات دينية وإيمانية من قبيل خلق العالم من طرف قوة غيبية افتراضية كما سنرى لاحقا. مع العلم أنه يبقى دائما مضطرا في كل مرة يحصل فيها تقدم علمي، لتغيير هذه التصورات الأخيرة ليعوضها بأخرى أقرب إلى المعارف العلمية الجديدة. فقد تصور الإنسان في مرحلة سابقة أن الأرض ثابتة وهي مركز الكون كما في نظرية بطليموس حول العالم. ثم اضطر لاحقا للتخلي عن هذا التصور وتعويضه بواحد آخر يضع هذه المرة الشمس في مركز الكون كما في نظرية كوبرنيك، ثم توالت التعديلات بعد ذلك ليظهر في كل مرة أن الكون هو أوسع وأعقد دائما مما نتصور.
ولأن أبعد نقطة وصلها العلم حاليا في تحديد تاريخ الكون هي حوالي 15 مليار سنة قبل الآن، فقد افترض وباستعمال طريقة إسقاطية extrapolation، أن نقطة انطلاقة الكون قد كانت حوالي هذا التاريخ، بعد حدوث ما يسمى بالإنفجار العظيم le big-bang. لكن ما قبل ذلك، لا أحد يعرف عنه شيئا. وقد وضعت فرضيات عديدة في هذا المجال، تفتقد كلها إلى أي مستند علمي، حيث هناك من ذهب إلى أن الكون يمر عبر حلقات دورية، من وضعية الطاقة الأولية المركزة تركيزا شديدا، إلى انقسام هذه الأخيرة ما بين حالتين: طاقية ومادية، هذه الأخيرة التي ستبقى تتوسع أكثر فأكثر، حتى تصل إلى نقطة لا يبقى ممكنا التوسع بعدها أكثر، فينهار الكون على نفسه implosion، ويعود إلى التركز الشديد حتى يصل إلى نقطة انطلاقه الأولى ليعاود الانفجار من جديد. وهناك آخرون ذهبوا إلى أن الكون الذي نعيش فيه، ربما ليس أكثر من فقاعة بين فقاعات عديدة، أو بعبارة أخرى، أنه واحد من بين عدة أكوان يتطور كل واحد منها حسب وتيرته، وهذا ما يعرف بنظرية تعدد الأكوان multi-vers.
غير أن هذه النظريات العلمية الحديثة، بقدر ما تنفي إمكانية الوصول إلى الحقيقة النهائية، بقدر ما ترفض فكرة أن العالم يسير بطريقة عبثية ولا منظمة. بل وأنه حتى نظرية النسبية التي نطبقها في هذه الحالة هي بنفسها نسبية.
من هنا جاءتنا فكرة أن العالم إنما يتطور حسب طريقة "مخروطية" conique. أي أنه في كل نقطة يصل إليها الكون أو العالم أو التاريخ ...، ينفتح التطور على مجموعة من السيناريوهات يحدها إطار مخروطي الشكل، لا يمكن للتطور أن يحدث إلا من داخله، أي أن لا يتبع إلا واحد من السيناريوهات الموجودة داخل المخروط، أو ما سميناه في حالة المجتمع مثلا، بالممكن التاريخي. فالمخروط هنا نقصد به مجموع تلك السيناريوهات التي يسمح بها التاريخ في لحظة معينة. والتاريخ لا يمكن أن يتحرك إلا داخل هذا المخروط. فإذا طبقنا هذه الفكرة مثلا، على تطور المجتمع المغربي مستقبلا، فإننا سنكون متأكدين، أنه لن يخرج عن عدد محدود من السيناريوهات، تتراوح بين أقصاها تشاؤما، كأن يتعرض مثلا لحرب أهلية على شاكلة العراق أو لبنان، وأقصاها تفاؤلا، كأن يتطور بوتيرة جد سريعة مثل اليابان أو كوريا الجنوبية. ولكنه لا يمكن أبدا أن يعود إلى العصور الوسطى أو ما قبلها، فذلك من باب المستحيلات.
لكن بالمقابل، نحن لا يمكن أن نعرف مسبقا أي سيناريو سيتبع من بين هذه السيناريوهات الممكنة، وكل ما يمكن القيام به على هذا المستوى، هو وضع احتمالات أو القيام باسقاطات مستقبلية على ضوء ما يتوفر لدينا حاليا من معطيات، وترجيح سيناريو على آخر، مع العلم أن ذلك يبقى نسبيا، وأن قيمة الاحتمال تزداد ضعفا كلما ابتعدنا أكثر في الزمن المستقبلي.

4- نظرية الشواش la théorie du chaos
مفاد هذه النظرية التي اقترحها لورنزو في الستينات، أن ما قد يظهر لنا في مستوى معين باعتباره مجرد فوضى ولا تنظيم désordre ، سينكشف لنا إن نحن ارتفعنا إلى مستوى أعلى، أنه يسير حسب تنظيم ordre واضح. ونعطي هنا مثالا بالسوق القروي، فأنت إذا دخلت وسطه سيبدو لك الناس وكأنهم يتحركون داخله بشكل عشوائي وبدون أية مسارات منتظمة. ولكن إذا أنت صعدت إلى برج عال يطل على السوق من فوق، واتبعت حركات الناس لمدة معينة، ستكتشف أن هناك مسارات يتبعها الناس بمجملهم خلال حركاتهم، أي هناك تنظيم خاص في هذه الحركات. وقد ثبت هذا أيضا من ملاحظة تحركات نملة معزولة. فمن الوهلة الأولى، تبدو لنا هذه الأخيرة وكأنها تسير بشكل عشوائي، ولكن إذا ما سجلنا طريقة تحركها لمدة معينة، فسنلاحظ أن هناك تنظيم تتبعه من حيث الاتجاهات التي تأخذها في حركتها أو المسافات التي تقطعها في هذا الاتجاه أو ذاك.

5- نظرية " الفراكتال" Fractale
مفاد هذه النظرية، أنه إذا كان لنظام معين عدد من الأشكال أو القوانين التي يتحرك بموجبها، فإن نفس هذه الأشكال قد نجدها تتكرر في الأنظمة المتفرعة عن هذا الأخير، ثم نجدها أيضا في الأنظمة الفرعية- الفرعية sous-sous-système التي تكون هذه الأخيرة، وفيما سيتفرع أيضا عن هذه الأخيرة، وهكذا دواليك. وكمثال على ذلك، نأخذ شجرة معينة لها شكل مخروطي وتماثلي symétrique بالنسبة لجذعها، كشجرة الأوكاليبتوس، مع العلم أن هذه التماثلية إنما فرضها قانون الجاذبية حتى تضمن الشجرة توازنها ويستطيع جذعها تحمل ثقلها المتزايد، فهذا الشكل قد يتكرر في كل غصن من أغصانها، ثم هو يتكرر في أوراقها.
وفي الحقيقة، أن هذه النظرية هي التي شجعتنا أكثر على البحث من هذا المنظور، في الظواهر الاجتماعية أو القوانين المنظمة لها. فلو افترضنا مثلا، أننا نعرف جيدا الآليات التي يشتغل بها مجتمع ما، فمن الأكيد أننا سنجد هذه الآليات نفسها أو صيغ قريبة منها، في الأنظمة الصغرى المتفرعة عن هذا الآخير. فبعض القوانين العامة التي تنظم المجتمع ككل ستكون هي نفسها التي تنظم المجتمعات الفرعية للمدن المكونة لهذا الأخير، وسنجد ذلك أيضا في مجتمعات الأحياء المكونة للمدن ... بل أكثر من ذلك، أنه لو عرفنا القوانين المنظمة لمجتمع مديني ما، فستكون هناك حظوظ كبيرة لأن نجد نفس القوانين في المدن الأخرى المشابهة. وهذا سيساعدنا من ناحية البحث العلمي، لأن نضع فرضيات هي اقرب إلى الحقيقة عن سير هذه الأخيرة حتى ولو كنا نجهل كل شيئ عنها.
وهذه النظرية هي التي اعتمدنا عليها كثيرا في تتبع تطور المعتقدات والديانات عند الشعوب القديمة، فبمجرد أن نعرف مثلا بنية هذه المعتقدات عند شعب معين، نتوقع أن نجد نفس البنية تقريبا عند شعب آخر مشابه له قبل أن نعرف عنه أي شيء.

6- نظرية النشأتكوينية gnoséologique
وهو ما سميناه أيضا بالمادية النشأتكوينية في مقابل المادية التاريخية. وهي نظرية استوحيناها من هابرماس، خاصة كتابه " الماركسية بعد ماركس" الصادر سنة 1975. والفكرة نفسها أخذها هو بدوره عن جان بياجي في نظريته حول علم النفس التكويني. فقد كان على هذا الأخير، أن يواجه أطروحات المدرسة الوظيفية التي كانت سائدة في علم النفس خلال عقود الخمسينات والستينات من القرن الماضي. كان أصحاب هذه المدرسة يفسرون السلوك البشري، على اعتبار أنه مجرد استجابة لمحفزات خارجية، وأنه بمجرد تغيير هذه المحفزات، يمكن أن يتغير سلوك الفرد. غير أن بياجي يرد على ذلك بأن سلوك الفرد إنما هو نتيجة عملية طويلة ومتراكمة من التنشأة والتكوين وذلك منذ ولادته، وأن المحفزات الخارجية وإن كان لها تأثير على الفرد، فليست هي التي ستحدد سلوكه. أي أن العامل الأساسي في ذلك داخلي وليس خارجي.
وقد حاول بياجي أن يبرهن عن ذلك، بتتبعه لسلوك الفرد منذ طفولته، فيكتشف أن لهذا الأخير آليات داخلية تتحكم في تطوره، وهو حتى إن تعرض لمؤثرات خارجية، فهذه الأخيرة لن تكون ذات فعل إلا إذا تم استبطانها من طرف هذه الآليات. أو أن المحفزات الخارجية يجب أن تمر بالضرورة عبر هذه الأخيرة حتى يصبح لها تأثير على الفرد. وقد اكتشف بياجي أيضا، أن الفرد يمر بسبب هذه الآليات بمراحل من التطور السلوكي والنفسي، بحيث تكون كل مرحلة هي نتيجة لكل ما تكون لديه أو راكمه من أحداث وتجارب سابقة. وهذه المراحل هي ما يسميه بياجي بالطفولة الأولى فالثانية ، فمرحلة الصبا والمراهقة ثم الشباب فالبلوغ .. ألخ.
هذه النظرية سيحاول هابرماس نقلها إلى مجال التاريخ والأنتربولوجيا، فيتعامل مع المجتمع وكأنه فرد بشري. أي أنه هو أيضا يتطور بفضل آليات داخلية خاصة، وإذا كانت من مؤثرات خارجية، فإنما يتم استبطانها و إدماجها من الداخل. وكما الفرد البشري، يمر المجتمع أيضا من مراحل متدرجة من التطور حيث تبنى كل مرحلة على ما سبقها من تجارب وأحداث عاشها المجتمع من قبل. فهناك مرحلة الطفولة الأولى حين كان المجتمع البشري لا يزال يتلمس طريقه نحو الوعي بذاته، أو ما يعبر عنه بظهور الثقافة. ووعي الإنسان في لحظة معينة بأنه مختلف عن الطبيعة، إنما يمكن مقارنته بفطام الطفل أو باللحظة التي يعي فيها أنه منفصل عن أمه ومختلف عنها. ثم أن المجتمع يتدرج في تطوره، فنقول عنه أنه في مرحلة الطفولة الأولى أو الثانية، أو في مرحلة المراهقة أو الرشد .... ونحن يمكن أن نعتبر أن البشرية قد بدأت تدخل مرحلة الرشد حين اكتشفت العقل. وبوادر هذا الاكتشاف كانت مع الفلسفة الاغريقية. لكن لأن ليس كل المجتمعات البشرية تسير بنفس وتيرة التطور، فقد تأجل هذا الرشد إلى أن جاءت النهضة الأوروبية. ولكن الوصول إلى هذه المرحلة الأخيرة، لا يعني أن البشرية قد تخلصت من رواسب طفولتها أو مراهقتها. فكما أن الفرد البالغ يبقى محكوما طوال حياته برواسب طفولته، وهو يمكن في أية لحظة أن يعاود السقوط تحت تأثيراتها، فيقوم بتصرفات صبيانية، بسبب ما يسميه علماء النفس باللاشعور الذي يبقى دائما حاضرا في دواخله، فكذلك المجتمع الراشد قد يتصرف بصبيانية وبطيش المراهقة، بسبب تأثير اللاشعور الجمعي الذي وإن بقي في حالة كمون، فهو قد يعود إلى السطح في أية لحظة.
إن خاصية هذه النظرية النشأتكوينية، حين نوظفها في تحليل المجتمع في مرحلة معينة، أنها تفرض علينا ألا نقتصر في التحليل، على الإحاطة فقط بالمعطيات الخاصة بتلك المرحلة، كما تفعل مثلا النظرية الماركسية، حين تقتصر على تحليل العوامل المؤثرة الخاصة بمرحلة تاريخية محددة، كالمرحلة الرأسمالية أو الإقطاعية ... ولكن أن نتعامل مع هذا الأخير تماما كما يتعامل عالم النفس مع مريضه، حين يعمد إلى سبر أغوار كل مراحل حياته، منذ أن خرج من بطن أمه أو حتى وهو لا يزال جنينا.
وللإشارة فقد بدا لي في البداية، أن ليس هناك مسوغا علميا لإجراء مثل هذه المقارنة، خاصة وأن ليس هناك في الظاهر ما يجمع بين الحالتين. لكن بعد أن اطلعت على نظرية "الفراكتال" أعلاه، اقتنعت بأهمية هذه المنهجية وصحتها، لأنها ليست في الأخير سوى تطبيق لهذه النظرية الأخيرة توصل إليها هابرماس بطريقته الخاصة، حتى قبل أن تظهر هذه النظرية أو يطلع عليها. فكل الأنظمة الحية البيولوجية منها أو الاجتماعية، تخضع بالضرورة لنفس الآليات ونفس قوانين التطور.
وباستحضار أو بالتأكيد على أهمية ما يسمى باللاشعور الجمعي في تحليل المجتمعات، يكون هابرماس قد أعطى مكانة قوية للعنصر الثقافي في التحليل، وهو ما سيتأكد لاحقا في نظريته حول الفعل التواصلي، وبالتالي يكون قد تجاوز الماركسية التي بقيت تربط كل شيء بالجانب الاقتصادي فقط وبالعوامل الانتاجية الخاصة بمرحلة معينة. ولهذا فضلنا نحن أن ننتقل من الحديث عن المادية التاريخية إلى الحديث عن المادية النشأتكوينية.

7- نظرية الميمات théorie des memes
وهي نظرية اقترحها لأول مرة في السبعينات ريتشارد داوكينز، الذي قام أيضا بإعادة تحيين نظرية داروين في التطور، خاصة بعد ظهور عدد كبير من الاكتشافات الجديدة في علم الجينات. مفاد هذه النظرية أن الأفكار والمعاني إنما تتصرف، أو لها تقريبا نفس الآليات كما عند الجينات. أي أنها هي أيضا تسعى إلى التوالد وإعادة الانتاج، والانتقال من مكان إلى آخر والبحث عن البيئات الاجتماعية والثقافية والنفسية المناسبة قصد الاستيطان وضمان الاستمرارية.
وقبل الحديث عن هذه الأخيرة، لا بد من الإشارة أولا ولو باختصار، إلى بعض ما وصل إليه العلم في موضوع الجينات. فما أصبح معروفا على هذا المستوى، أن هذه الأخيرة، منذ أن ظهرت إلى الوجود، أي حين ظهرت الحياة على سطح الأرض منذ حوالي ثلاثة ملايير سنة - وهذا ما لم يستطع أحد لحد الآن معرفة كيف حدث- وهي تسعى إلى التوالد وإعادة إنتاج نفسها حتى تضمن استمراريتها. ولهذا الغرض عملت الجينات على توظيف كل الإمكانيات التي تتيحها الظروف الطبيعية الفيزيائية منها والكيماوية فوق الكرة الأرضية. وباعتبار أن هذه الجينات هي جزء من هذا العالم الطبيعي الذي تمثله الأرض، فقد كان من الضروري أن تخضع هي أيضا، لنفس القوانين المتحكمة في هذا الأخير. ومن هذه القوانين بطبيعة الحال، قانون التعقيد أو التطور، والذي يأخذ كما رأينا مسارات مختلفة:
فهي قد تأخذ مسارا تعدديا، بحيث تدفع الخلايا التي تحملها إلى الانقسام على نفسها والتكاثر والانتشار حيثما وجدت بيئة مناسبة. ولعل من الجينات التي لا زالت تعتمد هذا المسار في التكاثر، هي جينات البكتيريا والكائنات الأخرى الأحادية الخلية. كما قد تتبع مسار التخصص الوظيفي، أي عوض أن تتفرق الخلايا بعد انقسامها، تفضل البقاء متوحدة في جسم واحد متعدد الخلايا، لكن مع إحداث تخصص أو توزيع للوظائف بين الخلايا المختلفة المكونة لهذا الجسم. ومن تم تنتقل إلى تعقيد سلمي complexité scallaire ou d’échelle، بحيث تتجمع الخلايا المتخصصة في وظائف متشابهة، في وحدات وسطى ما بين الجسم والخلايا هي الأعضاء أو الأجهزة الجسمية.
ومن الأكيد، أن هذه الجينات منذ ظهورها قبل ملايين السنين، وهي تجرب أشكالا وظيفية أو تخصصية مختلفة، لكن عملية الانتقاء التي تفرضها العوامل الطبيعية، كالحرارة والرطوبة والضوء، تجعل كثير من هذه الأشكال تندثر ولا تبقى غير الجينات أو الخلايا التي طورت وظائف ملاءمة مع هذه العوامل الأخيرة. ومع كل تغيير يحدث في الطبيعة، يزداد التعقيد الوظيفي والسلمي في الأجسام الحية. وما أنواع الكائنات الحية الهائلة التي استوطنت الأرض لحد الآن، إلا أشكال اختارتها الجينات لتضمن توالدها واستمراريتها. فالجينات هي التي دفعت إذن إلى ابتكار وظائف أو تخصصات أو آليات جديدة لاستخدامها في بحثها الحثيث عن البيئات الملاءمة للتناسل والتكاثر، ومن ذلك مثلا امتصاص التغذية مباشرة من الأرض عن طريق الجذور بالنسبة للنبات، أو السباحة في الماء أو الطيران في الفضاء أو المشي على الأقدام ...ألخ وعلى عكس القناعة السائدة، فإن أجسامنا حسب هذا التصور، ليست في آخر الأمر غير آلات جد معقدة تستعملها هذه الجينات لتحقيق غرضها في الاستمرارية. فلسنا نحن الذين نسعى أو نرغب في التوالد، وإنما هي جيناتنا التي توظف أجسامنا لتحقيق غايتها.
ثم للإشارة هنا، أن بناء أجسامنا وأجسام كل الكائنات الحية الأخرى، لم يأت بشكل جاهز أو حسب خطة معدة مسبقا، ولكن الهيئة التي نوجد عليها إنما جاءت فقط نتيجة لسلسلة من التجريب والخطأ. أي أنه بعد أن تم تجريب ملايير الأشكال الجسمية، فقط الأشكال التي صمدت منها أمام العوامل الطبيعية، أي التي حظيت بالانتقاء الطبيعي هي التي بقيت، بينما اندثرت الأشكال الأخرى. وبعبارة أخرى، أن الهيئة الجسدية التي نوجد عليها ليست من عمل مهندس، قد قام مسبقا بوضع تصميم أو مخطط قبل الشروع في البناء، كما في التصور الميتولوجي حول قصة خلق آدم، ولكن كأنها فقط من فعل "ملفق" bricoleur يجرب في كل مرة طريقة أو شكلا معينا حتى يعثر على الحل المناسب.
غير أن أهم ابتكار ربما توصلت إليه هذه الجينات، هو ما يسمى بالميمات أو ما سيتطور لاحقا إلى المعاني والأفكار. فالميمة une meme يمكن تعريفها بأنها وحدة معلوماتية أو حزمة من المعلومات، أو ما يشبه "البايت" bit في الاعلاميات، والتي يمكن أن تنتقل من فرد إلى آخر، حاملة معها معنى معين. وهي قد تكون في شكل إشارة أو رمز أو فكرة ...
في البداية كانت الكائنات الحية، وهي تسعى إلى التوالد والبحث عن الاستمرارية، وبعد أن اخترعت الحواس كوسيلة للتعرف على محيطها وجمع المعلومات عنه، تشتغل كل بمفردها، بدون الاهتمام أو التعاون مع الأفراد الآخرين من جنسها. ثم أن هذه الكائنات اهتدت إلى أنه من مصلحتها، لتوفير حظوظ أكثر، أن تتعاون فيما بينها، فظهرت المجتمعات الحيوانية الأولى. غير أن هذا التعاون لكي يتحقق، افترض وجود تبادل للمعلومات التي يتوصل إليها كل فرد مع الأفراد الآخرين. وهكذا ابتكر مجتمع النمل مثلا، طريقة لتبادل المعلومات باستعمال رائحة أو مركب كيماوي خاص، يسمى "الفيرومون" phéromones، تنثره النملة في طريقها كإشارة منها توجهها إلى أفراد جماعتها لتدلهم على موقع للغذاء أو تنبههم لخطر داهم. وعن طريق حاسة الشم، يلتقط النمل الآخر الإشارة ليترجمها إلى معلومة لها معنى معين بالنسبة إليه.
وكذلك ابتكر مجتمع النحل طريقة مشابهة لذلك باستخدامه للذبذبات الصادرة عن أجنحة النحلة حين طيرانها، لإرسال الإشارات وتبادل المعلومات. غير أن هذه الوسائل بقيت جد بدائية، لأنها تفرض على مجتمع من هذا النوع، أن يدفع بالتخصص بين أفراده إلى مستوى تخصص بنيوي، أو يدخل في خانة التعقيد البنيوي. أي أن هذا التخصص يمس البنية الجسدية لأفراد المجتمع، حيث يتخصص بعض الأفراد جسديا وليس فقط وظيفيا، في مهام جد محددة، كأن تتخصص النملة الملكة مثلا في الإنجاب ونملة أخرى في الحراسة وثالثة في جلب الطعام .... وإذا كان مجموع هذا النمل يكون نظاما محكما، ويعمل حسب برنامج معلوماتي مضبوط، فإن التخصص البنيوي للأفراد، يجعل من المستحيل على نملة أن تعيش خارج مجتمعها. وهذا ما يطلق عليه في النظرية العامة للأنظمة، بالنظام ذي الفاعل الأحادي système uni-agent الذي يمتلك مركز قرار وحيد رغم كثرة الأفراد المنتسبين إليه كما في الجيش مثلا، في مقابل النظام متعدد الفاعلين multi-agents système الذي يتميز بوجود عدة مراكز قرار ترتبط وتنسق فيما بينها، كما الأمر في النظام العالمي مثلا.
كانت البداية التي هيأت لظهور مثل هذا النظام الأخير، هو ربما حين اهتدت بعض الكائنات الحية إلى آلية التوالد الجنسي، أي بالتقاء الذكر والأنثى، عوض التكاثر الانقسامي كما عند البكتيريا. وبالخصوص بعد أن اختارت إناث الحيوانات الثديية، الاحتفاظ ببيضها داخل رحمها حتى اكتمال نمو الجنين، ثم الاستمرار في العناية بالرضيع إلى سن معينة.
وربما ستكون تلك العلاقة التي ستنسج بين الحيوان الأم ورضيعها، هي أول نوع من العلاقة بين نظامين حيين مستقلين نسبيا بعضهما عن بعض. أي أن هذه العلاقة هي التي ستؤسس لأول نظام ثنائي الفاعلين bi-agents ، يمثل كل واحد منهما مركز قرار مستقل بذاته، والتي سيمهد لقيام نظام أكثر من ثنائي. وللتواصل بين الطرفين، سيعتمد هذان الفاعلان على وسائط متعددة لتبادل المعلومات، كالرائحة واللمس والصوت والإشارات المرئية.
وبهذا التعدد في الوسائط، سيصبح ممكنا تحقيق التواصل بين أكثر من فردين، وتتحول تلك الإشارات والرموز التي تتبادلها الأم مع رضيعها، إلى إشارات بين أفراد الجماعة الحيوانية المتعددة. ومع المدة ستكتسب تلك الإشارات، خاصة الصوتية منها، ثبوتا واستقرارا أكبر، أي ستتحول إلى وحدات معلوماتية ثابتة، تحمل نفس المعنى مهما اختلف المكان أو الزمان أو الأفراد الصادرة عنهم. فصوت الإنذار الذي يطلقه حيوان معين داخل القطيع، سيكون له نفس المعنى ونفس الوقع على كل أفراد القطيع. وسيكون هذا الصوت من بين أولى الميمات التي ظهرت إلى الوجود.
ومع تزايد التعقيد البنيوي والوظيفي عند مجتمع الحيوانات، أي تطور خصائص جسمية نوعية وظهور وظائف جديدة لدى أفراده، سيغتني سجل هذه الميمات أكثر فأكثر، ويتوسع قاموس الإشارات الحاملة لمعنى. أو بلغة الإعلاميين، ستتبلور مجموعة من "الألغوريتمات" algorithmes ، أي بنوك معلومات مشفرة بطريقة يسهل تداولها بين جميع أفراد المجتمع.
وإذا كانت بعض الكائنات الحية تقوم بتثبيت جزء من تجاربها أو ما راكمته من معلومات وميمات، في صميم بنيتها البيولوجية، أي في شكل رموز وشفرات وراثية تترجمها إلى مركبات كيماوية مسجلة في جيناتها، وهذا ما يحدث في حالة ما يعرف بالطفرة البيولوجية، فإن كائنات أخرى ستبدع آلية أكثر نجاعة وسرعة لنقل المعلومات من جيل إلى آخر. وهو ما يتمثل في التنشئة الاجتماعية. فبفضل هذه الأخيرة، لم يعد من الضروري انتظار مثل تلك الطفرة التي لا تحدث ربما إلا على رأس عدة أجيال، لنقل التجارب المتراكمة عن طريق الوراثة، ولكن أصبح من الممكن نقل ذلك إلى الأفراد المولودين حديثا في زمن قياسي. أما أداة هذه التنشئة الأساسية، فكانت هي المحاكاة، حيث يراقب صغير الحيوان حركات الكبار ليقلدها ويستفيد من خبراتهم، موفرا بذلك الجهد الذي كان سيتطلبه منه المرور بنفس تجارب هؤلاء. ففي حالة التقليد، أنه كلما توفر لحيوان داخل الجماعة معلومة أو تجربة جديدة ثبتت نجاعتها في الممارسة، فإن هذه المعلومة أو الميمة تكون لها أوفر الحظوظ لأن يتقبلها الآخرون، أو تنتقل إليهم عبر المحاكاة والتقليد.
وكلما تزايد حجم المعلومات المتداولة، إلا واضطرت الجينات المكونة للفرد إلى دفع المزيد من الخلايا للتخصص في مجال تخزين المعلومات ومعالجتها، أي الزيادة في عدد الخلايا العصبية والرفع من قدرات الدماغ حتى يكون قادرا على انجاز هذه المهمة. غير أن المزيد من التعقيد البنيوي في الدماغ : تكاثر الخلايا العصبية، أو من التعقيد الوظيفي : ظهور مراكز متخصصة في الدماغ ينفرد كل واحد منها بمعالجة نوع معين من المعلومات، بصرية مثلا أو سمعية أو غير ذلك، قد أدى في مستوى معين، إلى انبثاق وظيفة دماغية جديدة أكثر تعقيدا، لتكون أرضية تقاطع interface لكل الوظائف الدماغية الأخرى، أو للتنسيق فيما بينها. وهذا ما نشاهد له نموذجا قريبا حاليا في مجال المعلوميات، بمحاولة الانتقال من أجهزة الحواسب التقليدية إلى حواسب الذكاء الاصطناعي. وهذه الوظيفة الجديدة هي ما نطلق عليه الذكاء أو الوعي، والذي استطاع أحد الحيوانات من فصيلة الرئيسيات primates، أن يكون السباق إلى إبداعها، فيؤسس بذلك لفصيلة حيوانية أكثر رقيا هي الإنسان.
وستسمح هذه الطفرة الدماغية التي يقدر الأنتروبولوجيون أنها وقعت ما بين 6 و2 ملايين سنة من الآن، بالتداول الواسع للمعلومات، خاصة بعد ابتكار الإنسان لواسطة جديدة قادرة على حمل هذا الكم الهائل من المعلومات، هي اللغة. وسيتواصل هذا التطور الدماغي بوتيرة أكثر فأكثر سرعة، ليظهر الإنسان العارف homo sapiens، قبل 200 ألف سنة، ثم الإنسان العارف الحديث homo sapiens sapiens قبل 50 ألف سنة.
غير أن الجديد النوعي الذي سيحمله هذا التطور الدماغي، هو أن الميمات ستجد التربة جد خصبة للإنتشار حتى بدون الإعتماد على الجسم أو الدماغ الذي حملها في البداية. وبمعنى آخر أنها ستحصل على نوع من الاستقلال الذاتي عن الجسم، تماما كما سبق وأن حصلت الجينات على نوع من الاستقلال اتجاه العالم الفيزيائي والكيماوي الذي أنتجها، فلم تعد مرتبطة بالبيئة التي ظهرت فيها لأول مرة، وصار بإمكانها الإنتقال إلى بيئات جديدة عن طريق السباحة أو المشي أو الطيران.... أي أن هذه الميمات وبفضل الوسائط الجديدة خاصة اللغة، سيصبح بإمكانها التنقل بحرية بين أدمغة الجماعة أو الجماعات البشرية، ويظهر بالتالي نظام جديد بالغ التعقيد و متعدد الفاعلين هو الثقافة.
وهكذا يمكن أن نعرف هذه الأخيرة، بأنها هي مجموع الميمات أو الوحدات المعلوماتية التي راكمتها البشرية منذ انفصالها عن الرئيسيات الأخرى، وبقيت تتداولها فيما بينها.
أما عن الآليات والقوانين التي ستتحكم في هذا النظام الثقافي، فهي لن تخرج بالضرورة عن الإطار العام للنظام البيولوجي باعتبار أن الجزء يتبع للكل. بل وحسب ما تذهب إليه نظرية "الفراكتال"، أن هذه الآليات لن تكون أكثر من صيغة لكن أكثر تعقيدا، من آليات البيولوجيا.
فالميمات ستسعى بدورها إلى البحث عن الاستمرارية، وتتبع في ذلك طرقا متنوعة. فهي من جهة ستحرص على الانتشار والتكاثر العددي، وذلك بالانتقال عبر المحاكاة إلى أكبر عدد ممكن من الأدمغة عبر وسائط جديدة أكثر فعالية تبتكر في كل مرة. ومن ذلك مثلا، توظيف الرنات الصوتية الموزونة كما في الغناء أو الشعر أو الأمثال الشعبية، حيث تستفيد من قابلية خاصة لدى الدماغ البشري اتجاه الأصوات، لتتسرب بسهولة إلى ذهن الفرد المتلقي. فهذا الأخير سيجد سهولة أكبر في حفظ وتذكر الكلام الموزون أو الملحن، بالمقارنة مع الكلام المسترسل العادي. وهذا ينطبق أيضا على الرموز المرئية وعلى الصور التي ستكون في أصل ظهور الكتابة.
ثم أن الميمات ستخضع بدورها، لمبدأ التعقيد البنيوي ، بأن تختار ميمة الاندماج مع ميمة أخرى أو أكثر، لإنتاج ميمة جديدة أكثر لياقة أو قدرة على المنافسة. وما نسميه بالتجريد الذهني ليس في الحقيقة سوى عملية مسترسلة من التعقيد البنيوي، أي من الاندماج بين ميمات متعددة، يتنج عنه في كل مرة ميمة أكثر تعقيدا، قد تكون فكرة أو نظرية أو قانونا علميا. وإذا كانت الجينات في بحثها عن الاستمرارية قد أبدعت آلية التزاوج بين حاملين لنوعين مختلفين من الجينات: ذكر وأنثى، فإنه في عالم الميمات قد يحدث التزاوج أو التركيب بين أكثر من صنفين من الميمات. وبالتالي تكون القدرة على إنتاج الميمات الجديدة أكبر وذلك ما نجده في قدرة التخيل الواسعة عند الإنسان.
وكما أن الجينات تبقى في حالة بحث دائم عن البيئات الطبيعية والبيولوجية المناسبة للانتشار والتكاثر، فكذلك الميمات. غير أن البيئة التي تبحث عنها هذه الأخيرة ليست طبيعية ولا بيولوجية، وإنما من طبيعة نفسية أو ثقافية أو اجتماعية. فإذا أخذنا ميمة معينة كفكرة الإرهاب مثلا، فهي ستجد مبتغاها عند الشخص الذي له مواصفات نفسية معينة ويحمل قناعات ثقافية خاصة ثم أنه يعيش في بيئة اجتماعية تقبل مثل هذه الفكرة، وحين ستعثر عليه ستقوم بالاستحواذ على عقله وبالتالي توظيفه حسب مبتغاها.
وبعبارة أخرى، أنه كما الجينات توظف أجسامنا لتحقيق غايتها، فكذلك تفعل الميمات بعقولنا وأذهاننا. وعلى سبيل الإشارة، أنه لما كنت أحاول شرح هذه الفكرة لأحد الأصدقاء، وجد هو التعبير المناسب عن ذلك، بأن الميمات إنما "تسكننا" تماما كما "يسكن الجن" بعض الناس في الاعتقاد الشعبي. وهذا يعني أنه حين أحاول أنا مثلا الدفاع عن فكرة معينة، فليس لأني أنا الذي اقتنعت بها، ولكن لأنها هي التي سكنتني وتقوم الآن بتوظيفي لصالحها. وفي الحقيقة لست أدري وأنا أحاول تفسير فكرة الميمات، إن كنت أنا الذي أخاطبكم هنا، أو أنني مجرد بوق مسخر من طرف هذه الأخيرة، تستعملني لكي تتسرب إلى عقولكم أنتم أيضا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. النزوح السوري في لبنان.. تشكيك بهدف المساعدات الأوروبية| #ال


.. روسيا تواصل تقدمها على عدة جبهات.. فما سر هذا التراجع الكبير




.. عملية اجتياح رفح.. بين محادثات التهدئة في القاهرة وإصرار نتن


.. التهدئة في غزة.. هل بات الاتفاق وشيكا؟ | #غرفة_الأخبار




.. فايز الدويري: ضربات المقاومة ستجبر قوات الاحتلال على الخروج