الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معنى الانسان في تصورات ابن عربي

مهدي النجار

2007 / 12 / 1
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


عاش ابن عربي (محي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الاندلسي) في الفترة الكلاسيكية المجيدة من التاريخ الاسلامي او ما يطلق عليها بالعصر الذهبي للحضارة الاسلامية حيث ازدهرت الفلسفة وتصاعدت الافكار العقلانية وتبلور ذلك الموقف الذي يحترم الانسان بحد ذاته ولذاته ويعتبره مركز الكون ومحور القيم ويمكن حصر هذه الفترة بين عامي 800 – 1300 ( اي بين القرنين التاسع والثالث عشر الميلاديين او الثالث والسابع الهجريين) وعاصره في هذه الفترة كبار المفكرين والمتصوفة الاسلاميين امثال: ابن رشد/ فخر الدين الرازي/ شهاب الدين السهروردي/ ابي الحسن الشاذلي/ جلال الدين الرومي .... . ولد ابن عربي بمرسية في الاندلس عام 1164 ومات ودفن عام1240 في سفح جبل قاسيون، وقد لقب بعدة القاب منها : المتصوف الكبير/ الشيخ الاكبر/ سلطان العارفين/ ولكن اجمل تلك الالقاب واغربها لقب: "الكبريت الاحمر" وهذا رمز للاكسير المفترض الذي يحول المعادن الى ذهب، ومن المعروف ان الشيخ ابن عربي قد برع في علم التصوف وكتب فيه المئات من الكتب والرسائل زاد عددها عن خمسمائة كتاب على حد قول عبد الرحمن جامي صاحب كتاب "نفحات اندلسية" ومن اهم كتبه واشهرها: الفتوحات المكية/ فصوص الحِكم/ الاحاديث القدسية/ عقلة المستوفز/ ترجمان الاشواق/ التدبيرات الالهية في اصلاح المملكة الانسانية/ المعارف الالهية/ الفتوحات المدنية/ محاضرة الابرار/ انشاء الدوائر/.....الخ. يصفه بروكلمان بانه من اخصب المؤلفين واوسعهم خيالاً ويشكل تراث الشيخ موسوعة صوفية قائمة بذاتها.
ان اساليب الكتابة عند اهل التصوف بشكل عام وعند ابن عربي بشكل خاص امتازت باثنتين من الميزات احداهما غزارتها بالمصطلحات التى تنتمي الى فلسفات وديانات متنوعة وعديدة، وثانيهما التمويهات والتلميحات التي يصعب النفاذ دائماً الى المعنى الحقيقي لدلالاتها وقد صرح تلميذ ابن عربي وشارحه عبد الوهاب الشعراني في "اليواقيت والجواهر" بانه وجد في "الفتوحات المكية" مواضع لم تفهم، اما سعاد الحكيم، وهي خير من عبر عن ذلك بسبب كثرة تعاملها مع مصطلحات ابن عربي، فقالت: "ان هذه المصطلحات ماء ينساب من ايدي الباحثين" (المعجم الصوفي).
لقد قصد الشيخ من ذلك هو التمويه على الفقهاء والحكام، وهو يعلم بما حلَّ بكل من الحلاج والبسطامي والسهروردي وغيرهم على ايديهم، لذلك فانه ينصح اصحابه من الاولياء بالتستّر قدر الامكان من لحظ الفقهاء، ومسايرتهم في معتقداتهم، فالعاقل هو من يعامل الوقت بما يليق – حسب نصيحة ابن عربي- ويحفظ نفسه ويجنبها مواطن التهم. كما بامكانه ان يعتزل عنهم في بيته لاقامة دينه حسب ما يعتقد هو، وبحيث لا يدري به احد. ومن الجديربالذكر ان ما ساعد ابن عربي على مواصلة نشاطه الثقافي التصوفي هو استقراره في دمشق تحت رعاية ملكها المعظم عيسى بن سلطان العادل الذي عُرف بالتسامح وحبه للتصوف فقد كان يحضر دروسه ويقبل يده في المسجد. تقدم الشيخ الاكبر خطوات واسعة في خرقه للافكار والتصورات التقليدية الشائعة انذاك، تارة بالتلميح وتارة بالتصريح، فالله الذي كان منشغلاً به ويتحدث عنه هو ذلك المحاور الاساسي الحر،الضروري، المولد للدلالات والاشارات التي لا غنى عنها للعقل الباحث عن المعنى باستمرار وبنوع من التوتر القلق والخلاق، وتمايز عن مفكري عصره بتاسيس نظريته المعروفة في تاريخ الفلسفة الاسلامية ب "وحدة الوجود" وينبغي الاشارة بان " وحدة الوجود" في نظر شيخنا ابن عربي هي ليست وحدة وجود مادية كما راتها فلسفات القرن التاسع عشر او التي قبلها، حيث ترى ان الله كامن في القوانين التي تتحكم بالمادة... بل على العكس من ذلك تماماً، فهو يرى ان العالم المادي ظل للاله، هو وحده الموجود الحقيقي. لذلك فالوجود كله حقيقة واحدة، من حيث كونه في اعيانه المادية المتعددة، عبارة عن تجليات لهذه الحقيقة. واذا رجعنا للظروف الاجتماعية والسياسية التي عاشها ابن عربي انذاك فسيمكننا ان نعزو اليها بعض الاسباب التي دفعته لتاسيس نظريته في وحدة الوجود وما انبثقت عنها من مواقف انسانية نبيلة، حيث استجابت هذه النظرية وتلك الاراء لمطالب تاريخية شديدة الالحاح، وهي حاجة الناس الى تهدئة الصراع او اخماد التوتر في حوض البحر المتوسط، فقد اشتدت الحروب الوحشية سواء في الشرق او في الغرب. اذ احتدم القتال دامياً شرساً في الاندلس ابتداءً من سنة 1085 وظل شديداً عنيفاً حتى اواسط القرن الثالث عشر للميلاد، اي حتى وفاة ابن عربي او بعدها بقليل، ولقد جرت في ذلك الزمان معركتان من اكبر المعارك التي عرفتها الاندلس طوال تاريخها احدهما معركة الارك 1194 ومعركة العقاب 1212 انتصرت دولة الموحدين في الاولى ولكن جيشهم قد تعرض لمذبحة رهيبة في الثانية، واسفرت معركة العقاب عن سقوط قرطبة واشبيلية ومعظم الاندلس في ايدي الافرنج، بل لم يبقَ للعرب سوى اقليم غرناطة الجبلي وحده. وعلى ضوء تلك الاوضاع التاريخية التي تفاقم فيها الشر واستطار – كما يقول الباحث يوسف سامي اليوسف - فانك قد تملك ان تجد السبب الذي جعل ابن عربي يتحمس لمبدأ وحدة الوجود التي تفضي تلقائياً الى وحدة الاديان ووحدة البشر، وكذلك الى الحب الانساني الشامل. فقد صار الحبُّ ديانة الشيخ ومذهبه؛ او لعله ان يكون واحداً من امتن ركائز ذلك المذهب ولا يوجد في تاريخ التسامح الديني في العالم عبارة اشهر ولا اصدق من ابياته الرائعة:

لقد كنت قبلاً مفكراً كل صاحب اذا لم يكن ديني الى دينه داني
وقد صار قلبي قابلاً كل ملة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لاوثان وكعبة طائف والواح توراة ومصحف قران
ادين بدين الحب انى توجهت ركائبه فالحب ديني وايماني

وما يؤكد توجهه صوب بناء مذهب يضمُّ جميع اصناف العقائد هو قوله:

عَقدّ الخلائقُ في الاله عقائداً وانا عقدتُ جميع ما عَقدوه
وانبثق من نظرية وحدة الوجود نفسها الموقف المتمايز لابن عربي من الانسان باعتباره معبراً عن الكمال الالهي، وخليفته في الارض، اي ان ابن عربي عَكس الكمال الالهي على الكمال الانساني فصارا (الله والانسان الكامل) وجهين لحقيقة واحدة، ففي الحقِّ ان هذا التصور هو التاج الذي يتوِّج مذهب الشيخ لانه جعل من الانسان غاية غايات الوجود واذا خرج الانسان من العالم بقي العالم مثل النخالة. ووجوده يحفظ الوجود. بحيث يزول الوجود اذا زال الانسان، بمعنى اذا فارق العالم هذا الانسان مات العالم. وبهذا الصدد يخاطب ابن عربي الانسان في موضع من الفتوحات المكية فيقول: "انت المصباح والفتيلة والمشكاة والزجاجة" فالعالم ككيان مادي، ليس له قيمة بحد ذاته في تصورات ابن عربي، فهو وان كان خُلق قبل الانسان، الا انه غير مجلو، ولا يمثل ادنى حقيقة، فكان تمام جلائه في خلق ادم الذي قال عنه الله حين اراد خلقه: "اني جاعل في الارض خليفة" فالانسان من الله بمثابة انسان العين من العين، لذلك يقوم العالم بوجوده، ومتى لا يكون الانسان، لا يكون العالم فكما تشير" الفتوحات المكية/ج3 " فالانسان هو العالم الصغير، والعالم هو الانسان الكبير والاثنان يمثلان الحقيقة الالهية في اكمل صورها.ولاول مرة في تاريخ الانسية العربية والاسلامية يصبح الانسان كما في تصورات ابن عربي سّر العالم وروحه وعلة وجوده ولا يقل عن كونه القيمة العليا التي لا تضاهيها اية قيمة دنيوية اخرى. وبذلك صار الكائن البشري ماهية جليلة عظيمة المقدار في مذهب الشيخ الاكبر.
ادخل ابن عربي مصطلح "الانسان الكامل" لاول مرة في قاموس الفلسفة الاسلامية، كما تشير الى ذلك سعاد الحكيم في معجمها الصوفي، ويعني الانسان الكامل اشخاص الانسان في التاريخ، اما غاية الانسان نفسه فهي الكمال حصراً، اي الانتقال من الانسان/ الحيوان الى الانسان/ المثال الذي يسعى للوصول الى ارقى المراتب وهي خلافة الله في خلقه وفضلاً عن ذلك، فقد ذهب الشيخ الى ان التذاذ الانسان بكماله هو اشد اصناف الالتذاذ وفي هذا سموًّ شاهق عظيم. وان اقامة النشاة الانسانية ورعايتها وتعهدها بالصيانة اولى من هدمها والحاق الاذى بها وبما ان الانسان ما خُلق الا من اجل الكمال، فان " من سعى في هدمه فقد سعى في منع وصوله لما خُلِق له" على حدِ تعبير الشيخ في الفص الثامن من فصوص الحكم.
بدأت تلك الثقافة الاسلامية التي انتعشت بها النزعات الانسانية والعقلانية وتصاعدت بها ميول التسامح بالانكماش والانحسار لتحل محلها ثقافات التعصب والاكراه وطرد الاخر، ولترتفع الاصوات المتشددة بالغضب من فتوحات الكبريت الاحمر وفصوص حكمه واشاراته ولم تتردد هذه الاصوات في اعتبار تلك المؤلفات والرسائل من باب الكفر الاكبر، من هنا تاسست هذه النزعات الظلامية واستفحلت في الارض الاسلامية والتي لاتزال تسيطر على العقل الاسلامي
منذ عصر الانحطاط وحتى اليوم وتغذي الحركات الاصولية والعنفية السائدة حالياً. فهذه الحركات المتشددة لا علاقة لها بالموقف الانساني او بالنزعة الانسانية للفكر الاسلامي الكلاسيكي وقد حصل نسيان رهيب للموقف الانساني في السلحة الاسلامية، بل حصلت تصفية له وللاعمال الفلسفية والعقلانية التي كانت قد ازدهرت في الفترات المجيدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منظومة الصحة في غزة الأكثر تضررا جراء إقفال المعابر ومعارك


.. حزب الله يدخل صواريخ جديدة في تصعيده مع إسرائيل




.. ما تداعيات استخدام الاحتلال الإسرائيلي الطائرات في قصف مخيم


.. عائلات جنود إسرائيليين: نحذر من وقوع أبنائنا بمصيدة موت في غ




.. أصوات من غزة| ظروف النزوح تزيد سوءا مع طول مدة الحرب وتكرر ا