الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صغار المفسدين و كبائرهم

ديرار عبد السلام

2007 / 12 / 6
المجتمع المدني


المفسدون الكبار هم علة الجوائح والمعجلون بخراب العمران و المؤذنون بضياع الحق و العدل والخير...، لأنهم فاسدون و الفساد على النقيض بصيغة المطلق لهذه القيم. وللاعتراف والإنصاف، لا يقرب هؤلاء نقدا وفضحا وكشفا إلا الراسخ في الصدق و الجرأة و عشق الوطن و الاحتراق ألما على المصير الفادح الظلمة الذي يسوقه إليه المفسدون ، لأن السائد هو التقرب منهم مدحا و نفخا ودعاية وتزلفا يستجدي من خلاله ضعاف النفوس من المستكتبين و الصحافيين الاسميين و كل أصناف الانتهازيين المفسد الكبير فتاتا نجسا ليس إلا.
أما حين نقارب معضلة الفساد بمنطق الحرص على استنبات قيم وسلوكات الممانعة ومحاصرة الأورام في رأس الجسد، و بالا يمان بكون مشوار ولوج التاريخ أو العودة إليه طويل ، زاده ألا يصبح اليأس و الاستسلام شريعة ، حين نقارب المعضلة بهذا المنطق ، يبدو صغار الفاسدين أشد خطرا من كبارهم لأنهم هم الفاعلون الفعليون في اليومي ، المفسدون لاشتغاله ،المحرفون لمساره والمسخرون لضياعه.
و ما دام صغار المفسدين ليسوا قلة بل ينخرون كل القطاعات و الحقول و يتضاعفون كلما استشرى الفساد وتمكن المفسدون الكبار، فإننا لا نملك ادعاء الإحاطة بكل أصنافهم، بل سنقتصر على نماذج فادحة منهم نعتقد أنها الأخطر على المجتمع و مصيره بالمنطق الذي اقترحناه :
أولا: المتعلم أو شبه المتعلم الذي ينخرط في فرع حزب أو نقابة أو جمعية أو أي تنظيم مشابه بمدينة أو قرية لا للعمل في خندق خلق حراك سياسي أوثقافة مدنية ، أو المساهمة في تأطير المواطنين ، أو دعم روح التضامن و التكافل بينهم كما هو مشهور في أدبيات سوسيوـ تاريخية الحقلين السياسي و المدني، بل بحسابات انتهازية ضيقة ، نضالية في منطوقها ومظاهرها ، ثعلبية خبيثة في ماهيتها ، هذا الكائن هو مفسد صغير إلا أن كبائره شديدة الضرر ، فهو بحكم مواصفاته يعطل التنظيم ) حزب، نقابة، جمعية...( الذي يبتلى به ، ويخرب نشاطه ، و يشل في الغالب فعل باقي الفاعلين الصادقين معه ، بل ونتيجة لمكره وثعلبيته ، يتربع ـ في العديد من الحالات ـ زعيما له في مدينته أو قريته. وليس من العسير ملاحظة كون حال العديد من فروع الأحزاب والنقابات و الجمعيات في العديد من المدن و القرى المغربية، و التي انتهت اليوم إلى هياكل اسمية ، إنما هو في جزء كبير منه نتاج للفعل الخبيث لصغار المفسدين الذين ما أن يتمكنوا من هذا التنظيم أو ذاك حتى يمسخوه ويحولوه إلى وكر للتآمر ضد من يفترض في أصله الدفاع عنهم، أو المتاجرة به و فتح أبوابه على مصارعها لكبار المفسدين ك"مناضلين" ! ضمن صفقات يسترزق منها المفسد الصغير ويلمع من خلالها الكبير صورته. وكلما اقتربت مواسم الانتخابات تنشط بمدننا و قرانا هذه "التجارة" حتى أنها أضحت رهانا لصغار المفسدين.
ثانيا: المشتغل في حقل التعليم الذي يختزل مهمته في رقم تأجير)والحال أن التعليم رسالة وقضية(، ذلك الذي يقطع مع الكتاب و المجلة وحتى الجريدة في العديد من الحالات، ويكتسح الصدأ معارفه و مداركه، هو مفسد صغير إلا أن الشرور التي تلحق المجتمع منه ومن نظرائه بشعة إلى أبعد الحدود لأن المفترض فيه أن يتجدد باستمرار و أن يقاتل حالة الوثن التي تتهدده ليتملك الزاد الضروري الذي يؤهله لتخصيب عقول المتعلمين على يديه وتلقيح مخيالهم ليعشق الوطن الحياة و يزهر إرادات مصرة على ضمان موقع مصان بين بني البشر، لا أن يتحول إلى مغتال للطاقات والإمكانيات وعدو للسؤال يساهم بضراوة في تخريج الأقنان )لا في انبثاق المواطنين( ، و في تتبيث كل مسببات التحجر و العجز و الانغلاق، وتلك تقاطيع كبرى للضياع يغيب الوعي بها عند هذا النمط من المشتغلين في حقل التعليم / صغار المفسدين في غمرة انغماسهم في التافه والهامشي واستسلامهم للوهن تحت وطأة عدم تجديد ذواتهم وعتادهم، وتقزمهم في وضعية موظفين عاديين بأجر يضمن البقاء.
ثالثا: الصحافي الاسمي الذي لا يقدر القيمة القصوى لوظيفته الاجتماعية كدعامة بؤرية لكل نهوض مجتمعي وقيام دولة الحق و القانون فعلية، و الذي يدنس نبل رسالته بتحوله إلى مجرد بوق لأشخاص )فاسدين كبار في الغالب( أو لقوى ومصالح )للإفساد( ، هذا الكائن الطفيلي هو مفسد صغير إلا أن آثار فعله معطلة و مخربة في آن، لأنه يحرم المجتمع من معرفة الحقيقة والخبر الصحيح، ويمنع عنه المقال المحلل والمخلخل القادر على زحزحة اليقينيات وإزاحة الغشاوات، الدافع إلى التعلق بالحياة بفتح البصائر على الطريق وعلى شساعة الإمكانيات.
ويتهاوى هذا النمط من صغار المفسدين في مراتب السقوط و الرذيلة إلى حد التحول إلى بائع لحبر قلمه لكل من يدفع : النصاب و الرا شي و السلطوي و المدعي ما ليس له وكل فاسد )كبير في الغالب( يحرص على عدم الانكشاف وعلى أن يغدق عليه الصحافي المأجور من الأصباغ وطلاءات الشفاه ما يضمن التضليل و التمويه، و في ذلك تخريب لواحد من أهم الحقول المهيكلة لكل مجتمع حديث .
وعلى أكتاف هذا الفاسد الصغير المروضة على الخضوع و حمل أثقال المذلة ، وأكتاف أمثاله من الصنف الأول المذكور سابقا، يتسلق كبار المفسدين إلى رئاسة المجالس المحلية و الجهوية وكل المواقع والهياكل التي تضمن الاغتناء السريع الغير مشروع بنهب المال العام، بل و الكراسي البرلمانية، و في العديد من الحالات الكراسي الوزارية أيضا عبر الأولى.
والأخطر من كل ذلك أن عملية الإفساد التي يمارسها المفسد الصغير هنا قد تمضي إلى مستويات أفظع حين لا يجد كبار المفسدين "المسّوقين" أي حرج في أن يتسللوا إلى مواقع أمامية للتنظيمات السياسية والنقابية والجمعوية بعد الدعاية لهم بأساليب ماكرة و دنيئة تمتد من تكذيب التهم المتبوثة عليهم بالحجة و الدليل، إلى تحريف التنكر للشعارات و الوعود)خلال الحملات الانتخابية على الخصوص(، و تحويل التنصل من الالتزامات والتنكر للمبادئ إلى تدبير عقلاني و حداثي للاكراهات ! و الفضائح المدوية إلى مجرد إشاعات، بل والفشل الذريع و الانكسار المروع إلى انتصارات لا يدرك مغازيها العدميون و المشككون !! إلى غير هذه و تلك من أساليب التزييف التي يتفنن فيها صغار المفسدين/ وكلاء المفسدين الكبار لتلميع صورة هؤلاء و جعل الخديعة تنطلي على الحشود. وفي ذلك الكثير من الأذى للمجتمع لأنه يضلله و يخربط أوراقه وأفهامه ويجره إلى قبول الذئب قي هيأة حمل وديع.
رابعا: الموظف في الإدارة العمومية الذي يقصده المواطنون يوميا لقضاء حاجياتهم، و الذي بدل أن يقوم بالواجب ويطبع فيهم –بذلك- انتظارات و استعدادات و وسلوكات حداثية تنمي مواطنتهم ، يماطلهم و يعطل مصالحهم ويبتزهم، إنما هو مفسد صغير قد تكون كبائره أخطر وأشد تكريسا للواقع القائم مما يقترفه المفسد الكبير، لأن فعل الأول يومي و يمارس على نطاق واسع، مما يعمم مشاعر الاستسلام للمظالم و القبول بالأمر الواقع القاهر مع ما يقتضيه ذلك من تسليم بالرشوة واستعداد لدفعها، وقبول بالتمييز ما دام المفسد الصغير لا يتردد في الاستجابة الفورية لطلبات كل صاحب نفوذ أو جاه أو سلطة أمام أنظار المغلوبين على أمرهم، هؤلاء الذين يستأ سد عليهم بمجرد الانتهاء من الركوع أمام صاحب السلطة ، مما يعمق مشاعر القهر و الغبن و الظلم و يبنين ) structurer ( الفساد ويحوله إلى مألوف. وهنا تكمن المخاطر الكبرى لهذا النوع من صغار المفسدين. و ليست مغامرة تحليلية الربط بين آثار أفعال هؤلاء ) طبعا إلى جانب عوامل أخرى( و بين ما يعرفه المجتمع المغربي من ردود فعل عنيفة من حين لآخر و من نزعات متطرفة وبعض مظاهر الكفر بالمجتمع ككل وكذا من استعدادات لمعانقة قيم الموت.
خامسا: رجل الأمن أو الدركي الذي بدل أن يقف شامخا في ملتقيات الطرق و ممرات الخطر لضمان سلامة المواطنين والحرص على الامتثال للقانون و التشبع به ، أو يحضر في الأزقة و النقط السوداء لضمان الأمن و الأمان كحقوق للمواطن على الدولة في كل مجتمع حديث ، بدل كل ذلك، يقف متربصا في زاوية لا تسمح له بأداء مهمته و لكنها تمكنه من تصيد ضحاياه ممن ارتكب مخالفة بسيطة أو حتى بدون مخالفة من المغلوبين على أمرهم لإجبارهم على دفع رشوة . أو يقتفي أثر اللصوص و باعة الممنوعات للحصول على نصيب من مسروقاتهم بدل تجنيب المواطنين مآسي شرورهم، هذا الرجل أمن و هذا الدركي هما مفسدان صغيران إلا أن آثار فعلهما اليومي معطلة لعمران الحق و القانون بشكل فظيع ، يلتقيان في ذلك مع نموذج الموظف في الإدارة الذي أشرنا إليه سابقا في جعل الرشوة و الابتزاز و الظلم مفاسد مألوفة تؤبد كل معيقات انبثاق المواطن ككائن لا يمكن أن يسمح بأن يكون موضوعا لمثل هذه الممارسات المهينة للكرامة و الحاطة من القيمة.
سادسا: الفاعل الديني أو رجل الدين الذي لا يلتزم بحدود حقله ، وبدل الاشتغال فيما من شأنه أن يخدم الرقي الروحي للمجتمع على الأقل، يشغل الناس بالتفاهات الجانبية التي لا تمت لروح الدين بصلة و يورط العقيدة فيما لا صلة لها به، وينتهي بتسويغ الاستبداد و المفاسد، هو مفسد صغير إلا أن كبائره ثقيلة خصوصا في المجتمع التقليدي حيث يشغل الدين مساحة هائلة في منظومته الثقافية، وعوض أن يستثمر فيما يخدم استنهاض الهمم لمقارعة حالة الوهن )وهي إمكانيات هائلة يتيحها الدين( ، يوظفه هذا المفسد الصغير في زرع البلبلة والتشويش و الوساوس ومشاعر الاستسلام و تبخيس قيمة الحياة في مخيال المواطنين. وفي ذلك ضياع لدينهم و دنياهم ما دام الدين في جوهره على النقيض تماما مما يروجه المفسد الصغير المذكور، و ما دامت قيمة الحياة منصوص عليها دينيا، و للحياة مقتضياتها.
سابعا: المتطفلون على الحقل الفني الذين بدل الإتيان بعمل إبداعي حقيقي يسمو بالأذواق و يهذب الأحاسيس و يغذي و ينعش الأرواح، وينعكس ذلك بشكل لافت على الأفعال و الأخلاق كما هو مؤكد في كل الحقول العلمية المختصة في دراسة هذا البعد من الوجود الانساني، بدل كل ذلك، يروجون المبتذل و التافه و الرديء و الساقط، إنما هم مفسدون صغار و لكن بمفعول السم القاتل على المجتمع الذي يروجون فيه سلعتهم الفاسدة، لأنهم يفسدون و يشوهون الذوق العام و يسطحون العقول و المشاعر.
و الأخطر من كل ذلك أنهم حين يكرسون ممثلين ونجوما لهذا الحقل عبر الآلة الإعلامية الماكرة وآليات أخرى مشهورة ضمن سوسيولوجيا الثقافة و الحفريات في منطق اشتغال الرمزي عموما، يصبح الحال بحجم الكارثة، إذ يسهل الاغتيال الرمزي للفنانين الحقيقيين الذين قد يصبحون مجهولين و " نكرات" ! في مجتمعهم بعدما يتم طبع استعدادات خاصة في " زبناء " العمل الفني تجعلهم في الغالب غير مؤهلين لتذوق الفن الفعلي والأصيل وتقبل العمل الإبداعي الراقي و الخلاق، لأن ما يتجاوبون معه )هيجانا ( في هذه الحالة هو الغناء بالجسد المعروض بشكل ممقوت والنعيق بالساقط من الكلمات و الضحل من الألحان. و هنا يختزل الغناء في إثارة و تضخيم الغرائز، و المسرح في التهريج...الخ، و يحرم المجتمع من واحد من أهم روافد سموه و ارتقائه .
ثامنا: يتمثل النمط الثامن و الأخير من صغار المفسدين في أولئك الطفيليين من أشباه الروائيين والكتاب و الشعراء الزائفين ، المتهافتين على الانتشار السريع الغير مشروع و لو بالزائف و القشور و التافه ، لمرض في نفوسهم في الغالب .و نتيجة لمنطق اشتغال الحقل الرمزي و الرهانات حوله ، يتم تكريس مثل هؤلاء في العديد من الحالات ، و هنا تكمن خطورتهم لأنهم يفسدون فيه و يشغلونه على حساب أدباء ومفكرين حقيقيين ، و يبخسونه بجعله مجالا للبيع و الشراء و الحسابات و الرهانات الضيقة، فيضيق معنى الشعر و يصيب المسوخ الرواية و تتشوه الترجمة بضياع المعنى ...الخ ، ويختلط الحابل بالنابل و يتيه المجتمع ما دامت بوصلة أساسية من بوصلاته معطوبة ، لا بل تشتغل بشكل يمنع أي شكل من أشكال تخصيب عقله وتنشيط مخياله و إنعاش ميتا-معرفه.
تلك نماذج من صغار المفسدين، و قد تكون هناك نماذج أخطر منها لم نتمكن من ملامستها و كشفها نرجو أن برصدها آخرون . إلا أن المهم – كم بينا في بداية هذا المقال – هو كون خطر هؤلاء على المجتمع و هياكله و بنياته و سيرورة تحوله و أفقها لا يقل تعطيلا و تخريبا عن خطر كبار المفسدين المشهورين الذين يتم التركيز عليهم في الغالب، إن لم نقل انه أشد و أبشع ما دام الصغار هم أدوات الكبار و سندتهم . إنهم معاول الإفساد بالقرب التي من محاصيلها العلاقات الزبونية و المحسوبية و الانتهازية و الرشوة و التبعية الشخصية و الزيف و التزييف و التشوه و كل المفاسد التي تفتك باليومي و تتحول مع الوقت إلى مألوف. و هي جراثيم الاستنقاع التي تفرز الفاسد الكبير و تدعمه و تحميه، و إلا لظهر عاريا وجها لوجه أمام ضحاياه، كما تسمح له بالتنطع بدون خوف و لا خجل ما دام مطمئنا على كون المجتمع بات – تحت وطأة الفعل الخبيث المتواصل لصغار المفسدين – في حكم المشلول أو السجن الكبير ما دامت كل قنوات رد الفعل و الأخذ و الرد، و المقاومة و الممانعة ، و الرفض و الاحتجاج ، و كل مسالك انبثاق المواطن الرافض للاستسلام لكل أشكال الوجود مهما اختزلت فيما لا يتوافق و أبسط الشروط الآدمية، عطلها أو على الأقل حرف مسارها صغار المفسدين بكبائرهم.
وللإشارة الضرورية ، فإننا لسنا بغافلين عن الشروط المادية القاسية لمعظم هؤلاء المفسدين الصغار و التي غالبا ما تقدم كتبرير لأفعالهم،الا أن مثل هذا الخطاب لا يمس في شيء كون عمليات الإفساد التي هم فاعلوها هي وقائع تشتغل على الأرض، ثم إن أحوالهم المزرية حلقة أساسية من مكر المفسدين الكبار لضمان تسخيرهم أدوات هدم و ترويض و تركيع طيعة ، لاواعية في الغالب ، و إلا كيف نفسر مثلا تصويت برلمانيينا نحن المغاربة على الزيادة الفاحشة في أجورهم بكل سرعة و بساطة ، وسكوتهم المريب على الأجور الاسمية والضرائب الخيالية الخاصة بصغار الموظفين/ مشاريع صغار المفسدين؟.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أطفال فلسطينيون يطلقون صرخات جوع في ظل اشتداد المجاعة شمال ق


.. الأمم المتحدة: نحو نصف مليون من أهالي قطاع غزة يواجهون جوعا




.. شبح المجاعة.. نصف مليون شخص يعانون الجوع الكارثي | #غرفة_الأ


.. الجنائية الدولية.. مذكرتا اعتقال بحق مسؤولَين روسيين | #غرفة




.. خطر المجاعة لا يزال قائما في أنحاء قطاع غزة