الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تشيّؤ الوعي

عمار السواد

2007 / 12 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يواجه وعي الفرد فضلا عن الجماعة استلابا شبه كامل، فالجهد العقلي للفرد لا يشغل الا مساحات قليلة من الوعي، المساحات الاوسع تهيمن عليها المسبقات الدينية والخلفيات الايديولوجية الشمولية والعقل الجمعي وضغوط الهوية الاجتماعية والتقاليد وغيرها من محددات الوعي التي تنتمي الى الحلول الجاهزة. وتنشأ مشكلة الوعي هذه من خلل كبير يكمن في السياقات الاجتماعية والثقافية ويساهم في تقليص قابليات العقل على ايجاد وعي مختلف وتعددية متجددة وايضا يجعل من الحلول والرؤى والتصورات الجاهزة خيارا اساسيا مستمرا ويصنع فردا ومجتمعا اتكاليا.
والخلل بالتحديد هو ان الفرد في واقعنا الديني -والدين هنا يشمل ما هو سماوي وذاك المنتمي الى ايديولوجيات شمولية- لا ينظر اليه الا باعتباره جزءاً من امة او شعب او مجتمع ولا ينظر اليه باعتباره وجودا قائما بذاته يستمد اهميته واستمراريته، قبل اهميته الاجتماعية، من كونه انسانا اولا ومن خصائصه كموجود يتميز عن الآخرين بأشياء كثيرة، اقلها اختلاف بنان اصابعه الذي لا يشابهه به احد، تلك البشرية وذلك التميز يساهمان فيما بعد باضفاء اهمية الفرد داخل البنية الاجتماعية التي ينتمي اليها.. اي ان الاهمية الاجتماعية تعتمد على كونه انسانا لديه خواص ومميزات تسهم داخل البيئة الجماعية له. لذلك فان المنظار الاجتماعي يعتمد الى حد كبير على التعاطي بدءاً مع الفرد ككيان مستقل او نواة اولى. فليست الاسرة، كما يظن الفكر الديني، هي النواة او الكيان الاول بل الفرد هو المكون الاساسي للاسرة ومن ثم للمجتمع الكبير والامة والعالم.
وما زال الانسان، خصوصا، في مجتمعات المرجعيات الثقافية المتسلطة على الوعي يمر بمشكلة كبيرة جدا هي استلاب وعيه من قبل اصحاب "الحظوة" الدينية والسياسية والاجتماعية. فهناك باستمرار، وحتى في البلدان التي لا تعاني من ايديولوجيا شمولية، مرجعيات ذات شرعية غيبية او ذات سلطة ايديولوجية بشرية او ذات هيمنة اجتماعية سياسية، ويصبح الوعي متشيئا عندما تعطي تلك المرجعيات لنفسها الحق في توجيهه ومحاصرته او يسمح الناس لعقولهم ومدركاتهم ان تصبح منقادة للآخرين او ذائبة فيها. فوعي الانسان في ظل هيمنة السياقات الثقافية والعقائدية والايديولوجية المحددة سلفا متشييء. وهذا المصطلح الماركسي المستخدم في عالم الاقتصاد والمعبر عن هيمنة العلاقات الشيئية على العلاقات الاجتماعية، قابل لان يستخدم هنا للتعبير عن تحول الوعي الى شيء خاضع لشروط البيع والشراء وعرضة للتحكم وفق آليات ومناهج التفكير السياسي والثقافي والاقتصادي، ورغم ان المصطلح سيأخذ بعدا اخر غير ذلك المستخدم فيه الا انه قابل للتعبير عن عملية تحويل الوعي ذي الخيارات المرنة الى شيء جامد خاضع وغير قادر على النطق الا بما يستنطقونه.
والمطلوب للوعي كي يكون منتجا وقابلا للنمو وناطقا وليس مستنطقا، التخلص من الآليات القائمة على اساس ربط وعي الناس وطرق ادراكهم باستمرار بوعي واحد وعقل واحد ودين واحد وحزب واحد ومعتقد واحد ونمط فكري واحد... هنالك دائما الأعلم والأفهم والأقدر والأثقف والأنجح... وفي مثل هذه الحالة لابد ان يرتبط وعي المجتمع وافراده بهذا الأعلم والافهم... هذه الهيمنة حولت وعي الانسان الى شيء يتم توارثه من قبل سلسلة الاعلمين في واقع المجتمع والسياسة.. بموت شيخ العشيرة يرثه ولده، وبموت المرجع يرثه الاعلم من بعده وبموت الزعيم السياسي يأتي من بعده ابنه او صاحب المال والنفوذ، وكل هؤلاء لديهم النفوذ الكافي لتوجيه وعي الناس وكأنه سلعة تورث، هذا من جهة.
ومن جهة اخرى توجد الهوية الاجتماعية التي يطالب الفرد بأن يبقي وعيه في خدمتها ويتحدد وفق مصالحها. وعندما يصبح الوعي مستلبا، ويتحول الى شيء قابل للوراثة والتناقل بين ذوي النفوذ وخاضع لاشتراطات الهوية فان الارادة موجهة وفق استحقاقات الوعي. وكيف تكون هنالك ارادة رفض لهيمنة احد على الوعي في الوقت الذي تكون فيه الارادة خاضعة لوعي خاضع لهيمنة اخرى؟
وكي يبدأ التحرر من منطقة هيمنة ذوي النفوذ الثقافي والديني والسياسي والمسبقات الفكرية والمنهجية والدينية على العقل المنتج للوعي لابد من بناء هذا الفرد المستقل القادر على توفير فرص تحقق قناعات خاصة تحجم تأثيرات العقل الجمعي والمنهجية الدينية والايديولوجية المسبقة. والعمل على بناء هذا الفرد المستقل سيحاصر عمليات جعل الوعي اسلاميا او ماركسيا او قوميا... فأسلمة الوعي ومركسته وعربنته وكردنته، تفقد الوعي قدرته على المرونة والتعاطي وفق شروط التطور التي ينبغي للانسان ان يمر بها. لابد للوعي ان يصنع هويته لا ان ينتمي الى أي من الهويات القائمة، وكيف يمكن ان يكون ذلك اذا كان الفرد الحامل للوعي منصهراً بالجماعة لدرجة لا تميز بينه وبين محيطه؟ فكل طرق تحرير الوعي من تلك الهيمنات تمر بطريق واحد هو التعامل مع الفرد باعتباره كيانا ذا خواص مستقلة قبل التعاطي معه باعتباره ابنا لأسرة او ابنا لوطن او مسلما او عربيا.. هو انسان فرد قبل ان يكون عراقيا او شيعيا او سنيا او عربيا او كرديا او مسيحيا او علمانيا او اسلاميا...
من هنا يبدأ العلاج.. فوعي الانسان بحاجة الى الاستناد بشكل كبير للمعرفة بدلا من الايديولوجيا ومناهجها المسبقة، وهو بحاجة ايضا لأن يكون هو صانع الانتماء لا ان يصبح الانتماء هو الذي يوجه الوعي.

عمار السوّاد (الكعبي)















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر: ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق لإقامة الدولة 


.. -الصدع- داخل حلف الناتو.. أي هزات ارتدادية على الحرب الأوكرا




.. لأول مرة منذ اندلاع الحرب.. الاحتلال الإسرائيلي يفتح معبر إي


.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم مناطق عدة في الضفة الغربية




.. مراسل الجزيرة: صدور أموار بفض مخيم الاعتصام في حرم جامعة كال