الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العمارتان العراقية و الفارسية..مدخل مقارن في الريادة والإقتباس والتواشج

علي ثويني

2007 / 12 / 11
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


العمارتان العراقية و الفارسية
مدخل مقارن في الريادة والإقتباس والتواشج
د.علي ثويني*
معمار وباحث عراقي
يلمس المتتبع لفوضى المفاهيم التي تعم الثقافة المعمارية الكثير من الحشو والتلفيق والمبالغة ذهب بعيدا في تكريس المركزية الغربية،وإسقط في حلكة أزمنة الدعة الحضارية الكثير من المسوغات "الأقوامية" وتفاسير التاريخ الجزافية على حيثيات البناء والفنون. ولا ضير في الأمر حينما يتعلق الأمر بهم، لكن المشكلة تكمن في أصحابنا ممن جعلها مسلمات ومقدسات،وأسبغوا عليها صفة الثابت وتعاملوا معها بسلفية نأت عن اللبابة.
أصبح بديهيا منذ عشرينات القرن العشرين أن حضارات العراق المتتالية تشكل الريادة في الكثير من جوانب النتاج الفكري والفني . أما العمارة العراقية فتعتبر من أثرى المدارس المعمارية في الدنيا، وربما رائدة لأكثر النتاج المعماري العالمي رسوخا وثراءا،حينما تسنى لها أن تستحدث في العمارة الرسوبية جل العناصر المعمارية، ابتداءا من عناصر الهياكل والعقادة بالعقد والقبو والقبة حتى فنون الجص والفسيفساء. والسبب يعود إلى فقرها لمواد بناء مقاومة، من حجر وخشب غابي، جعل منها حقلا يانعا لسطوة الروح والعقل وفذلكة الخيال ،والتي عاضدها رخاء ووفرة غلة ومنتج مادي. و بذلك تصاعدت وأزدهرت في سنة التطور من خلال عمليات الصقل والتهذيب والتجريب.
وترجعنا البحوث في سياق الريادات الى الحضارات القبل تاريخية من (جرموية وسامرائية وحلفية وعبيدية) ثم تاريخية مدونة من سومرية وأكدية وبابلية وآشورية ،والتي أستثنى الفرس منها ردحا إبان دولهم الثلاث (الأخمينية والفرثية والساسانية) ،لكنها أستدركت وأسترسلت لاحقا في فنون وعمائر الإسلام .وهنا نرصد وبالدليل الساطع القاطع أن ثمة ثابت معماري بين كل الحضارات العراقية ولم تحدث قطيعة بينها البته، فتجد أن العبيدية أورثت سومر، وسومر لأكد وأكد لبابل وآشور وهؤلاء لأرام،حتى أن المعاين لسامراء الإسلامية اليوم يجدها إسترسال من صلب بابل بنيت بعد ثلاثة آلاف عام.
لقد أدعى الغربيون بأن الحضارة المصرية أقدم من العراقية على خلفية غزل مبطن في كون مصر متوسطية الموقع وسطوتها على اليونان التي تشبثوا بمرجعيتها برغم وهنه. ولقد أثبتت الحفريات منذ عشرينات القرن العشرين بأن الحضارة والعمارة العراقية هي الأقدم قاطبة وأن (شنعار) التوراتيه هي سومر ،وهي ليست بابل الأولى بل قاعدة لكل ما تلاها من حضارات بعدما أدعى المستشرق الفرنسي اليهودي (جوزيف هاليفي ) 1827)ـ 1917م) قبل رحيله ،وهو صاحب الفتوح في حضارات مصر واليمن ، بأن لاوجود لعمارة أو حضارة سومرية و إنما هي حضارة بابلية مموهة،كي لا يدحض الفروق والمفاهيم بين كشوف الحفريات وأساطير التوراة(العهد القديم). لكن أثبتت الفحوص تباعا بأن تأسيس الأسرة الملكية الأولى في مصر سنة 2400 ق.م يؤرخ لقرب نهاية سومر، وأن المقابر المكتشفة في أور والتي تعود الى نفس الحقبة تمثل خاتمة دور يقدره المؤرخون ببداية الطوفان ويمتد ألف عام ونيف قبل ذلك العهد.وأكدت الحفريات أن مدينة (كيش) الواقعة قرب بابل، يرجع تأريخ ما اكتشف بها من معابد وقصور الى حوالي 3100 ق.م ( ).
و تعود المستوطنات السابقة للتاريخ الذي يبدأ بسومر في جنوب العراق الى أكثر من ألف عام قبل ذلك أي حوالي عام 4500 ق .م وأمتدت حتى نشوء المدن والكتابة حوالي عام 3500 ق . م ،وأطلق عليها اسم الفترة " العبيدية " نسبة الى بلدة العبيد الواقعة على بعد 8,5 كم من اور ، و التي نقبت فيها بعثة إنكليزية في أواخر العشرينات من القرن العشرين . والخاصية الأساسية لها أنها وحدت لاول مرة شمال و جنوب العراق بثقافة مشتركة . وهنا تم العثور على أصل الكثير من المنجزات التي حصلت في الحضارة والعمارة السومرية. فالمسكن "العبيدي" كان يبنى من القصب المطلي بلياسة الطين ، وقد وجدت في (العقير) بيوت طينية متينة مبنية من الآجر (اللبن المربع) وأحتوت أبواب من الخشب او القصب ، وكانت السطوح منبسطة. وكان يوجد في كل بيت ما بين أربع و ست حجرات مخططة بفكر مسبق ، و إحدى الغرف يكون مطبخ و موقد طيني .وأعطت حفريات قرية "اريدو" (أبي شهرين ) أعوام 1946-1949م والتي تمتد حول (زقورة ) نتائج هامة لكونها واحدة من اقدم مدن العراق القديم.
وبالمقارنة فأن أقدم مدينة أنشأت في الهضبة الإيرانية هي أقبطان الواقعة على تخوم همدان الحالية(336كلم جنوب طهران)،وتاريخها يعود الى سنة 800 ق.م ويعدها مؤرخ عمارة فارس (أرثر بوب) بأنها الأولى التي استعملت مبادئ تخطيطية عمرانية ومعمارية( ). أما أقدم زقورة في إيران،فأنها تقع في الأحواز المتاخمة للسهل العراقي والتي تشكل تاريخيا وجغرافيا جزء منه، و أنشأها الملك العيلامي (جوكا زنبيل Choga Zanbil) وأكتملت في عهد الملك (أونتاش Untash) قرب سوسه أو الشوش عام 1250 ق.م. بينما أقدم زقورة في العراق باقية في أور السومرية المخصصة لعبادة الآلة (سن) ،تعود إلى العام 3100 ق.م. لهذا يمكن حساب أن ثمة الفيتين وليس عشريتين بين نشوء البنيان بين شقي الثقافتين.
و لا ترقى أقدم الفنون الفارسية الى أبعد من عهد قورش (Cyrus ) ( 549 – 529 ق.م)، وكانت مدينة (برسيبوليس) أو "فارثيا" تعج بالمعماريين والفنانين العراقيين خلال الحقبة الأخمينية، فجاءت أثار المدينة الدارسة صنو لمدن وفنون الآشوريين. ولدينا مثال نحت الثور المجنح في ثنايا قصور مدينة (برسيبوليس) تقليدا لثور نينوى ،وحسبنا أن الثور لم يكن مقدساً لديهم كما كان الحال لدى الآشوريين ، والذي نجد أنصابه في مداخل مدنهم وقصورهم في نينوى وخرسباد وغيرها. ومن الجدير ذكره أن الأثريين الفرنسيين قد وجدوا "مسلة قوانين حمورابي" البابلية ليس في بابل و إنما من عمليات تنقيبهم في مدينة (سوسه) أو (الشوش) الواقعة في الأحواز ، بعدما انتزعت من مكانها في بابل إبان حالات المد والجزر بين القطرين .
وقد سارت الحضارات الأكدية والكشية ثم البابلية على نفس المنوال البنائي في استخدام الطين كخامة أساسية في البناء،وتطورت خلال الحقب المتعاقبة بسمو المنهج التخطيطي والهيكلي وتكاملت في النسب الجمالية وكفاءة البناء المتعلقة بالجانب الميكانيكي والنوعي وكذلك الوصول الى حالة تنوع متقدمة في المعالجات الفنية ،و الدقة والضبط في تنفيذ العناصر المعمارية . وقد استعمل الآجر المجفف تحت وهج الشمس أو المحروق بالقمائن في البناء وغطي بالآجر المزجج الملون وأكسيت العناصر الداخلية بطبقة من ملاط الجص .واضطلعت المعابد ببؤرة الحياة الروحية والثقافية والتعليمية والاجتماعية. وفي طرق الثابت الثقافي يردنا نفس المبدأ بعد دهور حينما استقطب المسجد في المراحل الإسلامية مع اختلاف جوهري بقدسية المكان وطبيعة العقيدة .وتكرس هذا العرف في المدن الأولى للإسلام وهي البصرة والكوفة أعوام 636 و638م ثم بغداد عام 762م بعد أن أمست سنة عمرانية في مدن الإسلام اللاحقة.
وفي العمارة الآشورية تحول البناء الى استعمال الحجر الكلسي وهي مادة بناء جيدة كانت وفيرة في جبال (شمال العراق) وأستحدثت عناصر معمارية وظيفية ومنها مثلا بناء (السقوف المزدوجة) أو بيوت (الكلة) المصمته أو المتضامة(Compact) في طوابقها الأرضية،والتي انتشرت في أصقاع كثيرة.و استعمل الحجر الكلسي خاصة في أسس البناء المعرض للرطوبة التي تلحق بالآجر النيئ ضررا كبيرا، واستعانوا بالحجر لبناء أسوار الصروح الملكية . و اقتصر استعمال الحجر على وجه الحائط الخارجي و كانوا مقتصدين به ،بحيث أسرفوا في استعمال الآجر.وجدير بالذكر أن العمارة الآشورية لم تكن دينية ولم تقم صروح للروح، بقدر عنايتها بالصرحية التي تكرس سطوة واختيال الحاكم ، والتي أقتبسها الرومان والفرس تباعا ثم وطأت عمارة المسلمين.
وتعد الحقبة الكلدانية المتأخرة من حضارة بابل القمة التي وطاتها العمارة والفنون المعمارية وتشهد بوابة عشتار على سموها. وعندما سقطت بابل على يد قورش عام 593 ق.م وسيطر بدو الهضبة الفارسية على العراق ،حدث أن تقمص الغالب روح المغلوب الحضارية كما في حالة الوندال عندما أسقطوا روما ، أو التتر حينما اسقطوا بغداد، وتجلى تأثير الحضارة العراقية في شتى وجوه الحياة الفارسية حتى هيمنة اللغة الآرامية على الثقافة والإدارة ،و أعتنق الفرس ألأديان العراقية وآخرها المانوية(بصيغتها المزدكية) ،مما دعى الى اعتقاد البعض بأن ماني(213-277م) نفسه فارسي بالرغم من أن كل الدلائل تثبت انتمائه البابلي العراقي. وهنا نشير الى أن إقتران الفرس بالتشيع هو سياق بهذا الإتجاه، فالتشيع أصله عراقي وفصله فارسي، وفي ذلك شجون.
وتعد الحضارة الساسانية الأهم كونها جاءت في نهاية المطاف قبل ورود الإسلام الذي تعمد مؤرخيه الى تعتيم على ما سبقه كونه (جاهلي)،ولاسيما الأرث الآرامي المسيحي خلال ألف عام مثلما طمس الرومان الأرث اليوناني عمدا والبيزنطيين الأرث الروماني بسبب تداول الدول والسلطات مثلما يحدث اليوم بعد كل إنقلاب سلطوي.وبذلك أدغمت المساهمة الفعالة للأرث العراقي والشامي في صلب المنتج العربي الإسلامي. لذا اقتطعت حلقة مهمة من حلقات التاريخ الحضاري العام والعراقي الخاص.وفتح الأمر شهية الغربيين في إلصاق كل ماهو إسلامي في العراق الى ساسان والفرس وفي الشام الى بيزنطة والروم،بسبب تصنيفهم وبسذاجة (آريين)!.
ونلفت النظر إلى أن الساسانيين لم يكن لهم صلة بفارس البته فلغة دواوينهم كانت الآرامية العراقية حتى أن ديوان واردة من مصدر(دون) الآرامي،وأن عاصمتهم طيسفون أو المدائن (منطقة سلمان باك) لم تكن على هضبتهم بل في السهل الرسوبي وعلى تخوم بابل واليوم تقع 25 كلم جنوب بغداد. وعمارتهم محض سياقات للعمارة الرسوبية العراقية وأن أبعد أثر لهم لايتعدى رمية أميال عن الحدود السياسية الحالية ،وأن مكوثهم في التاريخ لم يتعدى الأربعة قرون وهو غير ذي شأن أمام أربعين قرنا سابقة لهم من المنتج الحضاري المحلي.و يؤكد هذا الأمر الباحث المصري الدكتور فريد الشافعي ، حينما يحدد آثار منطقة بايكولي (Paikuli) التي فيها اثر للملك نارسي (Narse) والتي تؤرخ لسنة 294م أو أبعد من ذلك قليلا في (قصر شيرين) وكذلك (سرفستان) و(فيروز أباد) او (سوس) في (الأحواز) وكذلك في (دستجرد) وكل هذه المدائن متاخمة للحدود العراقية ولم يأتي ذلك الأمر اعتباطا . ونجد آثارهم داخل العراق كما في منطقة (الأحيمر) او (كيش) وتقع جنوب المدائن (طيسفون) العاصمة الكبرى للساسانيين ،وكذلك مدائن الحضر و أشور في منطقة الجزيرة و مدينة الحيرة التي خرجت الكوفة من صلبها وتمخضت عن النجف اليوم. وثمة رأي بصدد التجديد في طرز العمارة يورده الكونت ( دي جوبينو ) حينما يقول: ( إن الإيرانيين لم يبتكروا شيئاً جديداً في الفنون ، فسواء أكان في عصر الأخمينيين أم عصر الإشكانيين(الفرثيين) أم بعد ذلك إبان عصر الساسانيين وحتى في العهد الإسلامي لم يكن للفرس طراز أو فن خاص بهم , بل إنهم اقتبسوا من غيرهم من الأمم ، وأمكنهم في النهاية أن يخرجوا من هذه الأذواق فنًّا نطلق عليه الفن الفارسي) ( ). ويقول الدكتور الشافعي في سياق تواريخ الطرز : (لم تمكث فارس في مكان القيادة إلا أكثر قليلا من قرنين في العصر الأخميني (550-331 ق.م) ،ثم عادت بلاد العراق بعد تلك الفترة الى مكانتها القيادية السابقة وذلك منذ بداية العصر السلوقي) ( ).ويستخلص الدكتور فريد الشافعي ثلاث معطيات جوهرية في فهم إشكالية التداخل بين الأرث الفارسي والعراقي وهي:
1. أن العمارة الأخمينية التي سبقت العهد الفارثي والتي وجدت أثارها في فارس هي من أصول مشتقة من التقاليد والأساليب الآشورية القديمة التي موطنها العراق.
2. إن العمارة الفارثية التي لم يعثر على أمثلة منها خارج أراضي العراق إلا ما ندر، متناثرا في الأجزاء الغربية من بلاد إيران المتاخمة للعراق.
3. إن الآثار الباقية من العمارة الساسانية تتركز بصفة خاصة في منطقة العراق ،بينما يوجد القليل منها في فارس بل معظم هذا القليل يقع متاخم للحدود العراقية( ) .
أن القصور الفارسية التي أرساها ملوك أعجبوا بالروائع التي شاهدوها في العراق ومصر وآسية الصغرى. وكانت هذه العمارة وليدة هوى الملوك وهوسهم بكل غريب ومبهر، وليس لتلك الطرز أصول في بلادهم ولاسيما في جوهرها أي خامة البناء التي تفرضها طبيعة أرضها، أو متطلبات العيش على هضبة فارس الجبلية . لذا فقد اندثرت عمارتها مع الاخمينيين . لكنه الى جانب هذه العمارة كان ثمة أخرى أقتبسها سكان البلد، ولازمتهم من منابع الحضارة في سومر ، على غرار الكلدانيين و الآشوريين ، حيث تعرفوا على المساكن المعقودة الصالحة لوقايتهم من حرارة الشمس المحرقة، و شيدوا ولا سيما في مقاطعات الأحواز (Susian) منازل ذات سقوف تحملها عوارض من جذوع النخيل ، وحصر من سعف النخيل أو الصفصاف ،حيث وضعت فوق غرف ضيقة، أشبه ما تكون بالممرات، كما في السنن البنائية العراقية( ).
و يذكر المؤرخ اليوناني (أسطرابون 61ق.م-15 م) في سياق وصفه للأحواز : ( لحماية المساكن من وهج القيظ ، كانت السقوف تغطى بذراع (50 سم) من التراب . وكان ثقل هذا التراب يفرض بناء جميع المنازل ضيقة مفرطة في الطول ، ولو كانت الغرف متسعة لاختنق ساكنوها ).ويذكر عالم الآثار الفرنسي (أرنست بابلون): (ولما كانت شروط البلاد المناخية، اليوم كما كانت عليه في الماضي ، فطريقة البناء الحالية هي الطريقة عينها، التي استعملها سكان إيران الأقدمون. ويصادف المسافر منازل تختلف باختلاف ثروة أصحابها، وقد علتها قباب وعقود وسطوح وفق المتطلبات المحلية. فمن الأكيد أن الإيرانيين الذين عاصروا الأخمينين عرفوا، العقد والقبة بعد جيرانهم على ضفاف دجلة). وهو ما ذهب إليه المستشرق (ديولافوا) الذي قال( نصادف اليوم عقودا معرشة، وعقودا مثلثة، في عقود كنائسنا القوطية في القرن الثالث عشر، وهي سيان مع عناصر الهندسة الاهوازية والبيزنطية)( ).وبذلك فلم يكن للفرس أي حضارة ذو قيمة قبل القرن السادس قبل الميلاد باعتراف الجميع وهو موعد متأخر مع التاريخ، و أصبح اليوم من بديهيات البحث العلمي.
وثمة حقيقة أن كثير من الحضارات العالمية تكون ذات صبغة عسكرية أكثر من كونها منتجة للفكر والعمارة ،فاليونانية مثلا كانت مثقفة كما هي الإسلامية،بينما الرومانية كانت سياسية وتجارية. والحال ينطبق على الدول الإيرانية التي ظهرت كقوة عسكرية تتطلع للانقضاض على العراق دائما، بسبب خصبة أو إمتلاكه محطات خط الحرير التاريخي ومفاتيح طرق الدنيا،وهو جوهر خلافهم المزمن مع الرومان.وهكذا كانت دول إيران سياسية وتجارية كذلك أكثر من كونها مثقفة تعتني بالتدوين وعمران المدن والعمارة والفنون. ويعلق على ذلك د.نجيب ميخائيل إبراهيم (تفوق الفرس في ميدان الحروب ولكن أعوزتهم الثقافة والحضارة التي كانت للشعوب التي غلبت على أمرها) ويقول في موضع أخر على نتائج الغزو الفارسي للعالم القديم (لقد دك الفرس أركان الحضارات في الشرق،و امتدت حروبهم من حدود الهند حتى البحر المتوسط،فزعزعوا من أسس الحياة الثقافية في البلاد التي حكموها،وقطعوا خيوط الحضارات الأصلية ومزقوها شر ممزق وقضوا على التطور الفني في كل مكان) ( ).
ولا بد أن نشير الى أن إيران كانت مثل الشام تسبغ خصوصية وموائمة على العناصر الراسخة القادمة من عهود وحضارات أقدم، حيث أن وفرة خامة الخشب الغابي في البيئات الشمالية من فارس، جعلها تستغله في تجسيد عناصر كانت أساسها من الآجر(الطابوق) كما الأعمدة في أصفهان وتبريز أو القباب في قزوين ونيسابور. مع إقرارنا أن الجنوب الإيراني مكث أمينا على العناصر الأولى وطيني الطرز بسبب شحة الغابات مثل العراق، وتجسد في مدائن شيراز وأزد وبستك.وبسبب وسع رقعة إيران الجغرافية. فشتان بين عمارة شماله البارد وجنوبه الإستوائي والشبه صحراوي. حيث نجد المساقط المتضامة ووسع تداول خامة الخشب في الشمال يقابلها مساقط منفتحة ومهواة وشيوع لخامة المدر ومنتجها وعناصرها لدى عمائر أهل الجنوب،تماما كما هو الفرق بين العمارة الآشورية والبابلية، أو عمارة الموصل والشمال العراقي عن بغداد والبصرة.
وجدير تلمس فضل فارس بمكوثها الحافظة الأمينة على أرث العراق حينما يتعرض للدمار و الكوارث. و تسثمر فارس فترات الإرتقاء الحضاري للعراق كما حدث إبان بابل الأولى ثم آشور وبابل الثانية، ثم الحقبة العباسية في الإسلام، لتكتسب الكثير،وتختزنها،ثم تشترها تباعا ليستفيد منها العراق ، بعد أن تبعث به الحضارة من جديد. وخير مثال على ذلك العمارة الصفوية التي عمت في القرنين السادس والسابع عشر، وأتسمت بخصوصية،وأنتجت أوابد ومعالم رائعة،كما في أصفهان، والتي نلمس مددها قد شمل العتبات المقدسة في العراق. وهنا نشير الى أن جل عناصر العمارة (الصفوية) هي عراقية المنشأ والروح، بيد أنها استرسلت ونأت قليلا عن الأصول حتى بدت غريبة ولاسيما لغير المختصين ، ومن جراء الاقتباس أصبحت تباعا(طراز) يطبق دون لبابة أو يضم عضوية تطورية في طياته، وتداعى أن يكون تقليد لعناصر موروثة.
وفي تحليلنا وتفكيكنا لعناصر ضريح الإمام موسي الكاظم بن جعفر الصادق (ع) في بغداد، والذي يعود تأريخه المتأخر الى العمارة الصفوية، ابتداءا من مساهمة إسماعيل الصفوي عام 914 هـ- 1508م حتى وبعد وفاته على يد طهماسب بعد العام 935 هـ- 1528م. حيث نجد أن مسقط البناء المربع الشكل، هو سمة تخطيطة جامعة لكل العتبات العراقية. ونجد أن المربع المقدس المحاط بالصحن المربع هي سنة بنائية أتبعها العراقيون منذ سومر عند بناء معابدهم لما لها من إيحاءات رمزية بالقسطاس والإستقرار. أما " المسقط المتناظر" في هيئة الضريح فقد ورد من أعراف محلية تطورت من بابل وسمت إبان الحقبة الساسانية بما يضفيه على المنشأ هيبة وجمال ومحاكاة للمخلوقات وتواشجها مع الروحانيات ، بالرغم من أن مجمع الروضتين الكاظميتين فقد تناظرة الأول عندما زيد له المسجد وألصق بجدار القبلة في توسعة إبان حقبة لاحقة.
وما السياج الخارجي أو الإيوانات المتكررة إيقاعا إلا عناصر موروثة وهو حل معماري ونجد أحسن أمثلته في إيوان (المدائن) وقبله في تبه كورا قرب كركوك الذي يعود الى منتصف الألف الرابع قبل الميلاد. وفي تحليلنا لهذا العنصر والحل الوظيفي الذي جوهره هيكلي، نجده قد استرسل من أعراف بنائية عراقية قديمة ،حيث وجدت في أقدم نماذجها في معابد عصر العبيد وظلت ملازمة لعناصر البناء في المعابد في مختلف الأدوار اللاحقة ، وكان العراقيون قد طبقوا مبدأ الطلعات والدخلات (Recesses & Buttresses)( ) على الحيطان الحاملة، الذي يعد ضرورة إنشائية ،بما يزيد من مقاومة الحائط الخارجي الصفيق حيال ظاهرة الإنبعاج التي تعاني منها حيطان الآجر السامقة.ونجد تلك الخصوصية التصميمية قد أسقطت في رسم المعبد الموجود بحجر تمثال ملك لكش الأكدي المعمار (كوديا Goudea) الذي يعود الى العام 2170 ق.م. وقد أسترسل هذا الحل تباعا حتى نجده وطأ العمارة الإسلامية ووجد في قصر الاخيضر أو في مسجد سامراء على شكل هيئات إنشائية نصف أسطوانية مصمته ،الغاية منها سند السياج الخارجي هيكليا،وهي في حقيقتها إسترسال وتطور من نفس مبدأ (الطلعات والدخلات) البنائي الموروث.
وفي سنة التطور ولغاية التوظيف ، نجد أن تلك الهيئات الساندة للحائط الخارجي قد كبرت، ثم أخذت شكلا مستطيلا منتظما عموديا على السياج على شكل حرف(U) المتكرر،ثم حول موضعه وفتحته من خارج البناء إلى داخله ،لترسم ملامح حل معماري جديد اقتضى تغطية ما بين الحائطين المتوازيين، بسقف مقبى أو إيوان بما أنتج حجرات تمتد على طابق أو طابقين بحسب الحاجة للصرحية البصرية، أو بمقتضى ضرورات وظيفية،وأمست تستخدم تلك الحجرات كفضاءات معمارية متعددة الأغراض, و طبق هذا الحل حتى في العمائر الدنيوية كالخانات والأسواق والقصور . وفي حالة المشهد الكاظمي اكتفى المعمار بطابق أرضي من الحجرات يسبقها رواق(طرمه) مغطى بنفس الإيوان،كون الإيوان أو القبو حل أمثل للفضاءات المستطيلة . وترك السطح هنا فارغا وبسياج سامق لأغراض جمالية وصرحية . و يمكن أن يكون مردود ذلك السياج الإيقاعي غير وظيفته وجماليته أنه يفيد في العزل الصوتي بين هرج السوق والميدان الخارجي ومرجه وبين الصحن الداخلي ،الذي يؤمه العامة للاسترخاء والزيارة الروحانية.وهنا نرصد فرز وإستثناء لحجم وشكل المداخل،كي تعلن عن ذاتها ومواضعها وبهرج المعالجات الفنية في كنفها . وعادة ما تقع تلك المداخل بشكل محوري أو في مواقع التلاشي البصري لنهايات الطرق المنطلقة من هالة المعلم نحو أرباض المدينة. ولم تنأى الهواجس الغيبية عن العدد(سبعة مداخل) لما لهذا العدد من أسرار في العقلية الشعبية،وكذلك بما تكنى به من أسماء موحية.
و انتقلت تلك الحلول الهيكلية تباعا من هيئتها الوظيفية المجردة إلى الجانب الجمالي ،وجسدتها عمليات التغشية للسطوح بالكربلائي الملون ،وهو من ثوابت المعالجات الفنية في العمارة العراقية وشوطه يمتد منذ المعبد الأبيض أو بوابة عشتار.وعادة مايراد منه تشديد العناصر الهيكلية بصريا ولاسيما الإيوانات، بما يخلق إيقاعا تراتبيا متناغما مع روحانية المكان. وقد أضيفت للبناء ولاسيما في الإيوانات حطات من المقرنصات "الواهية" في جنباتها ،بنوعيه المعرق والمتدلي الذي ميز عمارة الحقبة الصفوية في إيران والعراق ،والذي دعي "الفارسي الصفوي" ،وهو في حقيقته فذلكة وردت من ثوابت العمارة المحلية ، جوهرها تطويع أكبر لخامة الآجر.
و في إضفاء البهرج على المكان ولاسيما الفضاءات الداخلية للضريح غاية تصب في المقاصد النفسية والإبهار والرهبة وأهمية المكان، التي يرام من ورائها تكريس قدسيته. وقد وطأت تلك العناصر في بعض معالجاتها حالة من المبالغات الجمالية. ونرصد هنا أن تلك المقرنصات قد بنيت بهيئة "معلقة" أي أنها لم تكن ناتجة من حلول إنشائية ،وهذه في حقيقتها إحدى نقاط ضعف العمارة "الصفوية" . ونجدها هنا أنها أخذت شكلا حائرا بين الزخرفة والإنشاء ،التي لم تكن موفقة.
أما في الجانب الفني فأن الخزف المزجج الكربلائي ، الصقيل الملمس هو الغالب ، وهنا نشير الى تفاضل التسميات بحسب أسبقيتها التاريخية،حيث يطلق البعض كلمة قاشاني الذي يسمى في المغرب الإسلامي وإسبانيا (الزليج) . والقاشاني (الكاشي) واردة من أسم مدينة كاشان التي ينسب لها ، وهي في حقيقتها صورة من النتاج العراقي السومري ثم البابلي ثم السامرائي ثم الكربلائي لذا نفضل تداول المصطلح الأخير فهو أقرب للأصل البابلي، كربلاء من(كورو-بابل) أي قرى بابل.وأمسى بديهيا حقيقة أن الخزف ذو البريق المعدني من الحقبة العباسية كان أصله سامراء وبغداد.وهنا جدير أن نشير الى أن ثمة غضاضة ووهن تختفي وراء المبالغة في إضفاء الألوان والزخرف والبهرج وحتى الثراء المفتعل مثلما التكسية بالذهب كما في قباب العتبات المقدسة ،والتي ظهرت صريحة ومتميزة في العمارة الإيرانية ،ونعتقدها واردة من التقاليد الآسيوية ولاسيما من البوذية والهندوسية، بالرغم من أن عرف تكسية القباب بالمعدن تقليد قديم، لكن إستعمال المعدن النفيس لم يرد سابقا.
ويبدوا الأمر لغير المختصين ثراء،بينما حقيقته سقم في المضمون أضطر المعمار الإيراني أن يعوضه بالشكل وبهرج اللون، وهو إنعكاس نفسي(سيكولوجي) متعدد الوجود، و يقره علم الجمال الذي يبحث في حقيقة أن المضمون يخلق الشكل وأن أي نقص فيه يدفع الشكل مجبرا الى تعويضه حتى بمبتذل الحلول وإزدحام وتراكم العناصر ومنها الزخرفية . وهنا جدير أن نشير الى أن ملوية سامراء التي مثلت تكاملا فذا بين المضمون الوظيفي والرمزية الشكلية، لم تحتاج لتزويق لوني أو إضفاء وتلبيس بجص أو خزف أو أي بهرج.
نقر هنا حقيقة أن الطراز حينما يتقادم عليه الزمن ويفقد عضويته التطورية ويطفق البناءون يقلدوه برتابه وتكرار(monotonous)، فأنه يطأ يوما حالة من السأم الذي يولد رفض ومقت لدى الباحثين عن الصدق والصراحة والمباشرة ،بما يدفعهم للبحث عن الجديد الصريح والمباشر. وهكذا تتولد النهضات من صلب المتناقضات والهزال،ومقصدها وغايتها بحث عن أخلاقيات تشرأب الى الفطرة الأولى، وتتجدد العمارة من وسط ركام الابتذال والتكرار في الطرز بعد أن يركد دون حراك. ودليلنا في تبدل الطرز الغربية من رومانسك(شبيه بالروماني) الى قوطي ثم باروك ثم قوطي جديد وكلاسيكي وكولونيالي وكلاسيكي جديد، حتى جعل للحداثة مبرر في الولادة ، حينما أعتمدت قي بواكيرها المضمون " الأخلاقي" في الهيكل والوظيفة والجدوى والإقتصاد، على حساب الزخرف والحشو وإنطباق حوافر الطرز على سابقتها.لكنها شاخت وهي شابة فتدفق مابعدها من طرز.
ونشير فيما نخلص إليه أن الفكر القومي الغربي قد روج الى أن "الساميون والحاميون" مستهلكو حضارة ، والآريون منتجين لها. وبرغم عدم إيماننا بتلك التقاسيم ، فأن علم الحفريات تسنى له أن يدحضها ويقلبها رأسا على عقب،وأثبت بالدليل الزمني الدامغ بأن العراق"السامي" كان مهد ومنتج الحضارات وأن فارس" الآرية" مستهلكة ومقتبسة ومقتفية لها. ومن الطريف أن الفرقة الحفرية الألمانية التي نقبت في بابل وسرقت كنوزها ولاسيما بوابة عشتار عام 1897 بقيادة المعمار (روبرت كولدوي Robert Johann Koldewey )(1855-1925) ادعت في حينها وبسبب سطوة النظرية العرقية بأنهم جاءوا يبحثون عن الاقتباسات العراقية من عمارة برسيبوليس في إيران، و تبين لاحقا، أن مجمل عمارة وفنون برسيبوليس ليس إلا مستنسخ من العمائر والفنون العراقية التي سبقتها بألفي عام على الأقل.
ومن أصحابنا اليوم يتودد فارس وغيرها ويؤمن بأحجية"الآرايين" التي عفى عليها الزمن وأمست أسطورة لاسند علمي تتكئ عليه، ومدعاة تفكه من طرف الغربيين أنفسهم الذين أنتجوها وغررونا بها،ولم تعد اللغة سندها الرصين، بعدما توسعت المدارك والإتصال وبحوث الألسنة وتيقن الجميع من أن ثمة تداخل بين كل لغات البشر الثمانية آلاف، وكأنها توحي حقا أنبثاقها من أسطورة برج بابل . أما تكريس تلك الأحجية اليوم فنعزية "لغاية في نفس يعقوب" أو بكونه مسوغ مسيس يتماهى مع سكرة الوعي والأمية الثقافية المستشرية بين الجموع.
لقد تبنت القوى القومية المؤمنة بأحجية تقاسيم(سام وحام ويافث) التوراتية الواهية، بأن العراق إلا محض تركيبة مصطنعة أوجدها الإنكليز ومنتج مخلص وبار لـ(سايكس- بيكو). وبحسب ذلك أسقط النتاج الدهري العراقي على أقواميات واهية ، قزمت جميعها لتكافئ بالنتيجة قرون فارسية شحيحة ودخالة على التاريخ. و انطلى الأمر ردحا من الزمان على غير المطلعين والمستنسخين من كتب بعض المستشرقين والمستغربين دون وعي أو وعي خبيث. وهنا نشير الى ثمة تعميه لمستها في مقالات كنهها أفراط أو تفريط،فهي أما قومية متعصبة أو ساذجة سطحية كما هو الحال في مقال كتبه السيد (هاشم البكاء) نشره في جريدة كيهان(الوفاق) الإيرانية) ،وسرد به تناقضا وغمزا مبطنا وذكر: ( كانت الأضرحة في إيران اعم منها في سائر الأقطار الإسلامية، و لا غرو فقد كان الإيرانيون و لا يزالون يعظمون أولياء الله و يعنون بذكراهم. و كانت الأضرحة ابنيه مربعة و ذات قبة تشيد للأولياء و الصالحين، مما يكسبها طابعاً دينياً، بينما كان الأمراء و الأميرات يدفنون في مقابر علي شكل أبراج. كما في قبر الست زبيدة في بغداد، و هذا ما يعطي الدليل الدامغ علي ولوج الأيدي المعمارية في بناء عمارة بغداد. أما الأضرحة ذات القباب فلعل المعماريين تأثروا في بنائها بالعمارة الهلينية و المسيحية الشرقية، كما اخذ الأمويون قبة الصخرة في بيت المقدس و العباسيون القبة التي لا تزال في سامراء و التي يظن إنها مدفن الخلفاء العباسيين المنتصر و المعتز و المقتدر. و من اقدم هذه الأضرحة الإيرانية ضريح إسماعيل بن احمد الساماني (907 م)، و ضريح السلطان سنجر السلجوقي (1157 م) )( ).
وفي تحليلنا للنص نجد أن المغالطة الأولى تكمن في أن ثمة تبجيل للقبور ورد حتى عند الشعوب الأولى ومنها ما عبدت أسلافها في العراق والشام منذ سومر،ولمسناه عند الهنود مسلمين وغيرهم أو عن أهل المغرب الإسلامي وهم على المذهب المالكي، حتى وجدنا من خلال عملنا في الجزائر أن ثمة ضريح رمزي يدعى (مرابط) يقبع على تلال البلد تنسب للصوفي البغدادي عبدالقادر الكيلاني(سيدي الجيلالي) ليسبغ البركة على مزارعهم ويبعد عنها اللصوص، بالرغم من أن الرجل لم يطأ أراضيهم. والمغالطة الثانية تتعلق بضريح (السيدة زبيدة) وهي زمردة خاتون زوجة الخليفة المستضي بالله وأم الخليفة الناصر العباسي ويعود للعام 1201م، ويدعى(الميل) في الأعراف البنائية في العراق ،وهو نوع من القباب تمخض عن تلاقح بين القبة وعنصر المقرنص، وهو عنصر عراقي لا دحض فيه وثمة أمثلة كثيرة عليه،وأنتشر في سوريا(دمشق في قبر نور الدين الأتابكي) وإيران(اصفهان) وذلك إبان سطوة السلاجقة على الدولة العباسية،ونفذ بالطابوق،ووجد طريقه للتجسيد في ضريح الحسن البصري مؤسس التصوف في الإسلام، في جبانة البصرة عام 1743 بعد أن هدمه ناصر شاه القجري في الوقت الذي أختفى هذا العرف البنائي في إيران منذ قرون خلت.أما القباب التي حبذ البكاء أن يبكي على أصلها (الهيليني)اليوناني أو البيزنطي، ولم يتجشم البحث عن أصلها العراقي الشامي و فضل وأستأنس أن ينسبها الى عوالم بعيدة ومقتبسة. والأمر برمته يمت لخطاب أملاه المستشرقون وقلده المستغربون ممن له هوى "فارسي" أو تشتيتي كما هو (أحمد أمين) ورهطه. والأمر الأخير أن الأضرحة المبنية في سامراء ونقصد(القبة الصليبية) بنيت بحدود العام 840م ،وهي تسبق كثيرا قبر الساماني في بخارى، التي تنتمي الى مدرسة أواسط أسيا أو خوارزم وليس فارس البته، لكن السيد البكاء أراد أن يشملها و العراق لفارس.وتاريخ هذا القبر الذي أنشئ لأكثر من فرد من العائلة السامانية ، يعتقد أنه أنشئ وقت الأمير نصر الساماني في الفترة من 914 إلى 943 م أي قرن بعد سامراء، وهو محض معلم آجري متناسب ومتجانس وأستعمل ريازة الآجر العراقية في ثناياه.
ولانريد أن نعرج على طاق ما يدعوه(كسرى) فهو أحجية أخرى، فلم يبنى من طين جلب من هضبة فارس،وتشير كل الدلائل النقلية والعقلية أن القبو(الطاق) البرميلي سنة بنائية طينية عراقية، سبقت الطاق بثلاثة آلاف عام،ولم تتولد حاجة لفارس في تبنيه بسبب البيئة الصخرية والغابية، وكان من مقتضيات عمارة الطين في العراق وفرضته ضرورات التسقيف بوافر الخامات.
وبذلك فأن مفهوم (العمارة الصفوية) أو عموما العمارة الفارسية هي محض تطور لعناصر سابقة لها في السهل العراقي ، ونقر أن الشعوب تقتبس من بعضها،وأن الأفكار مثل مداميك الحجر تبنى فوق بعضها ولا يوجد من تنزل عليه الحضارة بمظلة من السماء على عين غرة، ولا أحتكار لعرق في الحضارة دون غيره، والإنسان نتاج ظروفه ومحصلة بناءه التراتبي،وأن أي إنسان يمكنه بناء حضارة لو توفرت له شروطها.
لقد بنت الفرس ديارها بالطوب كما في أصفهان وماهان وتبريز حيث نرى مدن تبنى باللآجر(الطابوق) وتحيطها شعاب الجبال الصخرية. وقد أسترسل الأمر في العمارة الإسلامية الذي نقر بأن الإيرانيون اثبتوا فيها حنكة ومهارة ولاسيما في العهود السامانية والغزنوية والبويهية ثم الإيلخانية و التيمورية ،ثم النفس الأخير في الحقبة الصفوية. ونقف هنا على حقيقة أن ثمة حالة دوران للطرز المعمارية التي نشأت ثم اضمحلت ثم بعثت من جديد بين العراق وإيران بحيث أن الأصل كان عراقيا والاستعارة كانت إيرانية بالتقادم الزمني ،ثم استطاعتا كل من العراق وإيران أن يحافظا على تلك الأمانة. ويعود الفضل لفارس أن تنشر تلك الأمانة في أصقاع الدنيا فوصلت عمارة العراق إلى أسيا الوسطى والصين والتبت و بلاد الأفغان و الهند المغولية وكان تتويجها دون منازع في عمارة تاج محل.
وبعيدا عن اللاعلمية المستشرية ، فأن المدرسة المعمارية العراقية،هي رافد فاعل ومهيمن في صلب العمارة الإسلامية و استطاعت أن تظهر براعاتها في الحقبة العباسية التي أنشأها الإسلام في العراق وتسنى لها في رحلتها مع الإقتباس أن توظف حتى في أقاصي الأرض، و تجسدت حتى في طليطلة وأنسابت بلطف وحنية نحو الطراز القوطي الأوربي الذي تعود أقدم جذوره الى مسجد صغير مبني بالطابوق يدعى (باب المردوم) يقع على تخوم بوابة المدينة الإسلامية،والذي بناه المعمار الأندلسي موسى بن علي عام 999م. ونجد شوط التأثير العراقي من خلال تلك الخامة قد أمتد في عمائر كل الشعوب تقريبا، وطغى طابعها على حتى من بنى بالحجر في كل تاريخه ، ولاسيما في أوربا كما في بريطانيا والمانيا وأسكندنافيا والبلقان ،ناهيك عن حظوته في مدارس البحر المتوسط ونجده في إسبانيا الإسلامية.وساهمت كل الشعوب في إثراء تداول تلك الخامة من خلال نفحات التقانة في الإنشاء والعمارة وسنيع اللمسات الفنية من شكلية ولونية وملمسية،وكلها تشرأب لجذرها الأول في طين الرافدين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد زيارة بوتين للصين.. هل سيتحقق حلم عالم متعدد الأقطاب؟


.. كيربي: لن نؤيد عملية عسكرية إسرائيلية في رفح وما يحدث عمليات




.. طلاب جامعة كامبريدج يرفضون التحدث إلى وزيرة الداخلية البريطا


.. وزيرة بريطانية سابقة تحاول استفزاز الطلبة المتضامنين مع غزة




.. استمرار المظاهرات في جورجيا رفضا لقانون العملاء الأجانب