تُعتبر جماعة ( العصور ) المجموعة الفكرية الاولى التي اقتحمت ساحة نقد الدين والفكر الديني بجرأة وشجاعة وصراحة في بدايات القرن الماضي ، ويرجع الفضل  في تأسيس هذه الجماعة الى اسماعيل مظهر الذي أسس مجلة ( العصور ) والتي كانت لسان حال هذه المجموعة والناطقة باسمها ..

ولد اسماعيل مظهر في عام 1891 من عائلة ثرية ، وتلقى تعليمه في القاهرة وانكلترة ، وكان لخاله أحمد لطفي السيد الذي شجعه على تبني الفكر الحر تأثير عظيم عليه ، ولكن اهتمامه بالعلوم الغربية جذبه الى حلقة يعقوب صروف ، فبدأ يكتب في مجلة المقتطف بدلا من مجلة السياسة ، ثم ترجم كتاب داروين " أصل الأنواع " وكتب عدة مقالات في العلوم والفلسفة قبل أن يصدر مجلة العصور ..

وفي عام 1927 أصدر اسماعيل مظهر العدد الأول من مجلة " العصور " وكتب في مقدمتها أن المجلة ستخصص للآداب والعلوم والفلسفة ، وقال أنها ستبحث في قضايا الساعة متحررة من جميع الآراء والنظريات المسبقة التي طالما قيدت الكتاب ومنعتهم من قول الحقيقة .

وما أن ظهرت مجلة العصور حتى تجمع حولها عدد من الكتاب الذين يناصرون الفكر الحر، فانتشرت على نطاق واسع في العالم العربي ، وكتب بعض هؤلاء مثل حسين محمود في الفكر الغربي الحر متناولا آراء برتراند راسل اللاادرية وسواها ، كما كتب آخرون مثل عمر عناية في تاريخ الدين والأفكار الدينية كما لو كانت مجموعة من الأساطير ، ونظم جميل صدقي الزهاوي وأنور شاؤول ( وهما شاعران من بغداد والثاني يهودي ) قصائد حبلى بالافكار اللاادرية ، كما أسهم ابراهيم حداد وكامل كيلاني في كتابة مقالات مماثلة ، ولكن اسماعيل مظهر فاق جميع المفكرين الأحرار في القاهرة بمقالاته الجريئة التي تناول فيها المعتقدات الدينية والتي لم يسبق لأحد أن تجرأ على نشرها ، ففي مقالة له عن علاقة الانسان بالله أشار الى أن من المفاهيم الخاطئة لدى الانسان أعتقاده أن الله خلقه على صورته ، مع أن الحقيقة هي أن الانسان هو الذي تصور الله بطريقة تعكس صورته هو ، أما بصدد الأنبياء فقال أن الله اختار انبياءه من منطقة واحدة تقع بين جبال طوروس والمحيط الهندي ، وبين البحر المتوسط والخليج العربي ، فلماذا اختارهم من هذه الديار ؟ الأن سكانها كانوا شعب الله المختار ؟ أم لأنهم كانوا سادرين في الضلال والكفر الى حد جعل الله يرسل اليهم العديد من الأنبياء ليهديهم سواء السبيل ؟ ثم لماذا سمح الله لشعوب اخرى بأن يتبعوا الأنبياء المزيفين أمثال بوذا وكونفوشيوس وجعلهم ينخدعون بهم ؟ ثم خلص الى القول بأن هذه المفاهيم الخاطئة هي التي دفعته الى الايمان بالفكر الحر .

وقد كتب العديد من كتاب مجلة " العصور " مقالات في نقد طه حسين لعجزه عن الادلاء بآراء واضحة في أمر القرآن ، ونقد علي عبد الرازق الذي ابدى بعض التلون في الكشف عن مواقفه من الاسلام على رأي أحد الكتاب في العصور .. هذا فضلا عن نقد الكتاب الاسلاميين أمثال رشيد رضا وعباس محمود العقاد ..

ولم يقتصر النقد على الكتاب العرب ، بل تجاوز ذلك الى نقد الكتاب الغربيين أمثال سير اوليفر لودج الذي حاول التوفيق بين العلم والدين ، وويل ديورنت الذي عالج بعض الفلاسفة كهيوم وهيغل معالجة ناقصة ، وفرانك كرين مؤلف كتاب : لماذا أنا مسيحي ؟ .

على أن الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 1930 أصابت مصر بالجمود والركود الاقتصادي ، وكان اسماعيل مظهر قد استثمر كل ما لديه في مجلته التي عادت عليه بالشهرة لا بالثراء ، وقد عانى مظهر الأمرين من تلك الازمة الاقتصادية مما اضطره أخيرا الى ايقاف مجلة العصور في عام 1931 ( أي استمر عطاء المجلة أربع سنوات فقط ) .

وعلى أثر توقف مجلة " العصور " حاول ابراهيم حداد ، الكاتب اللبناني ، أن يرفع لواء الفكر الحر في بيروت ، فاصدر مجلة سماها " الدهور " ، ولكن هذه المجلة  عاشت سنتين فقط ، ثم توقفت كسالفتها لأسباب مادية ، ولم تصل " الدهور " التي كانت أكثر اعتدالا الى مستوى " العصور " ، ولكن الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي نشر فيها أشهر قصيدة فلسفية له بعنوان " ثورة في الجحيم " مقلدا رسالة الغفران للمعري ، والكوميديا الالهية لدانتي ، وفي هذه القصيدة أعرب الزهاوي عن آرائه المتشككة بالمعتقدات الاسلامية وعالجها وكأنها من الأساطير القديمة .

وبذلك طويت صفحة الفكر اللاديني الحر في المشهد الثقافي العربي .

المراجع :

1-       الاتجاهات السياسية في العالم العربي : مجيد خدوري .

2-       ملحق كتاب الملل والنحل : محمد سيد الكيلاني .